يعد سفر القضاة من أهم الأسفار التي تجسد فكرة الخلاص في العهد القديم، كما يرسم سفر القضاة صورة واضحة المعالم لشخصية المخلص، من الناحيتين الدينية والسياسية.
ويعد الخلاص من أهم الأفكار التي بنيت عليها الديانة اليهودية كما يعكسها العهد القديم، وترتبط فكرة الخلاص بفكرتي الاختيار والعهد؛ فقد اختار يهوه إسرائيل شعبا له دون سائر الشعوب، وعلى الشعب المختار أن يلتزم بالعهد المقطوع بينه وبين الرب، وهذا العهد ينص على التزام هذا الشعب بوصايا يهوه وعدم الشرك به من جانب، ومن جانب آخر يتعهد يهوه بحماية شعبه من جميع المخاطر ويمكنه من الاستقرار في الأرض التي أعطاه إياها ميراثا.
لكن إذا ترك الشعب يهوه وهجر وصاياه سوف يحل به العقاب الإلهي، ويظهر العقاب الإلهي إما في صورة كوارث بيئية طبيعية أو عن طريق عصا الرب المؤدبة لشعبه وهى باقي شعوب الأرض حيث يدفع الرب شعبه ليد تلك الشعوب فتتسلط عليهم.
وعندما يتوب الشعب ويرجع إلى طريق الرب يثيب يهوه شعبه ويتقبل توبتهم ويخلصهم من يد أعدائهم ومن هنا يرتبط مفهوم الخلاص بفكرة الثواب والعقاب، حيث يدخل الخلاص ضمن منظومة الثواب والعقاب، فالخلاص يعد ثواب على الرجوع إلى طريق الرب.
وهناك عبارات كثيرة في سفر القضاة تصف العلاقة بين يهوه وشعبه تلك العلاقة المتأرجحه بين طاعة يهوه والولاء له وبين معصيته والخروج على عبادته وما يتبع ذلك:
- (2: 11-19) " وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر وساروا وراء آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم وسجدوا لها وأغاظوا الرب... فحمى غضب الرب على إسرائيل فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم حولهم ولم يقدروا بعد على الوقوف أمام أعدائهم. حيثما خرجوا كانت يد الرب عليهم للشر كما تكلم الرب وكما أقسم الرب لهم. فضاق بهم الأمر جدا. وأقام الرب قضاة فخلصوهم من يد ناهبيهم... وحينما أقام الرب لهم قضاة كان الرب مع القاضي وخلصهم من يد أعدائهم كل أيام القاضي... وعند موت القاضي كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم..."
- (3: 12-15) " وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فشدد الرب عجلون ملك موآب على إسرائيل لأنهم عملوا الشر في عيني الرب فجمع إليه بني عمون وعماليق وسار وضرب إسرائيل وامتلكوا مدينة النخل... وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب فأقام لهم مخلصا إهود بن جيرا البنياميني..."
- (10: 6-15) " وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم و العشتاروث وآلهة أرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين وتركوا الرب ولم يعبدوه. فحمى غضب الرب على إسرائيل وباعهم بيد الفلسطينيين وبيد بني عمون... فصرخ بنو إسرائيل إلى الرب قائلين أخطأنا إليك لأننا تركنا إلهنا وعبدنا البعليم. فقال الرب لبني إسرائيل أليس من المصريين والأموريين وبني عمون والفلسطينيين خلصتكم... وأنتم تركتموني وعبدتم آلهة أخرى لذلك لا أعود أخلصكم. امضوا واصرخوا إلى الآلهة التي اخترتموها لتخلصكم... فقال بنو إسرائيل للرب أخطأنا فافعل بنا كل ما يحسن في عينيك إنما أنقذنا هذا اليوم."
ومن جانب آخر يرتبط الخلاص بالاختبار الإلهى، اختبار يهوه لشعبه المختار، فقد ترك يهوه باقي شعوب الأرض لكي يمتحن بهم شعبه لكي يعلم هل يلتزم شعبه بوصاياه أم يسير وراء الشعوب الوثنية وينخرط معهم.
وتشير العبارات(2: 21-23) من سفر القضاة إلى ذلك " فأنا (يهوه) أيضا لا أعود أطرد إنسانا من أمامهم من الأمم الذين تركهم يشوع عند موته لكي امتحن بهم إسرائيل أيحفظون طريق الرب ليسلكوا بها كما حفظها آباؤهم أم لا فترك الرب أولئك الأمم ولم يطردهم سريعا ولم يدفعهم بيد يشوع".
وكذلك العبارات (3: 1-4) من سفر القضاة " فهولاء الأمم الذين تركهم الرب ليمتحن بهم إسرائيل... أقطاب الفلسطينيين الخمسة وجميع الكنعانيين والصيدونيين والحويين... كانوا لامتحان إسرائيل بهم لكي يعلم هل يسمعون وصايا الرب التي أوصى بها آباءهم عن يد موسى".
لكن هل ينجح الشعب المختار في الاختبار الإلهي، أم يعمل الشر في عيني الرب؟
يبدو أن الشعب لم ينجح في الاختبار الإلهي كما تشير العبارات(3: 5-8) من سفر القضاة "فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحيثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء واعطوا بناتهم لبنيهم وعبدوا آلهتهم فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والسواري فحمى غضب الرب على إسرائيل فباعهم بيد ..."
لكن هل الخلاص يتم عن طريق مخلص يتحقق على يده الخلاص، أم أن الخلاص يتم عن طريق التوبة والندم والعودة إلى طريق الرب،أو بعبارة أخرى هل يخلص يهوه شعبه عن طريق وسيط أم أن هناك علاقة مباشرة بين يهوه وكل فرد من شعبه.
تشير بعض عبارات سفر القضاة إلى ارتباط الخلاص بالتوبة والندم، توبة بني إسرائيل وندمهم وصراخهم إلى الرب لكي يخلصهم من يد أعدائهم، كما تشير العبارة (3: 9) "وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب فأقام الرب مخلصا لبني إسرائيل فخلصهم."
علاوة على ندم الرب على ما فعله بشعبه، كما يتضح من العبارة ( 2: 18) " وحينما أقام الرب لهم قضاة كان الرب مع القاضي وخلصهم من يد أعدائهم كل أيام القاضي. لأن الرب ندم من أجل أنينهم بسبب مضايقتهم وزاحميهم."
ومن جانب آخر تُشير العديد من عبارات سفر القضاة إلى ضرورة وجود وسيط بين يهوه وشعبه يلقى على عاتقه قيادة الشعب ويتحقق على يديه الخلاص. ولابد من أن تتوفر بعض الصفات في شخصية المخلص ، وفيما يلي إشارة إلى أهمها:
ملامح شخصية المخلص كما تصفها عبارات سفر القضاة:
شخصية المخلص – كما تصفها عبارات سفر القضاة – شخصية تتوافر فيها صفات الزعامة والشجاعة، والسير في طريق الرب.
وتشير بعض عبارات سفر القضاة إلى أن المخلص أو الزعيم الذي يقود الشعب إلى طريق الخلاص لابد وأن يكون باختيار إلهي، فقد يظهر له ملاك الرب كما تشير العبارات (6: 11-16) " وأتى ملاك الرب وجلس تحت البطمة التي في عفرة التي ليوآش الأبيعزري. وابنه جدعون كان يخبط حنطة في المعصرة...فظهر له ملاك الرب وقال له الرب معك يا جبار البأس. فقال له جدعون أسألك يا سيدي إذا كان الرب معنا فلماذا أصابتنا كل هذه وأين عجائبه التي أخبرنا بها آبائنا ألم يصعدنا الرب من مصر. والآن قد رفضنا الرب وجعلنا في كف مديان. فالتفت إليه الرب وقال اذهب بقوتك هذه وخلص إسرائيل من كف مديان. أما أرسلتك. فقال له أسألك يا سيدي بماذا أخلص إسرائيل ها عشيرتي هي الذلى في منسي وأنا الأصغر في بيت أبي. فقال له الرب إني أكون معك وستضرب المديانيين كرجل واحد."
وكذلك تشير بعض عبارات سفر القضاة إلى أن روح الرب تحل على المخلص، (3: 9-10) "وصرخ بنو إسرائيل إلى الرب فأقام الرب مخلصا لبني إسرائيل فخلصهم عثنيئيل بن قناز أخا كالب الأصغر فكان عليه روح الرب وقضى لإسرائيل وخرج للحرب فدفع الرب ليده كوشان رشعتايم."
وكذلك فقد حلت روح الرب على شمشون أكثر من مرة، (14: 5-6) " فنزل شمشون وأبوه وأمه إلى تمنة وأتوا إلى كروم تمنة. وإذا بشبل أسد يزمجر للقائه فحل عليه روح الرب فشقه كشق الجدي وليس في يده شئ. "، (15: 13-16) " فأوثقوه (شمشون) بحبلين جديدين وأصعدوه من الصخرة، ولما جاء إلى لحي صاح الفلسطينيون للقائه. فحل عليه روح الرب فكان الحبلان اللذان على ذراعيه ككتان أُحرق بالنار فانحل الوثاق عن يديه. ووجد لحى حمار طريا فمد يده وأخذه وضرب به ألف رجل. فقال شمشون بلحى حمار كومة كومتين. بلحى حمار قتلت ألف رجل.
هذا بالإضافة إلى أن الخلاص يتحقق بالحيلة والخداع، فمن حين لآخر يشير سفر القضاة إلى صفة من أهم صفات المخلص وهى الحيلة والخداع، فقد يلجأ المخلص لاستخدام حيله لكي يتخلص من عدوه ويحقق الخلاص لشعبه مثلما فعل إهود بن جيرا البنياميني عندما أراد التخلص من عجلون ملك موآب (3: 15-26)، وأيضا تم التخلص من سيسرا رئيس جيش ملك كنعان عن طريق الحيلة (4: 17-22).
ومن الملاحظ أنه هناك ربط واضح بين الخلاص والقضاء، فقد جمع العديد من مخلصي سفر القضاة بين القضاء والخلاص، فقد يكون هذا المخلص قاضيا مثل عثنيئيل بن قناز وإهود بن جيرا وشمشون، وقد يجمع المخلص بين القضاء والنبوة مثل دبورة، وقد يكون المخلص ملكا مثل أبيمالك بن يربعل.
ولا يقتصر الخلاص على الرجال دون النساء، فقد كانت دابورة مخلصة، وكذلك فقد خلصت ياعيل امرأة حابر القيني إسرائيل من سيسرا رئيس جيش ملك كنعان.
ولابد أن ندرك أن القضاء والخلاص من صفات يهوه فمثلما أشارت عبارات سفر القضاة أن يهوه هو المخلص تشير أيضا العبارة (11: 27) إلى أن يهوه هو القاضي ".. ليقض الرب القاضي اليوم بين إسرائيل وبني عمون.
وبعيدا عن الدور الذي يقوم به المخلص، نلاحظ ارتباط الخلاص بما يسمى فعل يهوه الخلاصي أو بعبارة أُخرى المعجزات التي يحدثها الرب من أجل خلاص شعبه، ولا شك في أن ذلك يمزج بين الخلاص وفكرة الإله المحارب أو " رب الجنود".
ولعل الخلاص – كما تعبر عنه عبارات سفر القضاة ـ يجعل من يهوه الإله المسيطر على الطبيعة والتاريخ والمتحكم في المصائر والأقدار.
فمن الملاحظ أن معارك الخلاص لا تعتمد على تكافؤ قوى الجيشين المتشابكين، بل تعتمد في الكثير من الأحيان على معجزات يهوه، وهذا ما يسمى بفعل يهوه الخلاصي، (7: 2-25) " وقال الرب لجدعون إن الشعب الذي معك كثير علىّ لأدفع المديانيين بيدهم لئلا يفتخر علىّ إسرائيل قائلا يدي خلصتني... فرجع من الشعب اثنان وعشرون ألفا وبقى عشرة آلاف، وقال الرب لجدعون لم يزل الشعب كثيرا انزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك هناك ويكون أن الذي أقول لك عنه هذا يذهب معك فهو يذهب... وقال الرب لجدعون كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده... وكان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاث مئة رجل... وقال الرب لجدعون بالثلاث مئة الرجال الذين ولغوا أخلصكم وأدفع المديانيين ليدك... وكان في تلك الليلة أن الرب قال له قم انزل إلى المحلة لأني دفعتها إلى يدك... وكان عدد المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق حالين في الوادي كالجراد في الكثرة وجمالهم لا عدد لها كالرمل... وقسم (جدعون) الثلاثة مئة رجل إلى ثلاث فرق وجعل أبواقا في أيديهم كلهم وجرارا فارغة ومصابيح في وسط الجرار... فضربت الفرق الثلاث بالأبواق وكسروا الجرار وأمسكوا المصابيح بأيديهم اليسرى والأبواق بأيديهم اليمنى ليضربوا بها وصرخوا سيف للرب ولجدعون. ووقفوا كل واحد في مكانه فركض كل الجيش وصرخوا وهربواز وضرب الثلاث المئين بالأبواق وجعل الرب سيف كل واحد بصاحبه وبكل الجيش فهرب الجيش ..."
وكذلك تصف العبارات (16: 23- 30) تحقق الخلاص من الفلسطينيين بفضل شمشون صاحب الخلاص العظيم "وأما أقطاب الفلسطينيين فاجتمعوا ليذبحوا ذبيحة عظيمة لداجون إلههم ويفرحوا وقالوا قد دفع إلهنا ليدنا شمشون عدونا... وكان لما طابت قلوبهم أنهم قالوا ادعوا شمشون ليلعب لنا. فدعوا شمشون من بيت السجن فلعب أمامهم وأوقفوه بين الأعمدة. فقال شمشون للغلام الماسك بيده دعني ألمس الأعمدة التي البيت قائم عليها لأستند عليها.وكان البيت مملؤا رجالا ونساء وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين وعلى السطح نحو ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون. فدعا شمشون الرب وقال يا سيدي الرب اذكرني وشدني يا الله هذه المرة فقط فأنتقم نقمة واحدة عن عيني من الفلسطينيين. وقبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائما عليهما واستند عليهما الواحد بيمينه والآخر بيساره... وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه ..."