قبل الحديث عن درس الهجرة و قيمته لابد لنا من استعراض مقدمات الهجرة ومسبباتها , إذ تجمع المصادر الجامعة لسيرة النبى محمد (ص) على أنه أقام ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيا , ثم أعلن في الرابعة , فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافى الموسم كل عام يتبع الحجاج في منازلهم , وفى المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يحموه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة, فلا يجد أحد ينصره أو يجيبه , حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة , ويقول :"يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب , وتدين لكم بها العجم , وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة وأبو لهب وراءه يقول : لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب , فيردون على رسول الله (ص) أقبح الرد ويؤذونه , ويقولون : عشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك . وهو يدعوهم إلى الله , ويقول :"اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا"
ومن القبائل التي عرض نفسه عليها : بنو عامر بن صعصعة ومحارب بن حصفة وفزارة وغسان ومرة حنيفة وسليم وعبس وبنو نضر وبنو النكا وكندة وكلب والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة , فلم يستجب منهم أحد.
وفى ذات الوقت أرسل مرتين بعض أصحابه إلى الحبشة وفيهم ابنته رقية , ولكن هجرتي الحبشة لم تؤتيا أكلهما أيضا , فعلم النبي (ص) أن مكة لن تصلح لدعوته وكذلك الحبشة . وكان أن علم أهل المدينة من خلال اليهود أن رسولا يظهر في مكة , فأرادوا أن يسبقوا اليهود إليه , لأنهم – أي اليهود – كانوا يهددونهم به , يقول ابن القيم في زاد الميعاد "وكان مما صنع الله لرسوله(ص)أن الأوس والخزرج كانوا يسمعون من حلفائهم يهود المدينة أن نبيا سيخرج في هذا الزمان فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود , وكانت الأنصار تحج البيت كما كانت العرب تحجه دون اليهود , فلما رأوا رسول الله (ص) يدعوا الناس إلى الله , وتأملوا أحواله , قال بعضهم تعلمون والله يا قوم أن هذا الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه , وهكذا وجد النبي(ص) المدينة وأهلها أرضا صالحة لنجاح دعوته.فكان الترتيب والتخطيط لبيعتي العقبة الأولى والثانية , وإسلام أهل المدينة جميعا , فبعد بيعة العقبة الثانية التي كان من أهم بنودها حماية النبي (ص) والقتال دونه , أذن الله للمسلمين في مكة أن يهاجروا إلى المدينة المنورة , عن عائشة رضى الله عنها , قال النبي (ص):
" إني رأيت دار هجرتكم ذات نخل بين لايتين وهما الحرتان " .
وكان الإذن بالهجرة سريا وفرديا , فهاجر أغلب صحابة النبي (ص) قبله , فيما عدا عمر بن الخطاب أعلن هجرته على الملأ, وكانت قريش قد علمت من خلال عملائها في مكة والمدينة بهجرة النبي (ص),فكانت خطتها التخلص من النبي (ص) فاجتمعت في دار الندوة بقيادة أبو جهل واشتراك شيخ نجدى و تجمع كتب السيرة على أنه إبليس ,فأجمعت رأيها على قتل النبي (ص) وهو نائم , على أن يتفرق دمه في جميع القبائل فاختارت رجلا من كل قبيلة لتنفيذ هذه المهمة .
وأثناء ذلك جاء جبريل إلى النبي (ص) وأخبره بأمر دار الندوة وعزمهم, فأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة , وجاء رسول الله(ص) إلى أبى بكر نصف النهار على غير العادة وقال له اخرج من عندك , فقال : إنما هم أهلك يا رسول الله , فقال " إن الله قد أذن لي في الخروج " . فقال أبو بكر"الصحبة يا رسول الله ",قال: نعم . وجهز أبو بكر راحلتين , وعاد النبي (ص) إلى بيته ليأمر عليا أن ينام مكانه في فراشه , ثم خرج على القوم دون أن يروه , فأخذ يذرى على رؤوسهم التراب , وهو يتلو قوله تعالى :"يس والقرآن الحكيم , إنك لمن المرسلين , على سراط مستقيم , تنزيل العزيز الرحيم " إلى قوله تعالى " فأغشيناهم فهم لا يبصرون " . ومضى إلى بيت أبى بكر فخرجا ليلا وجاء رجل فرأى القوم ببابه(ص) و فقال : ما تنتظرون ؟ قالوا : محمدا , قال : خبتم وخسرتم قد – والله – مر بكم وذر على رؤوسكم التراب, فقاموا ينفضون عن رؤوسهم فلما أصبحوا رأوا عليا في الفراش , فسألوه عن النبي (ص) , فقال : لا علم لي به
ووصل النبي(ص) وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه وضرب العنكبوت على بابه , وكانا قد استأجرا من يعتني براحلتيهما ابن أريقط الليثى , وكمنا هناك ثلاثة أيام , في الوقت الذي كانت فيه قريش تبحث عنهما في طريق مكة المعتاد , فلما لم يجدوه اتجهوا إلى طريق اليمن ووقفوا عند غار ثور , فلما رأوا العنكبوت على بابه عادوا خائبين .
وبعد انقطاع طلب قريش للرسول(ص) وصاحبه , خرجا من الغار مع دليلهما آخذين طريق الساحل , فقطعا مسافة بعيدة أدركهما من بعدها سراقة بن مالك الذي طمع في جائزة قريش عندما يظفر لهم بمحمد وصاحبه , فلما اقترب ساخت قوائم فرسه في الرمل , فأيقن عندئذ أنه أمام رسول كريم , فطلب منه أن يعده بشيء إن نصره , فوعده بسوار كسرى يلبسها , ثم عاد سراقة إلى مكة وتظاهر بأنه لم يعثر على أحد . وهكذا نفذ أمر الله وهاجر الحبيب والصديق , ولم يبق في مكة إلا القليل من المترددين أو الضعاف من المؤمنين .
وبعد هذا العرض الموجز لقصة الهجرة والذي آثرنا أن يكون محايدا وبسيطا , علينا أن نتأمل الوقائع جيدا , حتى يمكنا أن نستخلص دروس الهجرة , ولعل أبرزها في رأينا :
1- أن الداعية لا يمل ولاييأس من رحمة الله وعليه أن يتحمل ويصبر ويثابر في سبيل إبلاغ دعوته .
2- أن النبي(ص) كان يأخذ بالأسباب ويعمل بها , إذ أوهم المشركين فترك عليا نائما في فراشه أولا , وثانيا أعد الراحلة للسفر والدليل العالم بالطرق ومسالكها , وثالثا دخوله غار ثور مع صاحبه استخفاء عن أعين المشركين الطالبين له .
3- اعتماد النبي(ص) على التخطيط والترتيب للأمور , فقد هيأ أولا أهل المدينة لاستقباله , وأخذ عليهم العهود والمواثيق ثانيا لحمايته والدفاع عنه .
4- حين ييأس المبطلون من إيقاف دعوة الحق والإصلاح يلجأ ون إلى قتل الداعية المصلح طنا منهم أنهم إن قتلوه تخلصوا منه وقضوا على دعوته .
5- إنه يجوز الاستعانة بالمشرك عند الحاجة إليه طالما أن في ذلك مصلحة وخير للدعوة .
6- أما أعظم دروس الهجرة ,فنعتقد أن الهجرة بكل أحداثها ومواقفها وتفصيلاتها وفى مجملها كانت سببا في نصر الإسلام ونشره , وليس أصدق في ذلك من قوله تعالى : " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لاتجرن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها , وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم " ( التوبة – 40 ) .