إن الضمير العالمي موجود وغير موجود. فهو موجود إذا ما جوبه بتقنيات ووسائل ومناهج ذكية متطورة نصًا وروًحا وعصرية تستفزه وتستحوذ عليه وتقوم بتفعيله، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الضمير يتعرض في كثير من الأحيان إلى حالات من الكبت والقمع والتعتيم والتخدير والتغييب والإسكات وازدواجية المكيال والمعيار.

تطلع علينا بعض الفضائيات العربية بين الحين والآخر بندوات تتناول الظروف القاهرة التي يعيشها الفلسطينيون جراء الاحتلال الاسرائيلي لبلادهم. وقد شدتني ندوة عقدتها احدى هذه الفضائيات مؤخرا، شاركت فيها شريحة من المثقفين العرب، بحث موضوعها دور الضمير العالمي في تغيير الواقع الفلسطيني المرير، والاتجاه به نحو به نحو الأفضل.

وكالعادة، فقد أدلى مشكورًا على عواطفه الصادقة، كل مشارك بدلوه، في هذه الندوة التي تشعبت شجونها وأشجانها. إلا أنني توقفت عند ثلاث نقاط، فرضت علي ان اكتب هذه المقالة. النقطة الأولى تمثلت في تكرار مناشدة المشاركين "للضمير العالمي" أن يصحو من غفوته، وان ينفض عنه غبار صمته، وان يفرك عن عينيه الغشاوة التي اعمته عن رؤية الحقائق. والنقطة الثانية مفادها أن لا حجة لهذا الضمير في عدم الاطلاع والمعرفة، كون المشاركين يناشدونه عبر الفضائيات التي يصل صوتها وصورتها الى كل العالم. والنقطة الثالثة أن الندوة هذه كانت باللغة العربية.

وفي ذات السياق فقد افترضت هذه الشريحة المثقفة افتراضات مؤكدة بنت عليها وبكل بساطة حيثيات هذه الندوة. الافتراض الاول أن بث هذه الفضائية يصل الى كل اصقاع الكرة الارضية بنصفيها المستيقظ والنائم. والافتراض الثاني أن ابناء البشر على اختلاف انتماءاتهم العرقية واللغوية والثقافية يعرفون اللغة العربية، وأنهم – أكثر من ذلك – قد اختاروا هذه الفضائية دون سواها من آلاف المحطات الارضية والفضائية الاخرى، أو من ناحية اخرى أن مشاهد المعاناة الفلسطينية، قد وزعت على كل شبكات التلفزة، أو انها سوف تبث بكل دقة وأمانة وصدقية.

والافتراض الثالث الذي مرت عليه هذه الندوة باعتباره أمرا وكأنه مفروغ منه هو ما يسمى "الضمير العالمي". فقد افترضت أن العالم له ضمير، وأن هذا الضمير سوف يضربه الزلزال، وتثور به العواصف والاعاصير العاتية فور اطلاعه على كامل مسلسل المعاناة الفلسطينية، هذا اذا اطلع عليها ، وأنه بالتالي سوف يعمل فورا على تقويم الاعوجاج وجبر الكسور، وتطبيب الجراح، وتهدئة الخواطر اكراما للذين وقفوا عند أعتابه وناشدوه.
في العالم العربي، وعلى ما يبدو فان هذا نمط من التفكير سائد لدى شرائح من المثقفين والسياسيين، وكثير من العاملين في الاعلام الفضائي العربي أو مقدمي برامجه. فعلى أكثر من صعيد ومستوى يتكرر استخدام مصطلح الضمير العالمي وبخاصة لدى حدوث مكروه أو مصيبة أو كارثة أو مأساة لأي جزء من اجزائه، وتحديدا لتبعات القضية الفلسطينية وتداعياتها المأساوية. ولعل أكثر الشرائح وأوسعها ترديدا لمصطلح الضمير العالمي وتركيزا عليه هم السياسيون والاعلاميون، وكأنهم قد أصبحوا على يقين أن هناك ضميرا عالميا حقا وأنه صاح ليلا نهارا على أهبة الاستعداد للعمل في كل الظروف والاجواء.

وأكثر من ذلك كأن العالم قد أصبح محكوما للاخلاق والمبادىء والقيم والمثل العليا، أو كأن منظومة المصالح والمطامع والانانيات والهيمنات والاستحواذات والاستغلالات قد أصبحت في خبر كان، أو فعلا ماضيا لا مكان له في قواعد لغة الراهن الدولي المهيمن عليه من قبل سياسات العولمة بكل أشكالها.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بالحاح: هل هناك حقا ضمير عالمي يمكن اللجوء اليه والاعتماد عليه ؟. والاجابة عن هذا السؤال شائكة ومعقدة. ففي زمن العولمة والقوة الاحادية القطب، وهيمنة التكتلات السياسية والاقتصادية، تواجه الشعوب الضعيفة المشرذمة غير المتحدة – وفي مقدمتها شعوب العالم العربي – مشكلات وعوائق في اسماع اصواتها أو حتى تأكيد مصداقية قضاياها وعدالتها، وايصالها بالتالي الى العالم الذي تشغله قضاياه واهتماماته الخاصة، وهو بالتالي غير معني بقضايا الآخرين ايا كان حجم انسانيتها، الا بقدر ما تخدم مصالحه وأهداف سياساته.

وفي ذات السياق، وعلاوة على ما يفترض أنه مصداقية هذه القضايا وعدالتها – وهي في هذا الزمان ليست أساسية الا اذا كانت تستند الى قاعدة من القوة – فلا بد أن تكون هناك جهات داعمة لها ذات تأثير، توظف متابعتها عبر مؤسسات ومنظمات ولوبيات ومنتديات فاعلة على كافة الصعد مدعمة بكوادر وطواقم مدربة نشطة مستحوذة على الخبرات المطلوبة ومتواجدة على ساحة ذلك الآخر المراد كسب تأييده وتعاطفه وشحذ ضميره.

وتظل وسائل ايصال الصوت والصورة هي الأساس. فلا بد والحال هذه من اسناد وسائل اعلام مرئية ومسموعة ومقروءة قادرة على مخاطبة المعنيين بلغاتهم ومن خلال ثقافاتهم واهتماماتهم الحياتية وانطلاقا من تفعيل قاعدة المصالح المشتركة وتوظيفها خدمة للقضايا المطروحة.

في ضوء ما ذكر آنفا، ففي اعتقادنا أن تكرار الحديث عن مصطلحات " الضمير العالمي والشرعية الدولية والمجتمع الدولي والقانون الدولي " وكل ما يخص حقوق الانسان يجسد حالة من الافلاس والهروب في العالم العربي. أما حالة الافلاس فتتمثل في أنه ليس لدى الانظمة السياسية العربية ما تقدمه حيال أية أزمة أو كارثة أو مأساة تحل في أي جزء من العالم العربي، او تلك التي ازمنت واستفحلت، اضافة الى انها كانت وما زالت تفتقر الى خطة عمل أو استراتيجية محددة ومعدة مسبقا. وانطلاقا من هذا الواقع المؤلم يكون الهروب الى هذه المصطلحات عبر وسائل الاعلام المحلي بلغة سياسية عربية ألبست ثوبا حضاريا عصريا، والمحصلة الثابتة الدائمة فشل على الدوام لاحداث اختراق وتحقيق انجاز حقيقي دون الوصول الى سقف الهدف المفترض.

ان الخطيئة الكبرى التي ارتكبها العالم العربي، أنه منذ البداية احترف الشكوى للآخرين والاسترحام لديهم، واستجداء الحلول لكثير من قضاياه، ولم يبادر الى أن يحك جلده بظفره، وقد جهل أو تجاهل حقيقة مفادها أن الاقوياء لا تهمهم مشاكل الضعفاء، وأن تكرار الشكوى يفقدها الكثير من جوهرها ومصداقيتها، وبخاصة اذا كان الشاكي يعاني ما يعانيه من الدونية والشعور بالنقص والعجز في ظل استعلاء الآخرين وتفوقهم.

ان الغياب العربي القومي عن المنابر الدولية حقيقة لا يختلف عليها اثنان. واذا كان هناك من حضور فهو اقليمي متواضع لا يملك مقومات التواجد والتأثير والمنافسة أو الوصول الى من يهمهم الامر. وهو مثالا لا حصرا يفتقر الى فضائية عربية قومية دولية تخاطب العالم بلغاته، عجزت الانظمة السياسية عن اخراجها الى حيز الوجود، أو أنها بصحيح العبارة غير معنية بها كونها أساسا محكومة لتوجهات السيادة الاقليمية الضيقة، والنزاعات والخصومات العربية العربية. وقبل هذا وذاك فان العالم العربي، يفتقر الى وحدة الموقف والاصرار عليه ومتابعته أو التوجه به الى العنوان الصحيح.

وكلمة أخيرة، إن الضمير العالمي موجود وغير موجود. فهو موجود إذا ما جوبه بتقنيات ووسائل ومناهج ذكية متطورة نصًا وروًحا وعصرية تستفزه وتستحوذ عليه وتقوم بتفعيله، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الضمير يتعرض في كثير من الأحيان إلى حالات من الكبت والقمع والتعتيم والتخدير والتغييب والإسكات وازدواجية المكيال والمعيار.

وهو غير موجود كون المصالح المادية والسياسية وغيرها هي الطاغية في هذا العصر، وكون هذا الضمير إن وجد - يتلون وينساق ويخضع في حضوره وغيابه، في انحيازه وحياده، في مناصرته ومعاداته – للمصالح ومعادلة الربح والخسارة. وأخيرا وليس آخرا للوزن السياسي والاقتصادي لذلك الذي يدق باب الضمير العالمي، ومدى جديته ومصداقيته. وفيما يخص القضية الفلسطينية، فعلى الارجح ان هذا الضمير قد غاب وتوارى منذ أول أيام النكبة، والعلة لا تكمن فيه بقدر ما تكمن في العالم العربي نفسه.
شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية