لعبت الزوايا والكتاتيب والمعاهد الدينية دورا كبيرا في طرد الإستعمار الإسباني والإيطالي والفرنسي من المغرب العربي وهي التي كانت تعبئ الإنسان المغاربي ضد المستعمر البغيض الذي وصل إلى المغرب العربي ثأرا لأيّام الأندلس كما كان قال قائد الحملة الفرنسية إلى الجزائر دومينياك . وساهم التعليم الديني في المغرب العربي في الحفاظ على اللغة العربية التي لجأ الإستعمار الفرنسي إلى كل الأساليب والإجراءات لوأدها .

وقد كانت القوانين الفرنسية الإستعمارية تنصّ على أنّ تدريس اللغة العربية محظور وكل من يعتقل متلبسا بتدريس اللغة العربية يتمّ سجنه بين ست أشهر وسنتين , وهذا الإجراء كان متبعا في كل المناطق المغاربية , الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا , وفي ليبيا لجأ الإيطاليون إلى محاربة كل الزوايا الدينية التي دأبت على المحافظة على الأصالة العربية والإسلامية في ليبيا والتي زودّت الشيخ عمر المختار قائد الثورة الليبية بعناصر لا تأبه للموت في سبيل الحفاظ على مقدسات الشعب الليبي الإسلامية والعربية , والشيخ عر المختار نفسه كان يدرّس القرآن الكريم في كتّاب ليبي .ولم تساهم معاهد التعليم الديني في المغرب العربي في الحفاظ على الشخصيّة الإسلامية فحسب بل هي التي مهدت لمجمل الثورات التي إنطلقت في المغرب العربي ضدّ الإستعمار الفرنسي والإيطالي . فالمعاهد الدينية التي كانت تابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين والتي كان يترأسها الشيخان العالمان عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي هي التي مهدّت للثورة الجزائرية , بل لقد أصبح العديد من علماء جمعية العلماء المسلمين مجاهدين في صفوف الثورة الجزائرية , يلقنون المجاهدين الجزائريين مبادئ الفقه والأصول والتفسير ودرجة الشهيد عند الله . وفي تونس لعب جامع الزيتونة أدوارا كبيرة في تاريخ تونس و سعت فرنسا للقضاء على هذا المعلم الديني لكنّها لم تتمكن بل بقي يرفد الساحة التونسية بمصلحين منذ خير الدين الثعالبي وإلى يومنا هذا , وفي المغرب لعب جامع القرويين دورا كبيرا في التمهيد لثورة عبد الكريم الخطابي الذي أبلى البلاء الحسن في محاربة الفرنسيين . وفي موريتانيا لعب الشيخ الشنقيطي والزوايا الدينية دورا كبيرا في مقاومة الفرنسة وكل مظاهر التغريب .

وعلى الرغم من الميزانيات المحدودة لكل المعاهد الدينية في المغرب العربي في العهد الإستعماري الذي إستمرّ أزيد من قرن وثلاثين سنة إلاّ أنّها تمكنت من الحفاظ على الشخصية العربية والإسلامية وعلى اللغة العربية والإنتماء العربي والإسلامي , كما عرّت الحركة الإستعمارية وكشفت كل مخططاتها و مشاريعها .
وكانت هذه المعاهد الدينية تعتمد في مناهجها على :
-    تدريس القرآن الكريم قراءة وتفسيرا .
-    السنة النبوية متنا وسندا .
-    اللغة العربية نحوا وصرفا وبلاغة .
-    أصول الفقه .
-    كتب الأخلاق والأداب الربانيّة .
ومن خلال هذه المنطلقات إستطاعت هذه المعاهد أن تصون هويّة الشعوب المغاربيّة في مرحلة كانت فيها فرنسا تستخدم كل ما لديها من وسائل من أجل تدمير الهويّة الإسلامية والعربية للمغاربة , فقد لجأت السلطات الإستعمارية الفرنسيّة إلى تحويل المساجد إلى كنائس أو إصطبلات , وقامت بحظر تعليم اللغة العربية وأنشأت معاهد كولونياليّة إستعمارية الغرض منها التأكيد على فرنسية المغرب العربي و حضاريّة الغرب فكرا وكنيسة , كما قامت السلطات الإستعماريّة بتغيير أسماء المغاربة العربية إلى أسماء فيها الكثير من الدجل , وكل ذلك للقضاء على أي شيئ له صلة بالعربية أو الإسلام , فكانت دوائرها الإداريّة تسمي من كان إسمه عبد الله بالعتروس وهو العنزة في لغة المغاربة , وتسمي عبد الواحد عزّوز وهذا ما يفسّر غرابة بعض أسماء مواطنين من المغرب العربي وهلم جرّا ... وقد إصطدمت هذه الأساليب بصخرة المعاهد الدينيية التي نجحت إلى أبعد الحدود في تدمير كافة هذه المخططّات الإستعماريّة التغريبيّة .

التعليم الديني في مرحلة الإستقلال :

نجح الإستعمار الفرنسي بعد إستقلال الدول المغاربيّة في إيصال نخبته إلى دوائر القرار المغاربي , وقد عمدت هذه النخب إلى تقليص دور المعاهد الدينية التي لعبت دورا كبيرا في تحرير المناطق المغاربيّة من نير الإستعمار الفرنسي , وقد لجأت الحكومات الرسمية المغاربية إلى تأميم معاهد التعليم الديني وتحويلها إلى مؤسسات رسميّة خاضعة لسياسة الدولة أو إلى إلغائها بشكل كامل كما حدث في الجزائر في عهد الرئيس الراحل هواري بومدين الذي ألغى معاهد التعليم الأصلي والذي وقف ضد سياسته الإشتراكية .
وعندما قررّ الرئيس أحمد بن بلة أول رئيس للجزائر عقب إستقلالها سنة 1962 نهج النهج الإشتراكي واليساري وتجاوز بذلك مؤتمر الصومام الذي إنعقد في عهد الثورة الجزائرية سنة 1956 والذي أقرّ أنّ الجزائر عندما تستقل يجب أن تتحوّل إلى دولة إسلامية , أصدر الشيخ البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بيانا جاء فيه :
بسم الله الرحمان الرحيم
كتب الله لي أن أعيش حتى استقلال الجزائر ويومئذ كنت أستطيع أن أواجه المنيّة مرتاح الضمير , إذ تراءى لي أني سلمت مشعل الجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام الحق والنهوض باللغة- ذلك الجهاد الذي كنت أعيش من أجله – إلى الذين أخذوا زمام الحكم في الوطن ولذلك قررت أن ألتزم الصمت . غير أني أشعر أمام خطورة الساعة وفي هذا اليوم الذي يصادف الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس –رحمه الله – أنّه يجب عليّ أن أقطع الصمت , إن وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ويتخبط في أزمة روحية لا  نظير لها ويواجه مشاكل إقتصادية عسيرة الحل , ولكنّ المسؤولين فيما يبدو لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيئ إلى الوحدة والسلام والرفاهية وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تبعث من صميم جذورنا العربية والإسلامية لا من مذاهب أجنبيّة . لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألاّ يقيموا وزنا إلاّ للتضحية والكفاءة وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الإعتبار عندهم , وقد آن أن يرجع إلى كلمة الأخوة التي أبتذلت –معناها الحق – وأن نعود إلى الشورى التي حرص عليها النبيّ صلىّ الله عليه وسلم , وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيّدوا جميعا مدينة تسودها العدالة والحرية , مدينة تقوم على تقوى من الله ورضوان.

الجزائر في 16  أبريل – نيسان 1964 . توقيع  : محمّد البشير الإبراهيمي.

 

وكان البشير الإبراهيمي يتوقّع حدوث حرب أهلية في الجزائر بسبب الإبتعاد عن النهج الإسلامي , ومنذ تاريخ حظر المعاهد التعليمية الإسلامية بقيت الجزائر محرومة من التعليم الديني الفعلي , اللهم إلا المعاهد الإباضية الجزائرية في مناطق غرداية والتي لم تكن السلطة تتحرّش بها بسبب إبتعاد خوارج الجزائر عن الهمّ السياسي وإنصرافهم إلى التجارة و تعليم أصول مذهبهم لأولادهم .
وفي هذه المرحلة إضطلعت المساجد الجزائريّة بتعليم القرآن الكريم وتحفيظه لمن يرغب , كما أنّ وزارة التربية أقرّت مادة التربية الإسلامية والتي تمّ المزج فيها بين إيديولوجية السلطة الإشتراكية والإسلام , وفي هذه المرحلة من تاريخ الجزائر نجحت القوى الفرانكوفونية واليسارية الجزائرية في تحجيم دور الإسلام في الجزائر , و ظل أبناء جمعية العلماء المسلمين و المحسوبين على التيار العربي والإسلامي يطالبون بضرورة إقامة جامعة إسلامية حفاظا على الجزائر من التغريب الذي تدفقّ على الجزائر بشكل لم يسبق له مثيل , وأنتظرت الجزائر 28 سنة بعد الإستقلال – إستقلال الجزائر تمّ سنة 1962 -  لتشيّد أول جامعة إسلامية وهي جامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة والتي تأسسّت سنة 1986 . وبعد إندلاع الأحداث الأمنية في الجزائر سنة 1991 بدأت القوى الفرانكفونية و اليسارية والبربرية تطالب بإغلاق كافة مؤسسات التعليم الديني بإعتبارها أنتجت الأصولية والظلامية حسب زعمهم ولم يكتفوا بذلك بل طالبوا بإلغاء التعليم العربي في الجزائر بإعتبار أنّ هناك علاقة قوية بين العروبة والإسلام السياسي.

وإتخذّ رئيس وزراء الجزائر الأسبق رضا مالك قرارا بإلغاء قانون التعريب , وتبعه تشكيل لجنة بن زاغو لتغيير مناهج التعليم الجزائري في عهد عبد العزيز بوتفليقة , وقد أوصت هذه اللجنة بضرورة تكثيف اللغة الفرنسية و تقليص اللغة العربية في المدرسة الجزائرية . وجاءت أحداث الحادي عشر من أيلول التي عصفت بأمريكا لترفع من رصيد دعاة التغريب في الجزائر لدى الدوائر الحاكمة .
وفي تونس تحوّل جامع الزيتونة إلى مؤسسة رسمية خاضعة لإشراف وزارة الشؤون الدينية والتي تسيرّ هذا الجامع تبعا لما تريده المنظومة الحاكمة , وتمّ إلغاء كافة الحلقات التعليمية في المساجد والتي كان ينشطها بعض المثقفين المسلمين بحجة أنّ هذا العمل يمهّد لعمل سياسي معارض للسلطة , وبحجة أنّه لا أحد يفتي والسلطة موجودة .


وحتى التعليم الديني في الثانويات و الجامعات أصبح جزءا من الترف الفكري , يتم التركيز فيه على الجانب التاريخي دون الراهن , وكأنّ الإسلام مسألة ثقافية ماضوية لا علاقة له بصياغة الحاضر والمستقبل في كافة التفاصيل .
وفي ليبيا والمغرب أصبحت المعاهد الدينية محدودة للغاية ومرتبطة بالسلطة القائمة , وبات الداعية إلى الله الذي يريد أن يلقي محاضرات في المساجد يحتاج إلى رخصة من وزارة الشؤون الدينية ومخالفة ذلك قد يفضي إلى مالا تحمد عقباه .
وفي موريتانيا نجحت السلطة القائمة في تقليص نفوذ المعاهد الدينية التي لعبت دورا كبير في تاريخ موريتانيا المعاصر , و أقامت عشرات المعاهد والكليات والتي يتم التدريس فيها باللغة الفرنسية كلغة رسمية ثانية في البلاد لتقليل دور هذه المعاهد التي مازال لها وجود طفيف في بعض المحافظات الموريتانية .


وقد أدركت السلطات الحاكمة في المغرب العربي أنّ المعاهد الدينية والتي ساهمت إلى أبعد الحدود في تحرير المغرب العربي من نير الإستعمار قد تكون ركيزة لمعارضة السياسات الرسمية بعد الإستقلال فعمدت إلى تقليص دورها وحرمان المدرسين في هذه المعاهد من رواتبهم , بل ألغت مؤسسات الوقف التي كانت تدعم هذه المعاهد الدينية , وأنتجت مؤسسات دينية وخطابا دينيا يتماشى مع السياسة القائمة ولا يزعجها , وقد تناست هذه النظم أنّ الدين الإسلامي حضاري في كل أبعاده وأنّ الشقّ السياسي فيه حصية صغيرة في صحراء مترامية الأطراف , وبذلك حرمت جموعا غفيرة من المواطنين المغاربة من التعرف على حضاريّة الإسلام وأبعاده الفكرية والثقافية والعلمية , وبذلك أيضا كان الطريق معبدا للغارة التغريبية ومكنّها من أن تجتاح مناطق المغرب العربي لكن هذه المرة بدون جيوش أو عساكر , إنّها لعبة الصراع الفكري كما قال المفكر الجزائر ي مالك بن نبي .

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية