مقدمة :
منذ مدة، ليست بالقصيرة، تجول في نفسي خاطرة أودّ أن أفرغها في مقالة، لعل غيري ينتفع بها، أزيَد مما انتفعت.
إنّ منظومة العبادات الخاصة، المعروفة في الإسلام، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وتلاوة للقرآن، وذكر لله تعالى، منظومة متكاملة، شرعها الله تعالى لنا، وعلمنا إيَّاها رسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، لتربيتنا عَقَدياً وروحياً ونفسياً واجتماعياً وبدنياً.

فكلٌّ منها يبني جداراً أو أكثر في حياة المسلم، ويربي فيه جانباً أو أكثر مما ذُكر.ولعل أعلى هذه العبادات مرتبة، وأجمعَها لنفع الفرد وخيره -إذا صلحت- هي الصلاة، فلذلك عدّها الرسول  عمود الدين، كما ثبت في الحديث الصحيح، ورغّب فيها، وحثّ عليها بالقول والفعل، وبأساليب شتّى، حتى عدّها معيار الفلاح أو الخسران يوم القيامة، فأوّل ما يُحاسب عليه المرء يوم القيامة الصلاة، فإنْ صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله.
فمزايا الصلاة كثيرة، لا تكاد تحصى، وليس هذا موضع ذكرها، ولكن أذكر لها ميزة جامعة، تنبّه لما وراءها:


إنّ الصلاة ركن من أركان الإسلام، وهي تشتمل في ثناياها على سائر الأركان الأخرى، وإليك البيان الموجز:
إنها تشتمل على ركن الشهادتين (أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وتشتمل على ركن الصيام، جزئياً؛ ففي الصلاة لا يجوز الأكل والشرب، ونحوهما، كالصيام، وتشترك مع الحج بتعظيم الكعبة والبيت الحرام، غير أنه فيه بالطواف والسعي، وفيها بالتوجه إلى شطرها حيثما كنا {... وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ... } [البقرة/144].
وتشتمل على جزء من معنى الزكاة؛ لأن الزكاة إنفاق لبعض المال، والمال يحتاج إلى بعض الوقت ليُجمع، فكأنّ المسلم المزكِّي قد أنفق بعض وقته، أو عمره في سبيل الله، وكذلك الصلاة تحتاج إلى وقت وجزء من العمر لأدائها، فهذا إنفاق لإرضاء الله تعالى واهب الوقت والعمر، والله أعلم.
هذا بشان الصلاة، ومكانتها وأهميتها، فما علاقة نظامها بنظام الحياة؟ لعله هذا هو الأهم.
نظام الصلاة في الإسلام معيار لنظام الحياة
* أحكام الصلاة في الإسلام، وآدابها، تجمع بين جانبين مُهمّين في الحياة، هما: النظام والانضباط من جهة، والمرونة والتيسير من جهة أخرى.
فالنظام والانضباط فيها يظهران في الأمور التالية:
1- أوقاتها: فلكل صلاة وقت محدد معلوم لدى جميع المسلمين، بداية ونهاية.
2- ركعاتها: أعداد الركعات للصلوات، معلومة ثابتة، لا يستطيع أحد أن يعدّل أو يبدّل فيها، وكذلك نظام كل ركعة على حِدَة، من قيامٍ وتحريمٍ وقراءةٍ للفاتحة، والركوع مرة واحدة، والسجود مرتين، والتشّهد، والسلام، فهذه هي الأركان المتفق عليها بين المذاهب، فلا يحتاج المسلم، إذا انتقل من بلد إلى بلد، إلى تعلم الصلاة من جديد، بحسب مذهب أهل تلك البلد، بل أفعال الصلاة الأساسية، كإشارات المرور العالمية المتفق عليها.  
وأكثر من ذلك، فإنّ أفعال الصلاة وأقوالها المتفق عليها، هي التي تميّز المسلمين أينما كانوا، وأينما حلّوا.
3- الجماعة فيها: لها إمام هو كالقائد، يقود من وراءه، فيلتزمون بندائه وحركاته، دون تردّد، وصلاة الفروض الخمسة في جماعة، واجب أو سنة مؤكدة، بحسب اختلاف الفقهاء، ولا أقل من ذلك.
4- وهناك حثّ نبويٌّ وترغيب قويٌّ على التبكير إليها في أول وقتها.
5- ولا تجوز مخالفة الإمام، حتى لو سها فيها، بل يُتابع ويُسجد بسجوده.
وأما المرونة والتيسير في أعمال الصلاة، فكثير جداً، ولا تغيّر من جوهرها ومظهرها العام، وإنما تعطي راحة للمسلم في التنفيذ، وحرية في الاختيار وبين أمور مستحبة أو مباحة، وحتى في المكروهات اليسيرة. وأمثلة ذلك، ما يقابل ويكمّل قضايا النظام السابقة:
1- ففي أوقاتها نجد مرونة وتيسيراً واضحين، فلكل صلاة وقت واسع محدد البداية والنهاية، وللمسلم أن يصلي صلاته فيه، وتكون مُجزِية عنه، في أوله أو وسطه أو آخره، وإن كان المستحب والمقدّم غالباً، أول وقتها.
2- التيسير الثاني في الوقت، صحة قضائها بعد وقتها، إذا عرض عارض، أو كان هناك عذر من الأعذار الشرعية.
3- والثالث جواز -بل استحباب- جمع الصلاة وقصرها في السفر الطويل؛ لأنه مظنّة المشقة.
4- والرابع صحة صلاة المسبوق، وهو من فاتته ركعة أو أكثر مع الإمام، ولو لم تصح لكان هناك عَنَتٌ وحرج على المسلمين.
5- وأخطاء المصلين المأمومين، تغفرها الجماعة، ويتحمّلها الإمام.
6- ومن المرونة والتيسير في الصلاة، كثرة الأقوال والأفعال فيها، التي تُعدُّ من السُّنن، التي تجوز الصلاة مع تركها عمداً أو نسياناً، كقراءة آيات بعد الفاتحة، وتكبيرات الانتقال والتسبيحات والتشهد الأول، ورفع اليدين، وغيرها.
7- ومن المرونة والتيسير فيها، أيضاً، عدم تحديد زمن ثابتٍ لأدائها؛ فيمكن أداء كل صلاة بدقائق معدودات، ويمكن إطالتها إلى ساعة أو أكثر، وإنْ كان التخفيف في صلاة الجماعة هو المفضل المرغب فيه.
8- وكذلك انقسامها إلى فرائض، وسنن رواتب، وسنن مستحبات، هو نوع من المرونة فيها.
وأما علاقة نظام الصلاة بنظام الحياة الإسلامية الصحيحة، فإليك بيانه، وهو المقصود بهذا المقال:
أرى أنّ نظام الصلاة، سابقَ البيان، بجانبيه الانضباطيّ والتيسيريّ؛ ينبغي أن يوضع معياراً لأنظمة الحياة لدى المسلمين، على مستوى الأفراد وعلى مستوى المؤسسات والدول.
إنّ المنطق الصحيح، الذي يقرّه العقلاء من جميع البشر، ويؤيّده التطبيق العملي، يُقرُّ ويؤكّد أنّ أصحَّ أنظمة الحياة، وأسدّها، وأنفعها للناس، وأدومها، هو ما يجمع بين الصرامة والمرونة، وبين الشدة والرخاوة، وبين الحزم واللين، والمثل المقبول لدى جميع الناس قولهم: (لا تكنْ صُلباً فتكسر، ولا ليناً فتُعصر). وهذا مثل عام، وفي كل جانب من جوانب الحياة تجد مثلاً أو حكمة بهذا المعنى، يتواطؤ عليها البشر أينما كانوا.
فلو أننا أخذنا أنظمة الصلاة، كما مرّت آنفاً، وطبقناها على حياتنا، لاستقامت الحياة، وآتت ثمارها، من الدقة والانضباط في العمل، ووفرة الإنتاج، مع التعاون والتآلف، ومع السهولة واليسر، والبعد عن التعنيف وشدة التكليف.
ونأخذ بعض الأمثلة التطبيقية المهمة، متدرجة من الأدنى إلى الأعلى:
أولاً- مثال على مستوى الفرد أو الأسرة الواحدة:
إنّ كلَّ واحد منا، إذا كان عزباً، مسؤولاً عن نفسه فحسب، لو التزم في حياته الخاصّة الجانبين السابقين، أعني الانضباط والمرونة معاً، كما بُيّن؛ فإنه يُحقق من الإنجازات والعوائد، لنفسه ولغيره، أضعاف ما يُحصّله بالانضباط الصارم والتنطُّع وحده، أو بالمرونة والسهولة الدائمة وحدها.  وتوازن الجانبين، ينبغي أن يتعلمه المسلم، من نظام الصلاة.
وإن كان أحدنا صاحب أسرة، أو مشرفاً على أسرة، فكذلك عليه أن يقود مَن تحت يده، إلى ما فيه صلاحهم ورقيّهم، بطريقة الموازنة والجمع بين الحزم واللين، والانضباط والتيسير.
ثانياً- مثال على مستوى المؤسسات والدوائر والشركات:
كل مؤسسة أو شركة، لا بد من أن يكون لها أنظمة للعمل، لتقوم بما وُضعت له، وتحقق ما رُسم لها من أهداف، وتنتج ما يطلب منها من إنتاج؛ ابتداء من تحديد ساعات العمل، وأوقات الدوام، إلى صلاحيات كل فرد فيها ومسؤولياته، ثم علاقاتها مع الآخرين، من أفراد ومؤسسات أخرى.
فهذه الأنظمة الموضوعة لكل مؤسسة، تربوية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية؛ لا بد في تطبيقها من أمرين معاً، كما مرّ في نظام الصلاة؛ الأول: أساسيات وأركان، لا يجوز المساس بها ولا التخلي عنها، إلا في حالات نادرة لمصلحة العمل فيها.
الثاني: أمور ثانوية، أو مكمّلة، لا تؤثر على جوهر أدائها؛ فهذه ينبغي التيسير فيها على العاملين والموظفين، ومراعاة أحوالهم، وتفاوت قدراتهم، والمرونة معهم بما يشجعهم ويدفعهم إلى المزيد من العمل، والتعويض عن التقصير، تماماً كما يحدث في السنن المكمّلات للفرائض، من حيث جبر النقص وسد الخلل، واستكمال الأجر، وطرد الشرود، وتجميل المنظر والمظهر العام للصلاة.
ثالثاً- مثال على مستوى الأمم أو الدول:
إنّ سقوط الأنظمة الشيوعية بسبب شدّتها وصرامتها المفرطة؛ لأنها لا تتناسب وفطرة الحياة الإنسانية المتوازنة، مثال جليّ، لا يحتاج إلى البيان.
وكذلك انهيار دول وحضارات، لمّا تراخت في أنظمتها وتجاوزت الحدود في الحريات، والتسيّب والتفلت من القوانين والأنظمة، واقع أو متوقّع، وإن كان مظهرها العام مغرياً، تماماً كما هو حال الخشب إذا أُصيب بالتسوّس من داخله، وكان مطلياً من خارجه.
والأمثلة على هذا كثيرة في التاريخ، ولكن فيما ذكرنا غُنية؛ لأنه مثال عام جامع.
والذي أخلص إليه من مقالي هذا:
إنّ من أهم حِكم تكرار الصلاة في اليوم، خمسَ مرات، بنظام معين، يجمع بين الدقة والمرونة، والصرامة والتيسير، هي: أن يكون نظامها المتكامل، معياراً لأنظمتنا في الحياة، تقاس به، وتوزن عليه، ويعرف به مدى الالتزام أو الانحراف.
وإضافة لما سبق؛ فإنّ نظام الصلاة يجمع بين أمور تبدو متعارضة، لكنها متكاملة، لا بدّ منها لتحقيق التوازن في النفس الإنسانية؛ فهي تجمع بين الحرفيّة والتقليد من جهة، وبين التأمّل والتفكّر من جهة أخرى، وبين التعقّل والتخيّل. وفيها مظهر الحركة والنشاط والسعي ومخالطة الناس، مع احترامهم والتعاون معهم، والشعور بالمساواة نحوهم. وفيها إطاعة إمامهم، والشعور بالمسؤولية تُجاه الجماعة أو المجتمع.
وهذا كلُّه مطلوب في كل مؤسسة أو دائرة أو وزارة، أو شركة صغيرة أو كبيرة، فتامّل – أخي القارئ- هذا كلَّه، لتكتشف حكمة الله، ورحمته بنا، في تقرير نظام الصلاة علينا بهذه الكيفية البديعة، وهكذا جميع شرع الله وأحكامه، يتسم بالحكمة والرحمة، ولكلٍّ وجهته.


عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية