علم طريق الآخرة هو العلم الذي افتتح به الإمام الغزالي مشروعه الكبير في إحياء علوم الدين. فهذا العلم الذي عرفه السلف الصالح، وما سماه الله سبحانه في كتابه: حكمة وعلمًا وفقهًا وضياءً ونورًا ورشدًا قد أصبح دارسًا في أيام الغزالي، كما يذكر. [1] ومن المؤكد أن العلم المذكور مقدمة هامة جدًا في فهم فقه الباطن عنده، وتحديدًا صوم الباطن، محور البحث الحالي. والغزالي بعد أن رتب العلوم إلى أربعة أرباع: العبادات والمعاملات والمنجيات والمهلكات، أشار إلى أن الباعث على هذا الترتيب، هو أمران: نأخذ منهما الأول، وهو " ... أن العلم الذي يتوجه به إلى الآخرة ينقسم إلى علم المعاملة و علم المكاشفة، وأعني بعلم المكاشفة ما يطلب منه كشف المعلوم فقط، وأعني بعلم المعاملة ما يطلب منه مع الكشف العمل به، والمقصود من هذا الكتاب علم المعاملة فقط دون علم المكاشفة التي لا رخصة في إيداعها الكتب وإن كانت هي غاية مقصد الطالبين ومطمع نظر الصديقين، وعلم المعاملة طريق إليه لم يتكلم الأنبياء صلوات الله عليهم مع الخلق إلا في علم الطريق والإرشاد إليه. وأما علم المكاشفة فلم يتكلموا فيه إلا بالرمز والإيماء على سبيل التمثيل والإجمال، علمًا منهم بقصور أفهام الخلق عن الاحتمال، والعلماء ورثة الأنبياء فما لهم سبيل إلى العدول عن نهج التأسي والإقتداء." [2]
وهنا يصل الغزالي إلى التفرقة بين علمي الظاهر والباطن[3] في مجال علم المعاملة، فيشير إلى أن هذا العلم ينقسم إلى علم ظاهر، وهو العلم بأعمال الجوارح، وإلى علم باطن، وهو علم أعمال القلوب[4]، " والجاري على الجوارح إما عادة وإما عبادة والوارد على القلوب التي هي بحكم الاحتجاب عن الحواس من عالم الملكوت إما محمود وإما مذموم، فبالواجب انقسم هذا العلم إلى شطرين ظاهر وباطن. والشطر الظاهر المتعلق بالجوارح انقسم إلى عادة وعبادة، والشطر الباطن المتعلق بأحوال القلب وأخلاق النفس انقسم إلى مذموم ومحمود، فكان المجموع أربعة أقسام ولا يشذ نظر في علم المعاملة عن هذه الأقسام." [5]
ويفصل الغزالي أكثر في بيان علوم طريق الاخرة، وهي قسمان كما تقدم، أولهما: علم المكاشفة، وهو علم الباطن، وهو غاية العلوم، كما يرى. " وهو علم الصديقين والمقربين، أعني علم المكاشفة فهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أشياء كثيرة كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم له معاني مجملة غير متضحة، فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة الحقيقية بالله سبحانه..." ، وأما القسم الثاني، وهو علم المعاملة، فهو: " علم أحوال القلب: أما ما يحمد منها فكالصبر، والشكر، والخوف، والرجاء، والرضا، والزهد، والتقوى، والقناعة، والسخاء، ومعرفة المنة لله تعالى في جميع الأحوال، والإحسان، وحسن الظن، وحسن الخلق، وحسن المعاشرة، والصدق، والإخلاص، ..." [6]
ومن خلال ذلك نفهم أيضاً أن الغزالي يرى أن " وراء العقل وعالم الحس والمادة [ عالماً ] آخر وهو عالم " الحقيقة المطلقة مما لا يمكن الوصول إليه عن طريق الإدراكات الحسية أو بدليل العقل وطريق البرهان، بل يكون إدراكه عن طريق: الكشف والإلهام..." [7] من هذه المقدمة عن علم طريق الآخرة وفروعه عند الغزالي، يمكن فهم الفكرة الغزالية عن الصوم، حيث يتقلب الصائم من مجموعة من الأعمال المرتبطة بالجسد بشكل ظاهري[8]، الى حيث القلب، مركز العمل الباطني، وفي هذه الحالة صوم الباطن، كما هو معلوم. وبموجب الملاحظة ذاتها، فالغزالي لا يتحدث عن الصوم بوصفه جملة أحكام مرتبطة بالجسد بمعناه الخارجي[9]،فقط، وان كانت هذه الأحكام، أي أحكام الظاهر، محور بحث له أيضًا. بل هو يبحث الصوم بوصفه أسرارًا، يعاد إحياءها ويجدد اكتشافها بشكل استثنائي. ومن ثم فللصوم عنده ثلاث درجات: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص.
أما الصوم الأول: فهو كف للأعمال الظاهرية الجسدية المحرمة شرعًا في نهار الصيام، كقضاء الشهوة. وأما صوم الخصوص، فهو: كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص: فهو صوم القلب عن الأفكار الدنيوية وكل ما يشغل عن الله سبحانه بالكلية. [10]
وهنا يضع الغزالي مجموعة من القواعد تتعلق بالنوع الثاني من مقامات الصائمين، وهو صوم الخصوص أو صوم الصالحين، وهذه القواعد كما يأتي:
1- غض البصر عن كل ما حرم الله، وعن كل ما يشغل عنه سبحانه.
2- حفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والمراء والخصومة.
3-كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه ومحرم.
4-كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره.
5-عدم الاستكثار من الطعام الحلال وقت الإفطار، فمعلوم: " أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى. "
6-أن يكون القلب بعد الإفطار معلقًا بين الخوف والرجاء، لأنه لا يدري هل قبل صومه أم لا. [11]
[1] الغزالي (ت505 ه): " إحياء علوم الدين "، تقديم ومراجعة صدقي جميل العطار، ط1 دار الفكر، بيروت، 1426 – 1427 ه / 2006 م، 1 / 7.
[2] نفسه، 1 / 8.
[3] حول التفرقة بين الظاهر والباطن عند الغزالي وغيره من علماء الروح، ينظر: د. محمد عبد الهادي أبو ريده: " العقل عند الغزالي"، مجلة العربي، الكويت، العدد 249، آب 1979 م، ص 35، د. عرفان عبد الحميد فتاح: " نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها في الإسلام"، المكتب الإسلامي، بيروت، 1394 ه – 1974 م، ص 125 وما بعد، رواء محمود: " مشكلة النص والعقل في الفلسفة الإسلامية – دراسات منتخبة"، ط1 ، دار الكتب العلمية، بيروت، 1427 ه – 2006 م، ص 125 وما بعد.
[4] من اللافت للنظر إلى أن المعرفة القلبية صارت تبحث الآن بحثًا فلسفيًا مرتبطًا بالعلوم، ينظر: د. علي حسين الجابري: " محنة الإنسان بين العلم والفلسفة والدين – دراسة لعلاقة العلوم المعاصرة بالمعرفة القلبية"، دار نينوى، دمشق، 1430 ه – 2009 م، ص 165 وما بعد.
[5] الغزالي: " إحياء علوم الدين "، 1 / 8.
[6] نفسه، 1 / 19 – 20.
[7] د. عرفان عبد الحميد فتاح: " الإمام الغزالي – دراسة في المنهج "، فرزة من مجلة المجمع العلمي العراقي، الجزآن الثالث والرابع – المجلد الثاني والثلاثون، ذو الحجة 1401 ه – تشرين الأول 1981 م، ص 591.
[8] من المصادر التي تشير إلى الأحكام الظاهرية للصيام: الموصلي الحنفي: " الاختيار لتعليل المختار"، وعليه تعليقات لفضيلة المرحوم الشيخ محمود أبو دقيقة، ط 2، مطبعة البابي الحلبي، مصر، 1370 ه – 1951 م، ص 125 – 139، د. هاشم جميل: " مسائل من الفقه المقارن"، القسم الأول: " أحكام تتعلق بالعبادات"، ط 1، دار السلام، دمشق – بغداد، 1428 ه – 2007 م، ص 281 – 350.
[9]يشغل الجسد الآن مساحة كبيرة من مجمل التفكير الفلسفي الحالي: تابع: د. حسن حنفي: " الروح والجسد في القرآن الكريم"، بحث منشور في: مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، المجلد 37، العدد 4، أبريل، يونيو، 2009 م، ص 7 – 10، وأيضًا: د. محمد إقبال عروي: " مستويات حضور الجسد في الخطاب القرآني ( دراسة نصية)، عالم الفكر، العدد نفسه، ص 11 – 31، د. يوسف تيبس: " تطور مفهوم الجسد: من التأمل الفلسفي إلى التصور العلمي "، عالم الفكر، العدد نفسه، ص 33 – 86.
[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، 1 / 163.
[11] نفسه، 1 / 162 – 163.
التدقيق اللغوي للمقالة : لجين قطب .