لا تستغرب هذا العنوان أيها القارئ الكريم، فسأبينه لك.
لعلك تقول: كيف تدعوني إلى الأنانية، وهي صفة مذمومة عند عامة البشر؟!
وأقول لك: دعنا من المعاني الفلسفية للأنا والأنانية في المذهب الوجودي، وعند علماء النفس وغيرهم، فليس مراداً هنا قطعاً.
وتعال معي ننطلق من المعنى البسيط لكلمة (الأنانيّة) الذي يتبادر إلى ذهن السامع مباشرة، ويعرفه معظم الناس. وهي نسبة إلى (الأنا).
أليست تعني حبَّ الذات والحرص الشديد على كل ما يخصّها، مادياً كان أو معنوياً؟.
والأنانية هي بمعنى " الأَثَرَة " في التراث العربي الإسلامي، وهي ضد الإيثار.
والإيثار محمود أبداً؛ لأنه تفضيل الغير على النفس.
والأثرة مذمومة؛ لأنها تفضيل النفس على الغير.
لا جرم أنّ "الأنا" أول من استعملها من المخلوقين هو إبليس اللعين، جواباً لأمر الله عز وجلّ له بالسجود لأبينا آدم؛ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف/ 12]، وهي من الكلمات المهلكات، إذا قيلت على سبيل الغرور والتكبّر، وأكثرَ المرءُ من استخدامها.
ولكن هل الأنانية مذمومة مطلقاً ؟ تعالَ نتحاور:
أليس حبّ الذات والحرص عليها غريزة فطرية في النفس الإنسانية ؟. وهي التي تدفع صاحبها إلى حماية نفسه من كل ما يؤذيها، وتدفعه إلى الجِدِّ في اكتساب وتحصيل ما يمتعها ويسعدها ؟
وعليه، ليست الأثرة والأنانية شراً مطلقاً أو سوءاً مطلقاً، وإنما تكون صفة مذمومة إذا كانت حباً للذات وكرهاً للآخر، أو جلباً لمنفعة النفس مع مضرة الغير، أو تعظيماً للذات واحتقاراً للآخرين، وهكذا.
وتكون مقبولة أو محمودة حينما تكون حرصاً على مصلحة النفس بجلب النفع لها في الدنيا والآخرة، ودفع الأذى عنها في العاجل والآجل.
وهذا ما أقصده بدعوتك – أخي الإنسان – إلى الأنانية.
ألست حريصاً على تحصيل الرزق الوفير، والمسكن المريح، والملبس الأنيق، والطعام اللذيذ، والمركب الفاره؟
وإذا مرضتَ فإنك تسارع إلى الطبيب، وتجلب الدواء، لتدفع عنك شر الداء وأذاه، لتبقى مستمتعاً بالصحة والعافية؟
وإذا كبرت سنُّك، وغزا شعرَك الشيبُ بدأت تخاف الموت، وتتمنى طول العمر، لترى أولادك وأحفادك، ولتهنأ بما جنيت وأثّـثت؟
هذا قبل الموت!
وماذا بعد الموت؟
هل فكّرت في مصيرك؟ هل علمت أنّ أحداً من البشر مخلّد في هذه الحياة ؟
ألم تناقش الاحتمالات المتعددة لمصير الإنسان بعد الموت؟
أليس أقوى الاحتمالات وأرجحَها –بل المقطوع به عند المؤمنين- أنّ الإنسان سيُبعث إلى الحياة مرة أخرى، ولكن ليس للعمل هذه المرة، وإنما للحساب والجزاء، على ما عمل وقدّم في حياته الأولى؟!
فأين أنانيّتُك وحرصك على نفسك بشأن مصيرك المحتوم؟
أما ينبغي لك – بدافع من الأنانية وحب الذات – أن تُعدَّ وتهيِّئ وتجمع كل ما يجلب لك السلامة، ويدفع عنك الأذى (العذاب)، في مستقبلك البعيد (القريب) بعد انقضاء هذه الحياة الدنيا؟
أعتقد وأجزم أنّ العاقل هو من يحسب ألف حساب لما هو قادم عليه، ويأخذ نفسه بما هو أحوط لها. ولاسيما أنه سيأتي ربَّه يوم القيامة فرداً، وأنْ ليس له إلا ما سعى، وأنَّ نفساً لن تحمل وٍِزر نفسٍ أخرى. والله الموفِّق.
---------------------------------------------------------
خاطرة إيمانية / كُن "أيُّها المؤمنُ" كالماء
للماء مزايا كثيرة ، لم تجتمع فيما سواه من عناصر الطبيعة :
فهو ليّن في ملمسه كالحرير، يرتاح المرء بمسِّه .
وهو قويّ جداً إذا اجتمع وانداح ؛ فهو يدحرج صخور الجبال، ويجرف الحجارة والأتربة في الأودية، وينقل الصخور والرمال عن أماكنها، بل يفلق الصخر إذا تجمّد خلال شقوقه، وقد يتفجر من بينه،  وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ [البقرة / 74].
ويتغلغل الماء في جسم كل إنسان وحيوان ونبات، ويكوّن النسبة العظمى فيه. وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء /30]. وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ  [ق / 9] .
والماء يُنظّف الأوساخ (النجاسات الحقيقية)، ويُزيل الأحداث (النجاسات المعنوية)  وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا  [الفرقان/ 48]،
وهو يحمل الطاقة الكامنة في أحشائه، فيدير العنفات الثقيلة ، ويولِّد الكهرباء.
والخلاصة : إنّ الماء يدفع وينقل ويحرّك ويجرف ويحمل ويقلب ويتغلغل، وهو مع هذا ليّن لا يجرح، فكن أيها المؤمن كالماء.