أكثر ما تستعمل عبارة "مسافة الأمان" في قوانين السير، وعند الحديث عن قيادة السيارات، والتحذير من السرعات. وقوانين السير تحدد مسافات للأمان، تختلف باختلاف السرعة، يجب على كل سائق أن يتركها بينه وبين السيارة التي أمامه، وهناك حدود دنيا لها داخل المدن وخارجها، وليست غاية هذا المقال الحديث عنها وبيانها. ولكن، لماذا لا نعمِّم مفهوم هذه العبارة اللطيفة، التي توحي لنا بالأمان، على ميادين أخرى، هي أهم من ميدان السير ؟ أختار من بين هذه الميادين، ساحتين كبيرتين، مهمتين في حياتنا، كل منهما بحاجة ماسّة إلى "مسافات أمان" تناسبها:
الأولى : أوقات "الدوام" والعمل، ومواعيد الاجتماعات واللقاءات والندوات والمحاضرات، وغيرها.
فالدوام في الوظيفة أو العمل له بدايات محددة في كل مؤسسة أو دائرة بحسب نظامها، حكومية كانت أو خاصة، ومع هذا نرى كثيراً من المسلمين العاملين يتأخرون عن هذه البدايات، ثم إذا سئلوا أو حوسبوا أخذوا يُقدّمون الأعذار الصادقة أو الكاذبة لتسويغ تأخيرهم.
فلو أنّ كل موظف أو عامل جعل لنفسه مسافة أمان زمنية، بحيث يُقدّر أنه سيصل قُبيل بَدْء العمل بدقائق معدودات، على الأقل، لكان أولى بالمسلم، وأكثر أماناً له، في الدنيا والآخرة.
وهذا الجانب – الوظيفة أو العمل - يكاد يكون منضبطاً إلى حد كبير، في معظم البلدان العربية والإسلامية، بسبب المتابعة والمراقبة.
ولكن هناك جانب موازٍ – هو أولى بأن نتنبّه له ونعتني به - إنه المواعيد الخاصة، من أجل لقاءات أو اجتماعات، ومثلها الندوات والمحاضرات، غير المُلزمة؛ فإنك تجد نسبة عظمى من المسلمين لا يلتزمون بأوقاتها المحددة، فهذا يحضر بعد الموعد بخمس دقائق، وهذا يأتي بعد عشر، وآخر بعد ربع ساعة أو نصفها ، وربما لا يأتي ، ولا يعتذر عن تخلفه، وهو أحد المدعوين.
فلماذا يحدث مثل هذا في حياة المسلمين ؟ !
هل هذا من أخلاق المؤمن الحق ؟ أو مما يبيحه الشرع ؟ !
أليس من المؤسف حقاً أن يكون الغربيون والشرقيون، من غير المسلمين، أكثرَ دقة وانضباطاً بمواعيدهم منا نحن المسلمين ، أتباع القرآن الكريم ، الذي يقول لنا : (يا أيها الذين آمنوا أَوفوا بالعقود) [المائدة / 1] ، ويقول : (وأوفوا بالعهد ، إنّ العهد كان مسؤولاً) [الإسراء/ 34] . ويقول في صفات المؤمنين :(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)[المؤمنون / 8].
والالتزام بأوقات العمل –إضافة إلى العمل نفسه- أمانة وعهد وعقد ووعد.
وكيف نتخلف عن مواعيدنا ووعودنا – دون عذر مقبول- ونحن أتباع الرسول الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم الذي ما أخلف وعداً ، ولا نقض عهداً قط، وعدّ إخلاف الوعد من أخص صفات المنافق، بقوله: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ" [أخرجه البخاري برقم (32) ومسلم برقم (89)].
فليتنا جعلنا "مسافة أمان زمنية" قبل مواعيدنا، لنصل إليها في الوقت المحدد ، أو قبله، كي نكون في أمان ، ولا نقع في المحظور والمحذور.
* الساحة الثانية ، التي تتطلب مسافة أمان بالمفهوم الواسع، وهي الأهم ، وبيت القصيد هنا، كما يُقال: ساحة المعاملات بجميع أنواعها وأشكالها وأصنافها، المادية منها والمعنوية، مما يمكن أن يدخل في دائرة الحلال الصِّرف ، أو دائرة الحرام الصِّرف، أو مجال المُشْتبهات (الشُّبُهات).
وأدلة هذه الساحة صريحة في السنة النبوية المطهرة ؛ حيث يروي لنا النعمان بن بشير- رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ الْحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلا ، وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلا ، وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ " [رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم].
فتأمل -أخي القارئ- كيف حثّك نبيّك محمد صلى الله عليه وسلم على ترك "مسافة أمان" بينك وبين الوقوع في الحرام، ألا وهي المشتبهات من الأمور، التي يصعب على أكثر الناس تحديد كونها حلالاً أو حراماً، فهي مُشتبهة ومختلطة. وأمثلتها كثيرة في حياتنا ، في المطعومات والمشروبات والملبوسات، وفي معاملات المصارف وكثير من العقود، وفي تجارة الأسهم والسندات، وغيرها.
وتأمل –أخي المؤمن- كيف صوّر لك رسولك الرؤوف الرحيم ، خطورة الوقوع المتكرر في مجال الشبهات، كالراعي الذي يرعى أغنامه أو إبِلَه قرب أرض محميّة من قِبَل الملِك ، فلا يأمن أن تغفل عينه عنها ، فتدخل منطقة الحمى ، وترتع فيها.
والحِمى في مجال الأحكام الشرعية ، هو محارم الله تعالى، أي المحرمات الصريحة الثابتة بالنصوص ، وهي الحرام البيِّن ، كما جاء في أول الحديث.
و "مسافة الأمان المعنوية" المطلوبة هنا هي دائرة المشتبهات من الأمور التي تحيط بدائرة المحرمات البينة. فإن المسلم الذي يترك هذه المسافة ، بين أعماله وأقواله وبين الحرام ، يحصّل البراءة لدينه من القَدح ولعِرضه من الذم، وهذا غاية المأمول، والله يتولى القبول. ونسأله تعالى، وهو خير مسؤول: أن يجنبنا الزَّلَل، ويُصلح لنا العمل، ويبارك لنا في الأجل.