إن من ولد بالجزائر سنة 1905 يكون قد أتى في فترة يتصل فيها وعيه بالماضي الممثل في أواخر شهوده ، وبالمستقبل في أوائل صائغيه...هذا كلام مالك ابن نبي عن مولده الذي يراه وسطا بين ماض انقضى وانطفأ وهجه.. وهو الماضي الذهبي للأمة الإسلامية عندما كان المسلمون هم السادة لا المسودين .. والقادة لا المقودين ..وبين مستقبل باكورة صياغته لم تتم ،و لم تظهر ملامح تجليته على المسرح العالمي بعد.ولهذا حرص مالك ابن نبي على طول حياته العلمية و الفكرية أن يوصل الماضي المشرق للحضارة الإسلامية بجميع تفرعاتها العطائية في مضمار الإحياء الحضاري لكل ما ينفع الإنسانية. وهذا بالمستقبل الذي يجب أن يبنى بنفس الميكانزمات التي كانت ماضيا ..لأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أوله.فجاءت مساهماته الفكرية في الربط القوي بين ماض عزيز ومستقبل مفتوح على الشرود والحيرة بالاعتماد على صياغة رياضية مركبة من ثلاثة عناصر : الإنسان ،التراب ، الوقت .. وهذه العناصر لا يمكن لها أن تؤدي مفعولها القوي لو بقيت على شتاتها دونما تآلف وتكاثف .ويرى مالك ابن نبي أن التآلف لا يكفي إذا لم يأت عامل خارجي آخر يمارس دور المركب لهذه العناصر من أجل بلوغ الغاية المرجو ة .. هذا العامل الخارجي هو في حقيقة الأمر لازم .. ويعزوه مالك ابن نبي إلى عنصر العقيدة الدينية .والتأكيد على عنصر الدين في تمتين التآلف بين العناصر الثلاثة : الإنسان ،التراب ، الوقت من أجل بناء الحضارة – الشق المادي من الثقافة- أو ذلك الهدف المنشود آنف الذكر.وبغير الدين والعقيدة الدينية فإن تلاقي هذه العناصر الثلاثة لا جدوى منه وستظل على الحالة الذر ذرية التشتتية.. أو هو مجرد لا شيء.. ويوضح في نفس السياق مالك ابن نبي فيقول" إننا لكي نتوصل إلى التركيب الضروري حلا للمشكلة الإسلامية ،أعني مزج الإنسان ،والتراب ،والوقت ،يجب أن يتوافر لدينا مؤثر الدين الذي يغير النفس الإسلامية... (...).. والدين وحده هو الذي يمنح الإنسان هذه القوة ،فقد أمد بها أولئك الحفاة العراة من بدو الصحراء الذين اتبعوا هدي محمد صلى الله عليه وسلم.وبهذه القوة وحدها يشعر المسلم – على الرغم من فاقته وعريه الآن – بثروته الخالدة التي لا يدري من أمر استخدامها شيئا" . وعلى قدرة مركب الدين الذي يسميه مالك ابن نبي بالمُركِّب الحضاري..." catalyseur civilisationnel على التدخل في توصيل وتجميع وتركيب العناصر الثلاثة وجعلها تعمل ضمن النسق الطبيعي للسيرورة الحضارية .. فإن الأستاذ مالك ابن نبي يرفع الرداء عن طبيعة المُركِّب الحضاري هذا- العقيدة الدينية- فيشدد على تقسيم العقيدة الدينية إلى قسمين : قسم هو روح الدين، وقسم هو حرفية الدين. أما ما يكون القوة الماسكة للعوامل الثلاثة ،الإنسان،التراب، الوقت ويجعل الامتزاج امتزاجا له فعالية فهو فقط روح الدين وفي هذا الصدد يوضح مالك ابن نبي" ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثلا لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان، التراب، والوقت راكدة خامدة ،وبعبارة أصح مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ ،حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء – كما تجلت من قبل بالوادي المقدس ، أو بمياه الأردن- نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة ، فكأنما ولدتها كلمة "إقرأ" التي أدهشت النبي الأمي وأثارت معه العالم.فمن تلك اللحظة وثبت القبائل العربية على مسرح التاريخ ، حيث ظلت قرونا طوالا تحمل للعالم حضارة جديدة ،وتقوده إلى التمدن والرقي ومما هو جدير بالإعتبار أن هذه الوثبة لم تكن من صنع السياسيين ولا العلماء الفطاحل ،بل كانت بين أناس يتسمون بالبساطة، ورجال لا يزالون في بداوتهم ،غير أن أنظارهم توجهت في تلك اللحظات إلى ما وراء أفق الأرض أو إلى ما وراء الأفق القريب، فتجلت لهم آيات في أنفسهم وتراءت لهم أنوارها في الأفاق .نعم إنه لمن الغريب أن يتحول هؤلاء البسطاء ذوو الحياة الراكدة ، عندما مستهم شرارة الروح ، إلى دعاة إسلاميين ،تتمثل فيهم خلاصة الحضارة الجديدة وأن يدفعوا بروحها وثبة واحدة ، إلى تلك القمة الخلقية الرفيعة التي انتشرت منها حياة فكرية واسعة متجددة نقلت من علوم الأولين ما نقلت ، وأدخلت علوما جديدة ، حتى إذا بلغت درجة معينة ، انحدرت القيم الفكرية التي أنتجتها دمشق وبغداد وقرطبة وسمرقند".أما المقصود بحرفية الدين هو ما يعني الشكل دون المضمون .. أي الإطار الخارجي للدين وما يترائى للناس وطبيعي جدا أن نجد المسلمون نقلوا الحضارة الإسلامية* بفضل روح الدين الإسلامي لا بحرفيته ولقد ضاعت الأندلس لأن حرفية العقيدة الإسلامية حلت محل روحها .. فأصبح الدين الإسلامي شكلا دون المضمون.وقد ضرب مالك ابن نبي مثلا بما جرى في عهد الخليفة الثاني الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة. لقد عطل حد السرقة على ما نادى به آخرون لأن عمر ابن الخطاب كان يتعامل بروح الدين لا بحرفيته والأمة كانت في مجاعة .. ومنه فحد السرقة غير مستوفي الشروط. إن مالك ابن نبي وعى جيدا الملابسات التي تحوم حول تأخر المسلمين وهي التعامل مع العناصر الثلاثة : الإنسان،التراب ، الوقت .. التي هي موجودة عند كل المجتمعات بمنطق البناء الحقيقي لكل حضارة خصوصا لو كانت هذه الحضارة عالمية تختزن في جوفها رسالة هي للعالمين. . وتعجبني معادلة جبرية صاغها الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تكملة لما جاء به مالك ابن نبي .. أن العرب لا يساوون شيئا من دون الإسلام الحقيقي – روح العقيدة الإسلامية-.. هذه المعادلة متمثلة في : العرب – الإسلام=0