دولة مزدهرة اقتصاديا، وشعبها في بحبوحة من العيش .. معناه أن السياسة العامة المتبعة راشدة .. وأن آليات التسيير سليمة لا عطب فيها .. من منظور عصري ومن منطلق علمي بحث.ودولة منهارة اقتصاديا ،وشعبها يلتقط اللقمة بالكاد ،معناه أن السياسة العامة المتبعة زائغة يتحكم فيها الانحراف ،وأن آليات التسيير كلية مشبعة باللغط الذي يفضي بالضرورة إلى الغلط المتكرر.التاريخ يغص بالشواهد والبراهين . أن أمما لم تستفق من غيبوبتها الطويلة ولم تقف بكبرياء فوق قمة الفعل الحضاري ،إلا بمصافحة السياسة بصدق واحتضان أفعالها التي هي خادمة وعن طواعية الفعل الاقتصادي .. هذا الأخير الذي لن يحيد عن الطريق المرسوم له .. ويقوم بالدور المنوط كمثل الذرة التي تجمع في جوفها إلكترونها وبروتونها كي تؤدي في النهاية الواجب و الوظيفة .وعلى سبيل المثال لدينا من التاريخ الوضاء حركة "ميجي اليابانية" ..هذه الحركة القادمة من أعماق الفساد السياسي الممارس من قبل السابقين من إمبراطوريات الفساد الاقتصادي و .. الأحادية لفكرية.لقد انتبهت هذه الحركة " حركة ميجي" إلى أن الخلل يكمن في دواليب الحكم وفي آليات التسيير ،ولهذا كان شعارها" دولة قوية بسواعد قوية" وهو الشعار الذي تجاوب معه الفرد الياباني تجاوبا واقعيا لا عاطفيا آنيا.. حيث أسهم في جعله حقيقة جلية بخلقه من العدم الاقتصادي كل أشكال الرفاه.. ومن الندرة في الثروات جبالا من السلع والمؤن.فالإمبراطور الشاب " ميجي" فهم سر تكامل الثنائية السياسية – الإقتصادية وهو السر الذي جعل التاريخ يمجده كرجل معجزة لشعب يقال أنه أصفر وضعيف البنية.
السياسيون الأعراب وما أكثرهم -حين تعدهم ولكن في فهمهم لكنه السياسة قليل – عندنا على محور خط طنجة –جاكرتا ينظرون إلى السياسة كمكسب اقتصادي لا كمكسب فكري باعث على البناء .. وهذا من الجانب الشخصي.فالسياسي الذي يبحث عن مكانة له في الجمع السياسي ليستحوذ على مقدرات الأمة بحجة القيام على شؤونها هو سارق يمارس الغلول ويأكل بفعل ذلك السحت.
ونادرا جدا أن نجد سياسيا ولو بالمفهوم الشائع من يفكر في ما تحت يديه كأمانة .. فما تحت مسئوليته هو بمثابة الملكية الشاغرة التي لا صاحب لها. وهذا من كل تأكيد ناجم عن التراكمات المفاهيمية التي شاركت في إيصال قناعة هؤلاء السياسيين إلى هذا الحد .. ويوهمون أ نفسهم أن السياسة حصان يركب لتحقيق النفع الذاتي قبل النفع العام ،زيادة على كل هذا قناعتهم الراسخة بأن الشعب برمته لا يستحق إلا أن يكون خادما لا مخدوما.ولهذا تجد معظم كلام الساسة خالي الملح غير مقنع يدفع فقط الشعب إلى مربع الإحباط والتعويل على النفس في تحسين الظرف المعيشي لأن المكلف بذلك يعيش خارج المسؤولية الجماعية.
فما أكثر الوزراء عندنا الذين لا يفقهون شيئا في أبجديات السياسة سوى سياسة ترتيب المكتب الأنيق ومستواهم مستوى الخشبة التي يجلسون عليها .على عكس ذلك في الدول التي تمثل محور سان فرانسيسكو – طوكيو المتحكمة حقا في الفعل السياسي.. فلا يجرؤ أيا كان بأن يكون سياسيا إلا بشروط تمليها المصلحة العامة .. كما لا يمكن لأي أحد أن يدرج في أعلى المراتب السياسية إلا انتقل في المراتب الحزبية وكان أولا مصقول المواهب .. مشهود له بالكفاءة والحصافة ودماثة الأخلاق.. كما لا تجد البتة كما هو موجود عندنا من يصير في رمشة عين رئيس حكومة ،وهو لا يعرف في يوم من الأيام ما معنى النضال السياسي الحزبي .. كما لا تجد وزيرا له منزلة سياسية يقول عن نفسه أنه تقنوقراطي.. أو أنه يحسن الاقتصاد ولا يحسن السياسة . مفاهيم اختلطت ولم نعد نرى منها غير الفوضى والتشويش .. فالعلمانية في الغرب قدمت برنامجها إلى الساحة العملية بفصل الدين عن شؤون الحياة الأخرى وعن السياسة تحديدا فتقدمت اقتصاديا وسياسيا .. و الساسة الأعراب قدموا برنامجهم بفتق السياسة الرشيدة عن الاقتصاد المبني على العلم لا على الإيديولوجية والتنظير الممقوت البعيد عن تربتنا كأمة لا تعترف بسلع الغير الفكرية.. فتأخروا وأخروا .
الجرح غائر لا يمكن علاجه بمرهم دون تنظيف بماء الأكسجين ،فمن دون الحل السياسي لا يمكن أن تكون هناك هبة اقتصادية ..ومن دون بلورة فكرية يخضع لها الجميع لتشمل الجميع ويشعر بها الجميع كون الخطر على رؤوس الجميع فلا تقدم قيد أنملة.. ولو ظلت الأمة مليار السنوات وهي تتغنى بالشعارات وتبكي الدم وتخط المخطوطات حول البرامج الإقتصادية و عندها أموال قارون .إن الهيكلة الفكرية تستدعي جهودا جبارة لأن ذلك مرتبط ابتداء بتغيير نمط التفكير كي يتوافق والحياة الجديدة .. ومن الصعب جدا أن تكون ثورة على مستوى التفكير إذا لم تتهيأ الظروف السياسية التي هي ضرورة قصوى لكن ليست بالمهمة لو الفرد المسلم العربي تنبه وكسر الحاجز النفسي الذي يصده عن الإقلاع الحضاري .
وليس الفرد اليهودي بأحسن من الفرد المسلم عندما أغلق على نفسه أيام المحنة عندما كانت السياسة الهتليرية تطارده فأنشأ لنفسه المدارس في البيوت دونما ضجة تذكر .. فيمكن خلق فرص لتخطي العقبات لو الفردانية تجمعت مع بعضها البعض من غير انتظار المدد الخارجي. وعندما تتهيكل الفكرة لتصبح ناضجة سياسيا بكل معانيها ومفرداتها الحقيقية فإن الاقتصاد قاطرته تكون تلقائيا على السكة لتأخذ الجميع نحو الرفاهية والجنة الغناء.. وقناعتنا بأن السبق الفكري يجب أن يكون قبل كل سبق مرده للشواهد التاريخية .. كما أنه مرده للواقع الذي أتبث فشل السياسة لما تنطلق من فراغ لتجد إلا الفراغ. وإن الأمة التي لا تزال تؤمن بأن اللقلق كان إنسانا غير أنه توضأ باللبن فمسخ لقلقا جديرة بأن تراجع فهمها قبل أن تقول بأنها جائعة …وجوع البطون محصلة للجوع الفكري .. ولا ننتظر من السياسة أن تمدنا طعاما إذا ما نحن كنا فقراء في الفهم .. ولو كان ذلك فربما يأتي يوم ويعطي الحمار الحليب بدل الأبقار.