مؤتمر الجمعية الفلسفية وبالتعاون مع معهد بحثي سويدي نورت سماء مصر بقمر اسمه " نصر حامد أبو زيد " ، ورغم أن سيادته غادر مصر كنهاية لفضيحة ضخمة بدأت أكاديمية وحولها دراويش العلمانية إلى معركة سياسية تباكوا فيها ولطموا الخدود على هذا المفكر الكبير الذي لم يرتكب من خطأ سوى الردة عن الإسلام وتزييف المعلومات التاريخية في بحث علمي تقدم به إلى جامعة القاهرة للترقية ، وهي كما يرى القارئ الكريم " هنات هينات " على طريقة مؤرخي العصر المملوكي . المصيبة أن من دعوا نصر لم يكفهم ما في دعوته من إساءة حتى للعلم نفسه فراحوا يغدقون عليه من الثناء ما يثير الدهشة ، وربما الريبة !! . اعترافات حسن حنفي !!
قبل سبعة أعوام اكتشفت وأعدت نشر رواية " اعترافات حافظ نجيب " للمغامر المصري المعروف حافظ نجيب والتي أخذ عنها المسلسل التلفزيوني " فارس بلا جواد " ومرة أخرى أجد نفسي أمام اعترافات لا أستطيع أن أتجاهلها ربما كان الفرق الرئيس أن اعترافات حافظ نجيب مشوقة أما اعترافات حسن حنفي فصادمة وبلا قيمة - تقريبا - على كل المستويات . وهذه الاعترافات هي الفاجعة الأكبر في هذه " المهزلة الأكاديمية " وقد نقلتها جريدة " أخبار الأدب " في عدد 28 / 12 / 2003 وجاء فيها :
" وكان المتحدث الثالث هو الدكتور حسن حنفي الذي حاول أن يقدم بعض المداخل لفهم مشروع نصر . اعتبر حنفي نصر أبو زيد بمثابة اسبينوزا . قال أشياء كنت أتمنى أن أقولها ولكن ربما استخدامي لآليات التخفي حال بين فهم ما أردت أن أقول . نحن مجموعة من الأفراد لو اصطادونا لتم تصفيتنا واحدا واحدا ، ولذلك أرى أن أفضل وسيلة للمواجهة هي استخدام أسلوب حرب العصابات . اضرب واجري . ازرع قنابل موقوتة في أماكن متعددة تنفجر وقتما تنفجر ليس المهم هو الوقت . المهم أن تغير الواقع والفكر . ولذلك يسمونني ( المفكر الزئبقي ) . لا أحد يستطيع أن يمسك علي شيئا . الجماعات الإسلامية تراني ماركسي . الشيوعيون يرون أني أصولي . الحكومة تتعامل على أنني شيوعي إخواني . أي أن حسن حنفي يراهن هنا على الزمن الذي سيحد في تقديره ما الذي سيبقى وما الذي سيأفل . ولذلك فهو يفضل ألا نتجه إلى عامة الناس لأنهم ليسوا معنا بل إلى الخاصة سواء في الجامعة أو في المعهد السويدي . "
" والزمن الذي يراهن عليه حنفي يجعله يتساءل : لماذا أنا متعجل .. .. وكيف أقاوم 1000 عام من تثبيت السلطة . المداخل لفهم مشروع أبو زيد - كما يرى حنفي تتمثل في فهم التأويل . فالتأويل يراه وسيلة للتحرر من سلطة النص . وأصحاب المصلحة يريدون تثبيت النص لأنهم يريدون تثبيت السلطة . لأن تثبيت النص هو تثبيت السلطة بمفهومها العام سواء أكانت سلطة الأب أو الحاكم أو حتى صدام حسين !! "
" ويعتبر حنفي أن كتاب " الإمام الشافعي " لنصر هو أهم كتبه الذي يفكك السلطة لأن الشافعي ألغى الاجتهاد لصالح السلطة القائمة . وفهم هذا الكتاب يعد فهما لمجمل ما كتب أبو زيد . كما اعتبر حنفي أن كثيرا من السجالات الثقافية هي صراع على السلطة ، فلا فرق - مثلا - في بنية الخطاب بين العلمانيين والسلفيين في الجزائر ، إنما الأمر كله صراع على السلطة !!! " انتهى النص وعلامات التعجب منقولة كما نشرتها " أخبار الأدب " .
ملاحظات وردود
وأول الملاحظات على كلام حسن حنفي تشبيهه نصر أبو زيد فالفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ اسبينوزا وهو ما سنعود إليه في نهاية المقال . أما المجموعة التي يتكلم عنها فتبدو كما لو كانت تنظيما إرهابيا سريا مغلقا يؤمن أصحابه أنهم " الناجون من النار " بالمعنى الفلسفي وهم يعتمدون أسلوب حرب العصابات طبعا ليس ضد أفراد بل ضد أفكار . وتكتمل المأساة أو الملهاة عندما يكشف حنفي عن لقبه الذي يبدو أن إطلاقه عليه لا يسبب له أي إحساس سلبي " المفكر الزئبقي " رغم أنه وصف يقطع بأنه يفتقر إلى الشجاعة التي يحتاج إليها مفكر يريد تغيير الواقع ، ويبدو أن أكثر الكتاب قدرة على فهم هذه الاستراتيجية التخريبية كان المفكر الراحل محمد جلال كشك الذي قال تعقيبا على قضية نصر أبو زيد إن : " التاريخ لا تصنعه وشايات مجهولي الهوية " ، فماذا يبقى للمتفلسف الكبير حسن وتابعه نصر إذا كانا غير قادرين على مخاطبة الناس إلا بآليات التخفي وزرع القنابل ، وإذا كانا - ومعهما أعضاء هذا التنظيم السري الفلسفي - يستخدمون كل هذه المراوغة فلماذا يعيبان - ومعهما دراويش العلمانيين - على الكتاب إن فتشوا وراء سطور ما يكتبون ؟
ثاني الملاحظات أن سيادته رغم كل ما يطنطن به من كلام عن العقل والحرية و.. .. لا يخجل من الدعوة للاتجاه للخاصة لا لعامة الناس لأنهم ليسوا معهم ، وهو لا يقول لماذا لا يقف العامة معهم لكنه يتصرف كأشد النخب السياسية الاستبدادية في كراهيتها للناس وانصرافها عنهم ، وحتى لا يكون هناك مجال لسوء الفم ، فسيادته لا يقصد بذلك نخبوية القضايا الفلسفية وصعوبتها بالنسبة للعامة بل يتحدث بوضوح عن أن الأمر هو في النهاية صراع على السلطة ينبغي إبعاد الجماهير عنه ، يعني بالعربي " ملعون أبو الشعوب هذه الأوطان ملك للنخب وحسب " !!!!
نكتة السلطة والنص !
المتفلسف الهمام لا يكتفي باستعراض قدراته الزئبقية بل يضيف إليها قدرة أخرى على القدرة على التنكيت فيلقى نكتة " بايخة " لكن من العيار الثقيل وهي أن التأويل وسيلة للتحرر من سلطة النص وهذا غير صحيح إلا في إطار الفكر الربوبي الذي يقر - لفظيا - بالإيمان بوجود الله ويرفض فكرة الوحي وهذه طبعته الغربية التي لا يستخدم أصحابها آليات التخفي ، بينما في طبعته العربية " الشجاعة " يقر - لفظيا - بوجود الإله وصحة الوحي ثم يتخذ مساحة التأويل متكأ لتفريغ الشريعة من معناها وجعلها متغيرا قابلا للنقد والنقض .
وهو ينتقل من ذلك إلى القول بأن " تثبيت النص " هدفه تثبيت السلطة ثم يشير إلى من يسميهم " أصحاب المصلحة " في تثبيت النص ، رغم أن القاصي والداني يعلم أن القول بثبات النص الديني وإطلاقه تتبناه تيارات لم يكن نصيبها من السلطة إلا الانتقال من المعتقل للمنفى ولم يذوقوا بسبب قولهم هذا طعم السلطة في العالم العربي .
يأتي بعد ذلك امتداحه المجاني لكتاب نصر أبو زيد " الإمام الشافعي وتأسيس الأيدلوجية الوسطية " وهو امتداح لا يطعن في مصداقية كل ما يرفعه دراويش العلمانية من شعارات التجرد من الهوى واحترام العقل والمنهج العلمي ، وهذا الكتاب كله مبني على فكرة مركزية هي أن الشافعي كان عروبيا وتعاون مع الأمويين على عكس أستاذه الإمام مالك الذي أفتى ببطلان طلاق المكره وبالتالي بطلان بيعة المكره بل إنه يؤكد أن الشافعي سعى إلى العمل مع الأمويين وروى في الكتاب رواية تفصيلية لكيفية سعيه هذا . أما حقائق التاريخ فهي :
1 - أن الشافعي ولد عام 150 هــ والدولة الأموية سقطت عام 132 هــ أي أنه كان يجب أن يولد قبل هذا التاريخ بأربعين عاما على الأقل حتى يصل إلى السن التي يتعاون فيها معهم !!!!! وتتجاوز خطورة هذا الخطأ كونه مجرد خطا في إثبات واقعة فالكتاب كله مؤسس على هذه الأكذوبة وبسقوطها يسقط كله . أولا لأن الخلافة التي عاصرها الشافعي كانت عباسية ولم يكن ولاؤوها للعنصر العربي على الإطلاق ، وفي إطار المنهج الزئبقي الذي يتبناه هذا التنظيم السري الفلسفي تجاهل أبو زيد أن الشافعي تعرض للقمع على يد هذا النظام السياسي أكثر من مرة وبالتالي لم يصادر الاجتهاد لحسابه ولا يحزنون .
وهو لا يكتفي بذلك بل يبالغ في التبجح والتزييف ليقول إن الشافعي اتخذ موقفا سلبيا من الخليفة العباسي المأمون لأنه انحاز إلى المعتزلة بينما الأمام الشافعي حقيقة الأمر أن المأمون قرر ذلك بعد وفاة الإمام الشافعي بأربعة عشر عاما !! . وفي كتابنا " الإسلاميون والعلمانيون من الحوار إلى الحرب " مناقشة ضافية لهذا الكتاب لا يتسع المقام لإيراد تفاصيلها .
فهل يبقى في هذا الكتاب الملئ بالمخازي الأكاديمية ما يستحق المدح ؟
نعم هو صراع على السلطة
ويقر حسن حنفي بأن الكثير من السجالات الثقافية في العالم العربي هي في حقيقتها صراع على السلطة رغم أن رموز هذا التنظيم السري قد ذبحوا خصومهم من الإسلاميين مرات بسكين التسييس فهل هو حلال لهم وحرام على خصومهم ؟ . وننتقل من المتبوع للتابع ، يقول نصر أبو زيد والنص أيضا من عدد أخبار الأدب المشار إليه :
" يعتبر نصر أن الدين عنصر مؤسس من عناصر النهضة ، لكنه ليس شرط النهضة ولا يمكن لأي مشروع نهضة أن يتجاهل الدين . لكن يظل السؤال أي دين ؟! بمعنى أي فهم للدين ؟ هل هو الدين الذي صنعته المؤسسات وتطور من الإيمان إلى العقائد إلى الدوجما ؟ ! ، وأضاف أبو زيد : الخطر أن المؤسسات تختزل الدين في الحلال والحرام لكن الدين معطى ثقافي حي وفاعل . "
وبعد حديث عن الدين في الخبرة الغربية يعود للتساؤل :
" ولكن مرة أخرى أي دين ؟ ! . هل هو الدين الرسمي أم الدين الشعبي ؟ ! هل الدين الشعبي كفر ؟ محمد عبده ورشيد رضا قالوا إن الفلاحين الذين يتبركون بالأولياء ويزورون الأضرحة هم عبدة أوثان . هل هم كذلك فعلا أم أننا أمام تأويل اجتماعي للدين ؟ ففي العصر الذي لم يكن الفلاح يستطيع الفلاح الكلام مع العمدة ويحتاج إلى وسيط بالتأكيد فإنه يحتاج إلى وسيط بينه وبين الله . المرعب هو استخدام الدولة للدين في مشروعها . فتكون علمانية وهي تحارب الدين ودينية وهي المعارضة بما فيها المعارضة الإسلامية . "
وبعد كلام مراوغ عن التأويل يقول تعقيبا على كلام حسن حنفي :
" أنا أكتب للخاصة .. فما الذي أدخل العامة في هذا الصراع ؟ الذي كفرني وكفر الدكتور حسن حنفي وخليل عبد الكريم هم علماء للأسف وليس عامة . وأنا حين قدمت أعمالي للترقية لم أقدمها إلى العامة بل إلى الخاصة . لكن الخاصة هي التي ألبت علي العامة وحرضتها في إطار صراع على سلطة المعرفة . هذا رغم أني أؤمن بديموقراطية المعرفة وبأنه لن يتم تغيير بصراع الخاصة مع الخاصة . لكن هناك من كان يقول علانية نحن لا يهمنا تفريق نصر أبو زيد عن زوجته . نحن نريد أن نطرده من الجامعة هم يعرفون أن هذا مركز تأثيري وهنا الصراع . " انتهى النص .
الكهنوت المعرفي
بداية يتبرع نصر تبرعا سخيا بالإقرار بأن الدين عنصر مؤسس من عناصر النهضة مستشهدا بالتجربة الغربية على نحو نرجح معه أنه أدرك أهمية الدين في المنفى حيث رأى استحالة الفصل التام بين الدين والحياة ولكنه يتساءل : أي دين ؟ ثم يصف لنا أحدث المنتجات الفلسفية من الأديان وأخطرها كما يرى سيادته لا فض فوه الدين الذي تطور من الإيمان إلى العقائد إلى الدوجما ، بينما الدين معطى ثقافي وهو مفهوم ربوبي لا يقول به إلا شخص يؤمن بالله ويرفض الوحي السماوي ويرى العقل قادرا بمفرده على إنتاج المنظومات القيمية كافة ( وطبعا نشكر حسن حنفي على المساعدة الكبيرة التي قدمتها لنا اعترافاته بحيث أمكننا فهم ما وراء الأفكار الزئبقية التي تستخدم الديباجات الدينية وتختفي وراءها ) .
وهناك إلى جانب الدين الرسمي دين شعبي يعجب المتفلسف المنفي هو الدين الشعبي ، وهو يرى أن تصور العامة وجود واسطة بين الله والناس ممن يسمونهم الأولياء تأويل اجتماعي للدين !!!! فأي عاقل في العالم يمكن أن يفهم أن يكون أناس يدعون أن مهمتهم الأولى في الحياة القضاء على سلطة الكهنوت كل كهنوت يتصالحون مع أحط صور الممارسات الكهنوتية وأشدها تخلفا ؟ !! وإذا كانت العقيدة نفسها تقبل إعادة التأويل فكيف يكون للدين سياج يحدد من هو داخله ومن هو خارجه ؟
وبقدر فزع نصر من استخدام الدولة للدين وهو أمر أقره وأدينه كان ينبغي أن يفزع من استخدامه للعلمانية وأن يفزع أكثر من ممارسات مثقفين يوصفون بأنهم علمانيون يعتبرون الدفاع عن الأوضاع السياسية القائمة مع ما تنطوي عليه من إساءات فاحشة لكل قيمة إنسانية خوفا من تغيير يأتي بالإسلاميين ، هؤلاء الذين يبررون القهر والفساد وكثير منهم أعضاء في التنظيم السري الفلسفي الذي ينتمي إليه .
وطبعا لم يختلف نصر عن حسن إلا قليلا فهو ينظر باستغراب لدخول العامة في الصراع رغم قناعته بأن الصراع بين صفوف النخبة لن يأتي بالتغيير ، لكنه غاضب من النخبويين الذين يكسرون قواعد اللعبة ويحرضون العامة عليه . وهو يرى ذلك صراعا على " سلطة المعرفة " .. .. يا نهار اسود يا نصر .. سلطة المعرفة . الكل إذن يرفع شعار " إحنا دافنينه سوا " ، فلا القضية العلم ولا العقل ولا الحرية ولا التجرد ، الكل يبحث عن الكيفية التي بها يغتصب حق إملاء قناعاته على الآخرين ، لعبة انقلابية يعني ، لكن بأدوات فلسفية منمقة ، فأنت تريد أن تكون " شيخ عامود " ولكن في الحرم الجامعي وهو ما يؤكده قولك إنهم كانوا يريدون في الأساس طردك من الجامعة ، وطوال الصراع كنت أنت وخصومك تعرفون حقيقة الصراع جيدا بينما تم التركيز على قضية التفريق لزوم الإثارة واستعطاف أكبر قدر ممكن من العامة الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الأمر ، فقد خلقهم الله لتجمع الدولة الضرائب من أموالهم ثم تنشئ الدولة بهذه الضرائب جامعات تسند إدارتها لتنظيمات سرية إرهابية كالذي تنتمي إليه أنت وحسن حنفي ثم يصبحوا مجبرين على إرسال أبنائهم لتلقنهم فتوحاتك الفلسفية العظيمة ويتعلموا من حسن حنفي آليات التخفي وفوائد الزئبقية !!! . فالمشكلة ليست في تحول المعرفة إلى سلطة بل المشكلة من يصحو مبكرا قبل الآخر ليغتصبها بانقلاب عسكري ، عفوا بانقلاب فلسفي .
المواجهة من الداخل
والمنهج التخريبي الذي يتحدث يصفه حسن حنفي ليس جديدا ويبدو أنه متفق عليه ففي أعقاب صدور حكم محكمة استئناف القاهرة بالتفريق بين نصر أبو زيد وزوجته كتب الراحل خليل عبد الكريم في " مجلة القاهرة " وتحت عنوان " المواجهة من الداخل " ما نصه :
" طالما ناشدت الزملاء المثقفين التقدميين والطليعيين والمستنيرين الليبراليين والعلمانيين الالتفات إلى الإسلام .. .. وبعد صدور حكم محكمة استئناف القاهرة ضد د. نصر وزوجته د. ابتهال ظهر الفقر المدقع في الثقافة الإسلامية لدى التقدميين والطليعيين والمستنيرين في الرد على الحكم مثل وعلى من أيدوه وهللوا له ، ذلك أن مقالاتهم والبيانات التي طلعت بها علينا الأحزاب والهيئات والنقابات والاتحادات ومراكز حقوق الإنسان باستثناء محدود للغاية جاءت زاعقة بل صاخبة إنشائية خطابية لم ترد على الحكم ردا موضوعيا بل تكلمت عن الأمور الحافة أو المحيطة مثل الظلامية والعودة للقرون الوسطى ومحاكم التفتيش .. إلخ . وكان ذلك متوقعا بل طبيعيا لأن ثقافة هؤلاء الجهابذة الإسلامية ممحوة ولكنهم بذلك - وهو الأهم - قدموا على طبق من ذهب إبريز خالص لخصومهم دليل الثبوت على صحة ما يقال عن اتهامهم إياهم بالنفور من الإسلام ، بل عدائهم إياه وكل ما يمت إليه بأدنى صلة "
ويحدد خليل عبد الكريم الأسلوب الأفضل لخوض معركة التنوير قائلا :
" إن معركة الاستنارة طويلة وممضة وتحتاج إلى نفس طويل وصبر جميل وستكون سجالا أي هزائم وانتصارات ، وأهم أسلحتها الإيمان بالقضية التي يناضل من أجلها وعدم اليأس مهما حدث لأن الخصم شرس وعنيد وإمكانياته بالغة الضخامة ، وأن رأينا أن نشهر في وجهه السلاح ذاته الذي يدعي أنه يمسك به وهو الثقافة الإسلامية " ( مجلة القاهرة - عدد خاص - يوليو 1995 )
وهو لا يخجل من الاعتراف بأن اتهام هذا التنظيم السري بالنفور من الإسلام ومعاداتهم كل ما يمت له بصلة اتهام صحيح وأن الحل نقل المعركة إلى داخل الثقافة الإسلامية .
وقد جمعتني الصدفة قبل سنوات في مكتب حسن حنفي بكلية الآداب جامعة القاهرة ، كنت قد توجهت إلى حسن حنفي لإجراء حوار معه ( نشرته فيما بعد جريدة المستقلة اللندنية ) وبعد إجراء الحوار دعاني حسن حنفي لحضور لقاء فكري محدود في مكتبه لمناقشة كتاب أصدره الراحل خليل عبد الكريم عن قضية نصر أبو زيد . وقد عقب على الكتاب عضو هيئة تدريس ركز بشجاعة يحسد عليها على الموقف المتواطئ لبعض شرائح اليسار التي كان ينتمي إليها الراحل خليل عبد الكريم وهو موقف خلاصته أن الفساد والقهر الحاليين أفض من تغيير سياسي ديموقراطي يأتي بالإسلاميين ، وعبر هذا المعقب عن موقفه بعبارة دالة قال فيها إنه رغم مونه علمانيا يساريا فإن " جريدة الأهالي أصبحت عذابي الأسبوعي " .
وبعد التعقيب دخلت في حوار مع خليل عبد الكريم الذي قال إننا لا نستطيع أن نبشر بما نريد من خلال روسو أو مونتسيكيو وإلا حوصرنا فيجب أن نبشر به من داخل منظومة الثقافة الإسلامية ، وعندما سألته عن حق الناس في الاختيار سياسيا قال ينبغي تربية الناس تنويريا أولا قبل منحهم حق الاختيار !!! والترجمة الصريحة لهذا الكلام الزئبقي هو أن الوصاية إما أن تكون دينية أو علمانية لكنها في كل الأحوال موجودة ، وليس للناس أن يختاروا إلا ضمن بدائل . !!!!
تآمروا يرحمكم الله !!
على المستوى المعرفي تطرح هذه الاعترافات قضية المؤامرة كمنهج للرؤية ، صحيح أن التفسير التآمري للتاريخ تفسير طفولي باعتبار أنه يظل مفتوحا لكل الاحتمالات محكوما بسنن كونية لا تتخلف لكن " المؤامرة " تظل أحد مفردات الحياة الإنسانية طالما كان هناك زئبقيون يظهرون غير ما يبطنون ولا يجدون في ذلك حرجا . وفي عالم الثقافة والفكر لعبت المؤامرة دورا بل أدوارا لعل أقربها للحالة التي أمامنا حالة سيجموند فرويد لا كجزء من مؤامرة يهودية كونية بل على نحو مختلف كشفت ملامحه دراسات معاصرة . فقد كان فرويد يتصور أن الغرب سيرفض التحليل النفسي بسبب يهوديته ولذا كان يتصـور أنه لابد من إعطائه واجهة " مسيحية " . وكان هذا هو الدور المُوكَل ليونج ابن الراعي السويسري . فكتب فرويد إلى كارل أبراهام (1908) خطاباً يحثه فيه على كسب مودته " فيونج مسيحي وابن قسيس [ولذا فهو] يجد عناصر مقاومة داخلية شديدة تعوق اقترابه مني . ونحن لا غنى لنا إطلاقاً عن رفاقنا الآريين كافة ، وإلا سقط التحليل النفسي ضحية معاداة اليهود " . وحينما اعترض أتباع فرويد على ترشيح يونج لرئاسة الجمعية الدولية قال لهم فرويد: " إن معظمكم من اليهود ومن ثم فإنكم لن تستطيعوا ضم أصدقاء للفكر الجديد . على اليهود أن يَقنَعوا بدورهم المتواضع في تمهيد الطريق ، فمن أشد الأمور أهمية بالنسبة لي أن أستطيع إيجاد روابط مع دنيا العلم . وها أنتم ترون أني أتقدم في السن وأشعر بالتعب من الهجوم المتواصل . إننا جميعاً [أي اليهود العاملين في حقل التحليل النفسي ] في خطر ». ثم أمسـك فرويد بثنيـة سـترته ومـضى يقول بطريقة مسرحية : " إنهم لن يتركوا لي سترة أغطي بها ظهري ، ولكن السويسريين [أي المسيحيين] سينقذوننا ، سينقذونني، وسينقذونكم جميعاً أيضاً ».
ولا حاجة إلى المقارنة بعبارات حسن حنفي التي أوردتها أخبار الأدب !!
وفي 6 مايو عام 1926 أقامت الجمعية حفلاً خاصاً بمناسبة بلوغه السبعين من عمره . ولم يَحضُر فرويد هذا الحفل وأناب عنه في حضوره طبيبه الخاص البروفسور لدفيج براون الذي ألقى كلمته والتي تضمنت قوله : " ... إن كونكم يهوداً لأمر يوافقني كل الموافقة لأنني أنا نفسي يهودي . فقد بدا لي دائماً إنكار هذه الحقيقة ليس فقط أمراً غير خليق بصاحبه ، بل هو عمل فيه حماقة أكيدة . إنني لتربطني باليهودية أمور كثيرة تجعل إغراء اليهودية واليهود أمراً لا سبيل إلى مقاومته ، .. .. .. .. .. ثم بعد هذا كله كان إدراكي أنني مدين بالفضل لطبيعتي اليهودية فيما أملك من صفتين مميزتين لم يكن في وسعي الغناء عنهما خلال حياتي الشاقة : فلأني يهودي وجدت نفسي خلواً من التحيزات التي أضلت غيري دون استخدام ملكاتهم الذهنية ، وكيهودي كنت مستعداً للانضمام إلى المعارضة وللتصرف دون موافقة الأغلبية الساحقة " . وقد كتب فرويد إلى إحدى تلميذاته من العاملات بالتحليل النفسي، وهي إشبيلر اين، بعد أن علم أنها توشك أن تضع طفلاً، يقول لها: "... أود لو خرج الطفل ذكراً أن يصير صهيونياً متعصباً.. إننا يهود، وسـنظل يهوداً.. وسـيبقى الآخرون، على اسـتغلالهم لنا، دون أن يفهمونا، أو يقدرونا حق التقدير » (الخطاب مؤرخ في أغسطس 1913 ولكنه لم يُنشَر إلا عام 1982) . وكان فرويد عضواً في مجلس أمناء الجامعة العبرية بالقدس ، وكان يفتخر بذلك ويقول عنها " جامعتنا".
التنظيم الصهيوني الفرويدي
ويُشير الدكتور قدري حفني إلى ما يسميه " التنظيم الصهيوني الفرويدي " فقد نشر فرويد عام 1914 كتيباً بعنوان تاريخ حركة التحليل النفسي أشار فيه إلى تشكيل الرابطة الدولية للتحليل النفسي عام 1902 "حين تشكَّلت حولي مجموعة من أطباء شبان ، كان هدفهم المعلن تَعلُّم وممارسة ونشر التحليل النفسي ... وبعد سنتين من المؤتمر الأول الخاص للمحللين النفسيين ، انعقد المؤتمر الثاني في نورمبرج هذه المرة في مارس 1910 ، وفي الفترة الفاصلة بين هذين المؤتمرين ... وإزاء العداء المتزايد الذي كان يُواجَه به التحليل النفسي في ألمانيا ... صمَّمت مشروعاً ، وأفلحت أثناء ذلك المؤتمر الثاني ، في وضعه موضع التنفيذ، بمساعدة صديقي س . فيرنزي . وكان هذا المشروع يرمي إلى تزويد حركة التحليل النفسي بتنظيم ... تحاشياً للتجاوزات التي يمكن أن تُرتكَب باسم التحليل النفسي ... وكنت أرغب ، أيضاً ، في أن تقوم بين أنصار التحليل النفسي علاقات صداقة وتآزر ولهذا ، وليس لأي شيء آخر، كنت أرغب في قيام الرابطة الدولية للتحليل النفسي...".
كان ذلك هو أقصى ما صرَّح به فرويد علناً آنذاك. أمّا ما نُشر بعد ذلك بأعوام طوال ، فقد كان مختلفاً تماماً . لقد قام المحلل النفسي المعروف ، إرنست جونز ، ابتداءً من عام 1953 ، بالشروع في نشر سيرة حياة فرويد . وكان جونز آنذاك آخر الأحياء من القيادة السرية للتنظيم الصهيوني الفرويدي . وتضمَّنت تلك السيرة، التي نُشرت في ثلاثة أجزاء ، العديد من الخطابات المتبادلة بين فرويد وخلصائه ، ومن بينهم أعضاء تلك القيادة السرية ، والتي كانت تضم ، إلى جانب فرويد، كلاً من جونز وفيرنزي وساخس ورانك وأبراهام ، وإيتنجتون الذي انضم إلى تلك القيادة بعد تشكيلها بعدة أعوام .
أشار جونز إلى أن بداية التفكير في تشكيل تلك القيادة السرية ترجع إلى يوليه 1912 حيث اقترح جونز على فيرنزي اقتراحاً مؤداه تشكيل " جماعة صغيرة من المحللين الموثوق فيهم كنوع من الحرس القديم الذي يحيـط بفرويد " . ونوقـش هـذا الاقتراح، بالتفصيل مع فرويد ، الذي استجاب له فوراً وبصورة إيجابية . وتتضح تفاصيل هذا الاقتراح، وكذلك طبيعة استجابة فرويد له ، في خطاب بعث به فرويد إلى جونز ، يحمل تاريخ الأول من أغسطس 1912 ، أي بعد مرور أقل من شهر على بزوغ الفكرة ، ذكر فيه : "... إن ما استولى على خيالي فوراً هو فكرتك عن مجلس سري يتألف من خيرة رجالنا وأكثرهم استحقاقاً للثقة ، للقيام على أمور التطورات اللاحقة للتحليل النفسي ، وللدفاع عن القضية في مواجهة الأشخاص والأحداث بعد وفاتي ... وقبل كل شيء ، ينبغي أن تلتزم تلك اللجنة السرية المطلقة ، سواء فيما يتعلق بوجودها أصلاً، أو فيما يتعلق بأعمالها ... ومهما أتت به الأيام المقبلة ، فإن القائد المقبل لحركة التحليل النفسي ينبغي أن يخرج من بين هذه الحلقة الصغيرة المختارة من الرجال ... ". ولم يمض عام حتى عقدت تلك القيادة أول اجتماعاتها في منزل فرويد ، الذي أهدى لكل من أعضائها فصاً إغريقياً قديماً من مجموعته ، وقام هؤلاء بتركيب هذا الفص على خاتم ذهبي ، كان فرويد يلبس مثيلاً له . وحين انضم إيتنجتون إلى القيادة ، أهدى فرويد إليه خاتماً مماثلاً كذلك .
وكان عدد اليهود بين أتباع فرويد كبيراً بشكل ملحوظ . فحلقة النقاش الأسبوعية التي بدأها عام 1902 كان يحضرها يونج وأدلر ورانك وجونز وأبراهام وإيتنجتون ورايك وفيتلز وفرنزي ، وكلهم من اليهود ما عدا يونج وجونز . ويشير الدكتور قدري حفني إلى الصهاينة منهم . فماكس إيتنجتون ، مثلاً ، وهو أحد أعضاء القيادة السرية للتنظيم الفرويدي الصهيوني، قرر، في سبتمبر 1933، أن يغادر ألمانيا إلى فلسطين ، حيث أقام هناك بقية حياته ، وأنشأ " الجمعية الفلسطينية للتحليل النفسي " التي ما زالت قائمة حتى الآن ، بعـد أن تغيَّر اسـمها طبعاً . وقال المحلل النفـسي سـيدني بومر : " لم يكن انتقـال إيتنجتون إلى إسـرائيل مجرد اسـتجابة لضرورات الحرب ، بل كان نتيجة طبيعية لميله ، طوال حياته ، إلى الصهيونية " .
أما المحلل النفسي الشهير إرنست سيميل الصديق الصدوق لماكس إيتنجتون ، فهو صاحب الكتاب المعروف "معاداة للسامية مرض اجتماعي " وفيه يُرجع المشكلة اليهودية برمتها إلى أسباب نفسية خالصة . ولقد بلغ من تقدير فرويد لسيميل أنه أهداه ، عام 1939 ، ذلك الخاتم الشهير نفسه الذي سبق أن أهدى مثله لأعضاء القيادة السرية للتنظيم قبل ذلك بسنوات طوال . أما سيجموند برنفيلد ، المحلل النفسي ، فهو نفسه ذلك العضو البارز في المنظمات الصهيونية ، الذي تَبنَّى أفكار الفيلسوف الصهيوني مارتن بوبر ، وكرَّس جانباً كبيراً من كتاباته النفسية لإبراز خصائص الشعب اليهودي ، والدفاع عن فكرة «فلسطين كوطن قومي لليهود" . وقد زكَّاه فرويد بقوله : "... إنه خبير بارز في التحليل النفسي. واعتبره واحداً من أقوى العقول بين تلامذتي وأتباعي...". وكذلك الحال بالنسبة للطبيب والمحلل النفسي فيلكس دويتش، الذي كان، منذ شبابه، من أنشط أعضاء التنظيم الطلابي الصهيوني في فيينا، والذي التقى، في صفوف هذا التنظيم، بمارتن فرويد، ابن سيجموند فرويد ومن خلال لقائهما عرف دويتش طريقه إلى فرويد والفرويدية .
هو فعلا اسبينوزا
أما أول الملاحظات على اعترافات حسن حنفي تشبيه نصر أبو زيد بالفيلسوف باروخ اسبينوزا وهو تشبيه لا ندري إن كان على محمل المدح أم الذم ؟ أم الذم بما يشبه المدح ؟ ولمن لا يعرف الكثير عن باروخ اسبينوزا فهو - حسب موسوعة " اليهود واليهودية والصهيونية " للمفكر المعروف الدكتور عبد الوهاب المسيري - فيلسـوف عقلاني مادي عاش في هولندا ، ولكنه من أصل يهودي إسباني من اليهود التخفين ( المارانو ) أفصح أبوه وجده عن انتمائهما اليهودي بعد وصولهما إلى أمستردام حيث أصبحا من قادة الجماعة اليهودية فيها . وقد أعلن إسبينوزا تمرده على العقيدة اليهودية ، وكل العقائد في واقع الأمر ، وحاول الحاخامات رشوته في بادئ الأمر حتى يخفي رأيه ، ولكنه أصر عليه وعلى إعلانه ، فاتُهم بالإلحاد وطُرد من حظيرة الدين اليهودي ، فقبل هذا القرّار بهدوء ولكنه لم يتبن عقيدة دينية جديدة بديلة وانتقل ليعيش بعيداً عن الحي اليهودي ، وغيَّر اسمه إلى " بنيديكتوس " .
وقد رد إسبينوزا العالم بأسره إلى مبدأ واحد هو القوة الدافعة للمادة والسارية في الأجسام ، ويؤكد هذه الحقيقة عبارته اللاتينية الشهيرة" Deus sive natura " وهي عبارة تعني " الإله أي الطبيعة " . والطبيعة هي النظام الكلي للأشياء ، ومن ثم فإن الإله هو النظام الكلي للأشياء . وإن أدركنا هذا الترادف الحرفي ( وليس التقابل المجازي ) بين الإله والطبيعة ، فإننا سندرك أن إله إسبينوزا ليس إله الديانات التوحيدية التقليدية ، إذ تذهب هذه الديانات إلى أن الإله مفارق للطبيعة والتاريخ متجاوز لهما ، ومع هذا فإنه منشغل بمصير البشر، رحيم بهم ، يرسل لهم العلامات والرسائل . الإله في نسق إسبينوزا هو مجرد علة أولى أو قانون لا يعلو على المادة بل يحل أو يكمن فيها فهو مفكر حلولي ، ولعل هذا سبب الاحتفاء المشبوه من العلمانيين العرب برموز الفكر الحلولي في التاريخ الإسلامي
وحسب فلسفة اسبينوزا فإن الإله علاقته بالعالم ليست علاقة خلق فهو لم يخلق العالـم من العـدم . وإنما العالم تال بالضرورة لطبيعة الإله أو ينبثـق عنه مثلما ينتج من تعريف المثلث أن مجموع زواياه يسـاوي قائمتين . فالعلاقة ، إذن ، منطقية وباقية أشبه ما تكون بعلاقة السبب بالنتيجة ، شريطة أن نرى الأسباب . والحديث عن خلق العالم تحقيقاً لغرض إلهي هو بمنزلة إسناد أغراض إنسانية ( أغراضنا نحن البشر ) إلى الإله المتجرد وهو مدخل مهم لفهم مقولة : " أنسنة المقدس " وهي من منتجات ورشة السادة الزئبقيين ( حسن حنفي وشركاه ) . وبالتالي ، فهو إله غير إنساني محايد غير مكترث بآلام البشـر أو أفراحهـم أو خيرهم أو شـرهم أو ثوابهم أو عقابهم ، لا يتدخل البتة في شئونهم . بل إنه إله بلا إرادة ، فكل ما يحدث لا يمكن أن يحدث إلا بهذه الطريقة ، وكما يقول إسبينوزا ، فإن الإله ما كان بوسعه أن " يختار " أن يسلك بطريقة مختلفة عن تلك التي يسلك بها بالفعل !!! .
وفي معجم اسبينوزا الذي يرى حسن حنفي أن نصر أبو زد استمرار له فإن القول بأن " كل شيء يحدث بأمر الإله " يعني في واقع الأمر أن " كل شيء يحدث وفقاً لقوانين الطبيعة " . ! فالإله هو الطبيعة !! . وفي رؤية اسبينوزا للإنسان فإن نقطة البدء عنده هي إعلان الإيمان بمقدرة العقل البشري غير المحدودة على إزالة أية عقبة قد تحول دون اقتحام هذا العقل جميع ميادين المعرفة أو تحول دون فهمه كل قوانين الطبيعة فهماً كاملاً . وبالتالي فالعقل قادر على إنتاج ما يحتاج إليه من منظومات تشريعية وطبعا بكفاءة لا تقل عن الإله وتتكفل آليات التخفي بتوفير الغطاء المناسب لخداع الناس بمقولات التجديد والاجتهاد و .. ..
ويرى مؤرخو الفلسفة أن انتماء إسبينوزا إلى يهود المارانو جعله ينتج " خطابا مارانيا " فيُظهر غير ما يُبطن ، وأن يقول شيئاً ويرمي إلى عكسه ، وهو ما نجد مشابهة مثيرة بينه وبين اعترافات حسن حنفي التي تكشف عن " البعد اليهودي البنيوي " في فكر هذا التنظيم السري الفلسفي كلام حسن حنفي نفسه .
اسبينوزا والدين
ويمكننا أن نقول والكلام للدكتور عبد الوهاب المسيري - إن إسهام إسبينوزا الأكبر في تاريخ الفلسفة الغربية هو نجاحه في أن يُعلمن الفلسفة الغربية ويشيع الفكر الفلسفي المادي دون أن يسبب أي فزع لأحد ، ودون أن يدرك أحد أن خلف اللغة الصوفية التي يستخدمها يوجد النموذج المادي بكل وحشيته ولا إنسانيته . بل يمكن القول بأنه نجح في توليد المنظومة العلمانية المادية من داخل المنظومة الدينية واستخدم مصطلحاتها الغيبية كما يفعل كثير من العلمانيين العرب كحسن حنفي ونصر أبو زيد . واسبينوزا يصنف الرؤية الدينية باعتبارها " ظاهرة بشرية " ذات هدف عملي جزئي تحاول تحقيق أمانيَّ معينة للإنسان وتجنبه مخاوف خاصة ، وقد تعرض اسبينوزا إسبينوزا لقضية الدين وأشار إليه مستخدماً تعبير «الحب الفكري للإله» (باللاتينية : amor dei intcllectualis) وهذه هي الديانة الحقيقية ، وهي ديانة عقلية عقلانية . وهذا الدين هو فلسفة إسبينوزا ، وإطلاق كلمة «دين» عليه يشبه تماماً إطلاق كلمة «الإله» على الطبيعة .
ومن أهم مؤلفات إسبينوزا كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة ، وهو أساساً نقد للعهد القديم ولأسفار موسى الخمسة ومن هنا يُعَدُّ من أوائل المفكرين الذين وضعوا دعائم العلم الذي يُسمَّى " نقد العهد القديم " وقد أنكر إسبينوزا في كتابه كثيراً من مبادئ اليهودية أو مبادئ أي دين آخر مثل الإيمان بالوحي ، فالأنبياء حسب تصوره إن هم إلا أشخاص ذوو خيال متوقد ، كانوا قادرين على التوصل إلى حقائق أخلاقية ، هذا هو جوهر التفكير الربوبي .
ويرى المسيري أن المشروع الصهيوني تنفيذ حرفي للمشروع الإسبينوزي ، ذلك أن الصهيونية علمنت اليهودية وطهَّرتها من الغيبيات والغايات الأخلاقية، فوحَّدت بين الخالق والمخلوق والطبيعة (الإله والشعب اليهودي وإرتس أو أرض يسرائيل)، بحيث لا يمكن فصل أيٍّ من هذه الأشياء عن الآخر . وقد أُقيمت في إسرائيل مراسم عودة إسبينوزا لحظيرة الدين مرة أخرى ، ويُحتَفل بميلاده وذكرى نشر كتبه ، ويوجد معهد متخصص لدراسة كتبه.
تعقيب عام
وفي النهاية إن الدين يقدم نفسه من خلال مسلمات في مقدمتها الإيمان بالوحي ، والفكر البروبي الذي يراد نشره من خلال آليات التخفي والتفكير الزئبقي تتصادم مع أي دين سماوي . ولما كان من حق من شاء أن يكفر إن أراد ، ولما كانت الشجاعة تقتضي أن يعلن الناس حقيقة ما يعتقدون فإن المسئولية عن هذه المهزلة مشتركة بين الجمعية الفلسفية المصرية التي لا شك في أنها لا يجوز أن تكون طرفا في صراعات السلطة التي يتحدث عنها حسن حنفي وليست مكانا ليختفي فيه العاجزون عن مواجهة الناس بحقيقة أفكارهم وهناك بطبيعة الحال مسئولية على النخبة الثقافية المصرية التي ينبغي أن تتخذ موقفا أكثر صرامة من كل الممارسات غير المقبولة أخلاقيا على ساحة الفكر ، فحق الكاتب في التعبير بحرية يقابله بل يسبقه حق القارئ في معرفة الحقائق غير ملونة بتلوينات الفكر الزئبقي . ومن يعترف أن يكتب بلغة " القنابل الموقوتة " يمارس إرهابا لا يختلف إلا في وسيلته عن الإرهاب المسلح .
وفي النهاية على من يحسب هذا الكلام عن حرب العصابات وزرع القنابل والصراع على السلطة ؟
وهل هذا هو موقف الجمعية المصرية الفلسفية ؟
وهل هذه رؤيتها لدورها : أن توفر مأوى لتنظيم سري إرهابي يحترف الإرهاب الفكري ؟