الجنرال إيفي إيتام أحد أهم قيادات حزب " المفدال " المتطرف في الكيان الصهيوني ، ويوصف الحزب بأنه " حزب للترانسفير " ، وقبل حوالي عام استقال الحاخام يتسحاق ليفي من رئاسة " المفدال " موصيا بانتخاب الجنرال إيتام رئيسا . ويرفع إيتام منذ أن كان شريكا في الائتلاف الحاكم في الكيان الصهيوني قبل الانتخابات الأخيرة شعارا يشير به إلى مخطط خطير للترانسفير ، ففي حوار أجرته معه مجلة " نيوزويك " الأمريكية أطلق إيتام صيحته المثيرة : " أرسلوهم إلى سيناء " , وحسب ما جاء في الحوار فإنه يدعو إلى : " الضغط على مصر لقبول إقامة دولة فلسطينية في صحراء سيناء " ، وهو ما كرره أيتام مرات خلال الشهور الماضية . وتثير صيحة إيتام شجونا عديدة ، أولها أنها تنكأ جرحا مصريا قديما يكاد يكون من الصفحات المطوية في تاريخ الصراع العربي الصهيوني ، فبينما كانت الهزيمة العربية في حرب 1948 سببا مباشرا في تغير أنظمة الحكم في عدة دول عربية في مقدمتها مصر ، وبينما يتم تصوير الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في الكثير من الكتابات التي تؤرخ للصراع العربي الصهيوني في صورة من يرفض كل محاولات تسوية الصراع سلميا وتختصر سياسته إزاءه في عبارة : " ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة " تأتي الحقائق لتصدم كثيرين .
فعندما كان قطاع غزة الفلسطيني تحت الإدارة المصرية كان الوضع السياسي المصري ينعكس على علاقة الإدارة المصرية بالفصائل السياسية المختلفة ، وعندما ساءت العلاقات بين عبد الناصر والإخوان المسلمين ( 1954 ) ، كان رجال الحاج أمين الحسيني ينظرون بريبة لعلاقة الحكومة المصرية بمشاريع توطين الفلسطينيين . وحتى عام 1955 كانت هذه الريبة تفسر في إطار تعاطف إسلاميي فلسطين مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر .
غير أن الشيوعيين الفلسطينيين استطاعوا أن يحصلوا عن طريقة موظفة في الوكالة الدولية لغوث اللاجئين ( سميرة سابا ) على مشروع تم الاتفاق عليه بالفعل بين الحكومة المصرية والوكالة يقضي بتوطين الفلسطينيين في العريش . وقد امتدت عملية إعداد المشروع من نهاية يونيو 1953 (تاريخ توقيع الاتفاق) إلى 28 يونيو 1955 . وقام الشيوعيون بطبع خمسة آلاف نسخة من المشروع وتوزيعه على الجماهير التي خرجت غاضبة في مظاهرات شملت القطاع كله .
وكان الغضب شديدا فاشتركت كل فئات المجتمع في المظاهرات التي بدأت مع مطلع مارس 1955 ، وقام المتظاهرون بإحراق مخازن الأمم المتحدة وتوجيه إهانات للجيش المصري ، وكان الشعار الرئيس الذي رفعه المتظاهرون " لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان " كما رفعت شعارا أخرى تتهم عبد الناصر بالخيانة . والملفت أن التاريخ كما يقولون ، أحيانا ، يكرر نفسه ، فكما تصدت الشرطة المصرية للمظاهرات المناصرة لانتفاضة الأقصى بعنف أثار مشاعر غضب شديدة ، تصدى الجيش المصري عام 1955 للمتظاهرين بقسوة فقتل وجرح عديدون وأعلنت الأحكام العرفية ، لكن الفلسطينيين استمروا في التظاهر عشرة أيام .
ثم شكلت لجنة ترأسها شيوعي وإخواني ( معين بسيسو وفتحي البلعاوي ) قدمت للإدارة المصرية عدة مطالب في مقدمتها إيقاف مشروع التوطين في سيناء وإطلاق الحريات ومحاكمة المسئول عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين والتعهد بعدم ملاحقة من اشتركوا في المظاهرات ، وأعلنت الإدارة المصرية قبول المطالب ، ثم اعتقلت قادة المظاهرات !! . واستمر الاعتقال أكثر من سنتين ، ولم يصدر قرار الإفراج عنهم إلا بعد انسحاب الجيش المصري من غزة ( يوليو 1957 ) !!!
إذا كانت هذه خلفيات تاريخية يثيرها إطلاق هذه الصيحة فإنه ، وبالقدر نفسه ، يطرح مخاوف مستقبلية ، فسياسة الترانسفير لم تزل سمة بنيوية في الممارسات الصهيونية ، كما أن شبه جزيرة سيناء قد تشكل خيارا مغريا لساسة الكيان الصهيوني . فلبنان لم يستطع أبدا هضم اللاجئين الفلسطينيين الموجودين على أرضه ، ذلك أن نظامه السياسي قائم على توازن طائفي دقيق ، فضلا عن أنه بلد طارد للهجرة خرج منه 12 مليون لبناني إلى شرق الأرض وغربها مقابل حوالي أربعة ملايين لبناني يعيشون على أرضه ، أما الأردن فهو أكثر دول الطوق تخوفا من احتمال تدفق هجرة فلسطينية إلى أراضيه لأسباب تتصل بطبيعة تركيبته السكانية .
ويبقى أن مصر – واقعيا – لها سيطرة محدودة على الجزء المنزوع السلاح من شبه جزيرة سيناء ، وهو الجزء المتاخم للحدود مع الكيان الصهيوني ، فإذا فكرت حكومة شارون الإقدام على هذه المغامرة بمنطق فرض الأمر الواقع فستكون قدرة مصر على منع عملية التهجير محدودة ، وبالتالي تبدأ متوالية الإدانة والمناشدة وصولا إلى القرارات الدولية التي لا تنفذ حتى تدهمنا الكارثة التالية . وبقدر ما يستغرقنا إحساس كاذب بالثقة بالنفس وبأن المخاطر بعيدة بقدر ما يكون الطرف الآخر مرشحا للوصول إلى أهدافه بأقل قدر من الخسائر ، فنحن مغرمون بالركون لأوهام الثقة !!