لقد ضيع العرب فرصا كثيرة، خلال القرن الماضي، هي ليست فرصا عادية، بل أزمات عميقة أصابت المجتمع العربي في مفاصله الفقرية بدءا من عدم تمكن و تمكين المجتمع العربي من التصنيع، وكان الهدف من ذلك بقاء هذا المجتمع تحت سطوة سلطة إقطاعية من الأسهل عليها ضبط المجتمع،والتحكم بنوازعه نحو الحرية وبناء شخصيته الإنسانية بين خلق الله، ضاعت الفرصة وكانت ممكنة على غرار ماليزيا التي مرت بظروف مماثلة للعرب من احتلال وتحرر ثم نهضة،على غرار المكسيك أو جنوب أفريقيا أو كوريا الجنوبية.

ضاعت فرصة التصنيع، كما ضيعنا فرصة التخلص من دولة إسرائيل التي ابتلينا بها، وكان الإشكال معها قابلا للحل لو تم الصراع على النحو التالي: مجتمع عربي – ضد سلطة صهيونية، على غرار الصراع في جنوب لبنان، مجتمع لبناني – ضد سلطة صهيونية، فالحسم الاجتماعي هو الأقدر على دحر أية سلطة مهما كانت جبارة، ولم يُسمح للمجتمع العربي أن يوجه سلطة إسرائيل المتوحشة، فالمجتمع اللبناني تمكن من دحرها في أيار من عام 2000م دحرا مروعا، ولأن السلطة العربية لا يروق لها أن يتحرك المجتمع العربي لأن حراكه سيكون مزدوجا ضد السلطتين: الصهيونية والعربية، وكان سينجح، رغم ما يعانيه من إرث ثقيل جراء أزمات متتالية كأنها سلالات من أشباح ضبابية ما تبرح أن تفارق هذا المجتمع المبتلي بشرورها، تمكنت السلطات المحلية وبسبب ضعف مناعة المجتمع، وقدرته على الفاعلية من ولادة سلطات مركبة: سلطة سياسية، سلطة دنية، سلطة عسكرية، و كلها تشتغل بشكل باشر أو غير مباشر لصالح سلطة خارجية ( السلطة المحلية مأجورة لصالح السلطة الخارجية).

بشكل مباشر: السلطة الداخلية تدفع مالا من حق ومن جهد المجتمع لقوة عسكرية خارجية ( واشنطن) أو غيرها مقابل أن تحميها من انتقام المجتمع، تتحكم بالمجتمع وتنهبه وهي وسيط ن مجرد وسيط أشبه بخراطيم تنقل للسلطة العسكرية الخارجية ما تحتاج مقابل أن تبقى قابضة على المجتمع.

بشكل غير مباشر: أن تبقى السلطة جاثمة على المجتمع وتنهبه وتمنعه من النمو والتطور وتسلبه حريته تحت مزاعم مختلفة فتفقدته المناعة والقدرة على مواجهة أية سلطة داخلية أو خارجية، وبالتالي يبقى ضعيفا، منتهكا، خانعا.

فكلتا السلطتين الحاكمتين في الوطن العربي تتبادلان الدور في قمع المجتمع ونهب خياراته ( النفطية، وثرواته المختلفة، الحرية، الازدهار، التنمية.) وأحالته إلى أسواق استهلاكية مرتهنة لصالح الخارج، فلم يتمكن ولم يقو على هزيمة أي منهما، فمر من تحت ضعف المجتمع العربي المشروع الصهيوني ( الذي لم ينجح حتى الآن ولن ينجح وعند أول مواجهة بينه وبين المجتمع العربي سينهار)، ثم مشروع السلطة الشمولية، التي تمكنت من الاستمرار في منطقة وكأنها جزيرة من الاستبداد وسط عالم حر يتجدد، وكأنه قدر علينا ألا نكون كبقية البشر، بالتأكيد وُضع المجتمع برمته رهينة الضعف لكي تتمكن السلطة من تمرير مشاريعها دون مقاومة منه، وضاعت منه فرصة أخرى، ولم يُسمح له باستثمارها، هي الطفرة النفطية في سبعينيات القرن الماضي، وبدل أن يستغلوا الناتج النفطي للتنمية والتطوير وحل مشاكل البطالة والشباب والإسكان والتصنيع والتعليم والصحة، بددت السلطة الثروة في الحروب، وفي أزمات جانبية وفي تصدير الظلام، ودفع المجتمع ما دفع من أرواح وأموال ثمنا لضعفه، وكانت طريقة سرقته: القتل عبر حروب أهلية وبينية، ثم نهبه ببيع أسلحة وتفريغ مستودعات السلاح، وكأننا حقل تجارب أو فرصة كلما امتلأت مستودعات السلاح في العالم ندفع ثمنها لنقتل بعضنا البعض ( حرب أهلية لبنانية، حرب الخليج الأولى والثانية والثالثة، الحرب الأهلية في الجزائر، الحرب الأهلية في الصومال، الحرب الأهلية في السودان..)، والآن ننتظر أن تمتلئ تلك المستودعات لتفرغ من جديد بفعل أزمة تركب لنا في كواليس الاستخبارات الغربية، كي نقتتل من جديد. والفرصة الضائعة، والأهم هي عدم التنمية الاجتماعية، التي استثمر فيها أقل من القليل، وتكشف الأرقام عن حجم التخلف في البنية الاجتماعية العربية من أمية وبطالة، و. مع الإشارة أن العالم تغير خلال عقدين من الزمن بطريقة غير عادية: ثورة معرفية كونية هائلة ، تحولات الاجتماعية كبيرة، تقدم اجتماعي يقابله انحسار في دور السلطات بطريقة لم يشهد لها التاريخ مثيلا من حيث السرعة ووضوح الأهداف، وهنا عند هذه النقطة أتوقف، وأقول عفا الله عما مضى، خسرنا ما خسرناه، لكن هل نسمح بأن نخسر هذا الاختبار الجديد ؟ أقصد الدخول في الثورة المعرفية، لا استهلاكا كما هو حاصل وكما بدأنا غير موفقين في هذا المجال:

- نعم ضاعت فلسطين.
- نعم تقاتلنا بعنف ووحشية.
- نعم لم ننجز المشروع الاجتماعي التنموي.
- نعم لم ننتج الآلة.
- نعم لم نخرج من نظام السلطة الإقطاعية حتى الآن.
ولكن، هل نفشل مرة أخرى ؟ ولا نستثمر الثورة المعرفية الحاصلة، هذه الثورة المتاحة لنا، بل وتدعونا للدخول فيها، كما أنه متاح لنا، و ممكن جدا، وأستنهض المجتمع العربي، وأدعوه للعمل بفاعلية وبكل أطيافه ألا يتهاون في تمرير هذا المشرع، والتعامل معه جزافا، وأن يعمل لدفع السلطات نحو تفعيل الاقتصاد المعرفي، وكل يوم يمر دون العمل في هذا المجال سيكلفنا لاحقا سنوات من الجهد لكي نلحق بالركب العالمي.

نحن مدعوون كمجتمع للضغط على السلطة غير الراغبة في دخولنا إلى العالم المعرفي، لأنها من غير علم وتقنية وصناعة، ومن غير تقدم مرتاحة، وغير منزعجة: مجتمع خامل، منضبط، مدار بسهولة، خائر القوى، محطم، مشهم، خامل، إدارته أسهل من مجتمع نشيط، فاعل، و حيوي، ولكن يجب ألا تمر فرصة الدخول في المجتمع المعرفي: صناعة، واستهلاكا، وتجارة، كما تفعل الهند، وفنلندا، وكوريا الجنوبية، وماليزيا.. نحن لا نريد شراء سلاحا من أحد، ولا نريد حروبا أهلية، والمجتمع الفلسطيني سيتكفل بإسرائيل وسيقيم دولته عاجلا أم آجلا، وأن نبني مصانع للطائرات والمركبات الفضائية وسفن الشحن، احتمال غير وارد، لكن أن نبني مصانع لإنتاج أجهزة الكمبيوتر والهاتف، وتقنية الاتصال، وتقنية الخدمات، فهذا متاح وممكن، نعم فلا نضيع فرصة مع بداية هذا القرن، لأن الثورة المعرفية متاحة، و شروط الدخول فيها ممكنة ومحقق لدينا:

1- عقول.
2- مواد أولية.
3- أسواق استهلاك.
4- الطفرة النفطية الجديدة.
كلها متوفرة لدينا، ويمكن الاستعانة بالشركات المتعددة الجنسيات لنقل التقنية إلى أية مدينة عربية، وإنشاء مصانع إنتاج هذه السلع المعرفية الضرورية، والملحة، وألا نضيع فرصة أخرى من فرص التاريخ، وعلى مجتمعاتنا التحرك للضغط على السلطات من أجل تنفيذ مطلب التصنيع المعرفي، والإنتاج المعرفي، والتسويق المعرفي، ومن دون ذلك سنخسر المستقبل لألف عام قادم كما خسرنا ألف عام سابق.

فنحن كعرب إذ كنا ولا نزال نعاني من ثلاث أميات:
1- أمية إنتاج الآلة: لم ننتج الآلة، وبقينا ضمن سيطرة رهيبة لسلطة مركبة داخلية محلية وخارجية استعمارية تنهب خيراتنا، ولا تزال.
2- أمية الحرية: لم ندخل مواجهة من أجل التحكم والضبط بحريتنا كخيار اجتماعي، ولازمة وضرورة، ولا نزال نعاني من استبداد سلطوي لا مثيل له في تاريخ البشرية، يمنعنا من ممارسة حريتنا كبشر.
3- أمية في القدرة على وعي الذات: فنحن أكثر شعوب العالم لم نتمكن من وعي ذاتنا، ولم يسمح لنا باستثمار طاقة العقل والانتقال من عمل جسدي وضيع إلى عمل ذهني معرفي.

أما وقد بدأ المجتمع البشري بالدخول إلى استهلاك وإنتاج وتسويق الطاقة المعرفية ( تقنية اتصال، تقنية خدمات، تقنية إعلام، تقنية طباعة ونشر وتثقيف، تقنية أبحاث، رجل آلي.) نحن كمجتمع عربي، ممنوع علينا من قبل سلطاتنا المحلية أن ندخل هذا الميدان لأن ذلك يضعف مركزيتها لصالح اللامركزية الاجتماعية، ويضعف من دورها في التحكم بالمجتمع – الأفقي لصالح هرميتها، وبالتالي أخشى، أو ربما هذا ما سيحصل، فكما لم نع ذاتنا، ولم نحقق الحرية حتى الآن، ولم ندخل في مرحلة إنتاج الآلة، فنحن لن ندخل في مرحلة المجتمع العالمي الجديد – المجتمع الرقمي، وأمامنا مهمة في غاية الخطورة، إذا لم ننتج ونستهلك ونسوق التقنية الرقمية فسنضيع فرصة ثمنها ألف سنة من التخلف القادم وأمامنا جميعا مهمة في غاية الخطورة، مهمة العمل والتحريض والجد لكي ندخل المجتمع الصناعي المعرفي( صناعة وإنتاجا واستهلاكا) علما أن: الموارد الأولية متوافرة لدينا وبكثرة، والعقول، والأسواق، وليس أمامنا سوى الدخول في إنتاج كل ما هو رقمي، والاستثمار في إنتاجه وتصنيعه.

لا بد من العمل سوية نحو تطوير وتكريس وتنشيط وتوسيع ونشر ثقافة الإنتاج المعرفي بكل أشكاله، و بكل ما لدينا من وسائل توعية وتوجيه وتثقيف وضغط.
والعمل على التخلص من الأمية المعرفية: إنتاج واستهلاك ونشر وتسويق، فإنتاج التقنية المعرفية هو خيارنا الأوحد لألف سنة قادمة، ولا خيار أمامنا سوى التخلص من الثقافة الجسدية – الميكانيكية التي تستند على ثقافة العبودية – الرق - الإقطاع، والانتقال إلى الوعي المعرفي – ونشر الثقافية المعرفية وهي نتاج خارق وهام ومفيد ويحقق ما يلي:
- الوفرة، التوازن، الأمن الاجتماعي، الكفاية، الازدهار..
- صيغة موت العمل..
- صيغة الكل للكل الاجتماعي.
ونحو مجتمع لا مركزي، لا سلطوي، حر، تتحقق فيه الوفرة والكفاية، ومستجيب للتحولات الاجتماعية الكبيرة في العالم.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية