نسمع كثيرًا كلمات مثل: يعجز اللسان عن التعبير، أو الكلمات لا تعبّر عمّا يجول في خاطري، أو الموقف جعلني غير قادر على الكلام، وغيرها من التعابير والكنايات التي تعبّر عن شدّة الصدمة، أو شدّة الإعجاب. ولكن لأوّل مرّة في حياتي أحسّ بمعنى هذه الكلمات، لأوّل مرّة أحسّ بقوّة الفقد، ولأوّل مرة أحسّ بقوّة الألم. الألم الذي تحسّ معه أنّك غير قادر على التنفّس، الألم الذي تحسّ معه بأنّك غير قادر على الردّ. ألمٌ يمنعك حتّى من سماع كلمات المواساة؛ لأنّ كلمات المواساة غير كافية. لم تكن خالتي التي فارقت الحياة منذ أيّام شخصًا عاديًّا. كانت تمثل كل القيم الجميلة في حياتي، كانت هي الحبّ والحنان والابتسامة والاحتواء والأمان. رغم فقدي لوالديّ في سنّ صغيرة إلّا إنّني لم أشعر يومًا باليتم، وذلك لأنّها ربّتني واحتوتني وعوّضتني عن كلّ فقد وألم. هي تمثّل قيمة الحبّ غير المشروط، لا تريد من وراء محبّتها أيّ مقابل. لا أتذكّر أنّها في يوم من الأيّام آذت أحدًا. كانت حنونة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، حنونة حتى على الحيوانات، وكانت تعشق القطط بشكل كبير.
كلّ شيء جميل في حياتي تعلّمته منها، كلّ قيمة جميلة وكلّ فضيلة انغرست فيّ كانت لها اليد الطولى فيها. كانت هي الحائط والسدّ المنيع أمام كلّ عواصف الحياة. كنت أعلم أنّ هذا اليوم قادم لا محالة، ولكنّني كنت أعيش في حالة نكران، وأمنّى نفسي بأنّها ستكون أفضل غدًا، بأنّها ستتحسّن وترجع أفضل ممّا كانت، كنت أرى ما فعله كبر السن من وهن وضعف، وقلّة تركيز، وبطء في الكلام، وعدم رغبة في الخروج. ولكنّي كنت أقول: تكفي رؤيتي لها عند دخولي وخروجي من البيت. تعرضت لأكثر من جلطة، وتسارع في ضربات القلب، ولكنّها كانت تعود؛ لأنها كانت ترى دموعي وملامحي التي لا تريد فراقها، كانت تتمسك بالحياة من أجلي، ولكن عندما دقّت الساعة، وحان الأجل، أراد الله أن يبعدني عنها، ربّما رحمة بي، وحتى لا أشهد الموقف، ولا أرى فراق الروح للجسد. الموت حق وكلنا راحلون ولكنّ الفراق صعب. نتناسى ونمثل النسيان أمام الناس والمعزّين، ولكن في وحدتنا يتفاقم الألم ونحس بالاختناق وكأنّ الدموع غير كافية، وكأنّ الحزن غير كاف، وكأنّ الكلمات لا تعبّر، وكأنّ هناك فراغًا في الروح لا يملؤه شيء. الشعور غريب، والمشاعر متضاربة ما بين حزن وخوف وبكاء ورجاء. بركان من المشاعر، دموع تتساقط دون سبب، ثمّ صمت، ثمّ نتظاهر بأنّ الأمور بخير، ولكنّها ليست كذلك، ولن تكون كما كانت، فلقد غابت شمسي، وانطفأ شيء داخلي إلى الأبد.
ربّما أحسّت بأنّها أدّت الرسالة التي من أجلها خُلقت، وحان وقت الرحيل، ولا نقول إلّا إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أسأل الله أن يرحمك، وأن يجمعني معك في الجنة، وأن يجعل ما بذلتِه من جهد وتعب في تربية إخوانك وأخواتك، وتربيتي، شفيعًا لك يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلّا من أتى الله بقلب سليم. وإلى ذلك الحين سأحاول مواصلة الرحلة دون وجودك إلى أن يحين الأجل.