قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" (سورة الصف: آية 2-3). لا نريد أن نتحدث عن الشخصية الإسلامية المثالية التي تقدمها كتبنا النظرية، بل نريد أن نسلط الضوء على السلوك الواقعي للمسلم في حياته اليومية، ونحن نزعم أن معظم مشاهداتنا لسلوك إخواننا من المسلمين الذين عشنا بينهم وعرفناهم خلال سنوات حياتنا، والذين ينتمون إلى عدة مجتمعات إسلامية -بما فيها الجالية الإسلامية في ألمانيا- إنما تعكس حالة من الفصام الحاد والازدواجية، بين الإطار النظري الذي نزعم بأننا نؤمن به، والسلوك الواقعي، فأي مسلم عندما تجلس معه، وتناقشه في معتقده الديني، سوف يقدم لك صورة رائعة، تكاد تكون صورة مثالية للمواطن الصالح الذي يتمسك بأعلى درجات الفضيلة، لكن إذا ما انفك النقاش، وخرج للحياة الواقعية، وجدت أن سلوكه يخالف معتقده بصورة فجة!. ولكي لا نقع في الحكم بالتعميم، سوف نضرب أمثلة واقعية من حياة المسلمين، فمثلًا: الصدق في التعامل والحديث، والمواعيد والاتفاقات،
هي من الفضائل التي يحث عليها الإسلام، بل هي فريضة إسلامية يجب أن يلتزم بها المسلمون، في حين نجد أن الكذب، والغيبة، ونقض العهود والمواعيد، منتشر بين المسلمين مع الأسف! وكذلك النظافة في الملبس، والمسكن، والحي أيضًا، مطلب إسلامي، وما عليك إلا المرور في الأحياء الإسلامية حتى تجد تراكم القمامة، ومخالفة قواعد السير ظاهرة للعيان!. والعمل فريضة إسلامية، لكن للأسف تجد أن كثيرًا من المسلمين القادرين على العمل، يعتمدون على المساعدات الاجتماعية بدلًا من البحث عن العمل الشريف! ونستطيع أن نضرب عددًا لا ينتهي من الأمثلة التي تعكس واقعًا مريرًا عند المسلمين، يؤكد وجود حالة الفصام في الشخصية، بين الإطار النظري والسلوك الواقعي. وهذا الأمر ينطبق على الكثير من القضايا المهمة، كالقضايا التي تخص معاملة المرأة وحقوقها -التي ضمنتها لها الشريعة الإسلامية- في مسائل الإرث، والزواج، والطلاق، والتربية، ومختلف أشكال السلوك الاجتماعي، وكثيرًا ما يتساءل المرء: كيف أن مجتمعًا أغلب سكانه من المسلمين الذين يؤمنون أن الرشوة محرمة، وعلى الرغم من ذلك فإن الرشوة تنتشر بنسبة تتجاوز تسعين بالمئة في المعاملات التي تجري في هذا المجتمع؟! هذا التناقض في سلوك الفرد المسلم، يدفع المرء لطرح بعض الأسئلة، التي يعتقد بعض الناس أنها أسئلة غير منطقية أو غير مبررة، مثل: هل تكمن المشكلة في التربية الإسلامية؟ أم في أدواتها ووسائلها المنهجية؟ أم في المنظومة الأخلاقية التي تستند إليها هذه التربية؟ أم في الخاضعين لهذه التربية؟ وهل العلاقة بين المنظومة الأخلاقية التابعة للدين الإسلامي، والمعتنقين لها، هي علاقة جدلية أم علاقة تبعية؟ أي: هل المنظومة التشريعية للدين الإسلامي -كما هي عليه الآن- منظومة غير صالحة لتطبيقها في الحياة الاجتماعية؟ وبالتالي يجب تغييرها أو تطويرها؟ أم المشكلة تكمن في مستوى الوعي العقلي والثقافي عند المنتسبين لهذه المنظومة من المسلمين مثلًا؟ أم المشكلة تكمن في طرفي هذه العلاقة معًا؟ وهنا نلفت الأفهام إلى أننا هنا غير معنيين بمناقشة دور العوامل الأخرى المؤثرة في تكوين الشخصية الإسلامية وسلوكها، مثلًا: كدور المؤسسات السياسية، والأجهزة الإدارية، التي تساهم، بل تلعب دورًا أساسيًّا -في كثير من الأحيان- في نشر الفساد الاجتماعي، كظاهرة الرشوة على سبيل المثال، لكن ما يهمنا في هذه النقطة بالذات، هو فقط دور الثقافة والتربية الإسلامية، ومدى فاعلية أدواتها المنهجية التربوية العملية، في تكوين الشخصية الإسلامية. وإن كان من الصعوبة بمكان أن يتم عزل دور المكون الديني في صياغة معالم السلوك الاجتماعي، عن بقية المكونات المادية والثقافية الأخرى، إلا أننا نتكلم في إطار تصور وصفي تحليلي نسبي للدور الأساسي الذي يمارسه الفكر الديني في رسم معالم الشخصية العربية الإسلامية، وأشكال ممارساتها الفكرية والسلوكية. فتصورنا للمشكلة نراه هنا من خلال مستويين، الأول: يقع في إطار البنية الداخلية للتربية الإسلامية، في حين يقع الثاني: في إطار العوامل الخارجية المحيطة بها. المستوى الأول يجب أن يتناول ضعف الأدوات التربوية المستندة إلى مرجعية إسلامية، وهذا الضعف قد تأتّى بسبب قدم هذه الأدوات وعدم قدرتها، أو بشكل أدق عدم السماح لها بمواكبة الطرق التربوية الحديثة! التربية اليوم "علم" شديد الأهمية، له فنونه وأساليبه ومناهجه. للأسف ما تزال الكثير من المدارس الدينية تتبع أساليب المسلمين في القرون الوسطى والقرون المتأخرة، وليس لدينا اعتراض على هذه الأساليب التي كانت شديدة النفع في زمانها، ولكن الجيل تغير، والزمان تغير، والفهم للحياة وظروفها تغير؛ فلا بد بالمقابل أن يواكب ذلك تغير في المناهج والطرائق التربوية. ونحن نتحدث من واقع خبرة عملية، وليس مجرد تأمل نظري، فقد سنحت لنا الظروف أن نطلع على الطرائق والأساليب المتبعة في المعاهد الشرعية، سواء في بعض البلدان الإسلامية، أو في بعض معاهد الجالية المسلمة في ألمانية، فقد لاحظنا الفرق الشاسع بين مستوى تأصيل الثقافة الإسلامية، ومدى انعكاسها في سلوك ووعي الطالب بين من لقن المعارف بطريقة غير صالحة لزمانه، باتباع سبل تقليدية موروثة تعتمد على حشو المعلومات في رأس الطفل أو المتعلم، دون مراعاة ملاءمتها لفهمه ونفسيته، وبين تجربة خاصة لسلسلة من المعاهد التي تبنت أساليب معاصرة ومدروسة بصورة علمية، وروعي فيها الأبعاد النفسية، والعوامل الاجتماعية، وتنمية المهارات الفردية، وتقوية الروح الجماعية، وبعد اطلاعنا على بعض ثمار هذه التربية، لم يكن أمامنا إلا أن نقف بكل فخر واعتزاز للإنجاز الكبير الذي حققه المشرفون على تلك المعاهد، والذين هم إلى الآن جنود مجهولون، ولكن إذا أنسئ لنا في الأجل، فسوف نتحدث عن هذه التجربة التربوية الناجحة باستفاضة، عساها تطبق في مدارس ومعاهد أخرى؛ فتعم الفائدة المرجوة منها، في جعل السلوك العملي قريبًا نسبيًّا من التصور النظري، ولعلها تساهم بخطوة صغيرة في هذا المجال. إذًا، نرى وجوب تحديث أساليب التربية الإسلامية، وتطوير مناهجها؛ لكي تتجاوب مع روح العصر، وألا نبقى تابعين في معاهدنا، وكلياتنا التربوية الحكومية، على ما يفد لنا من الغرب، أو على ذخيرتنا التربوية من القرون الوسطى، والتي كانت في مقاييس ذلك العصر أبحاثا معمقة ومكثفة، فدونكم ما أنجزه أبو حامد الغزالي في الإحياء. لكن مع التراجع والانكماش الذي طرأ على العقل الإسلامي العلمي، وتراجع المباحث كافة، تراجعت كذلك الأبحاث التربوية، وصرنا فيها كغيرها عالة على غيرنا. وكل ذي فطنة يعلم بأن البحث التربوي من أهم -هذا إذا لم يكن الأهم على وجه الإطلاق- التخصصات في عملية بناء الفرد والمجتمع، وإننا لنأمل أن يقُيّض الله من شباب هذه الأمة من أهل هذا التخصص، من يخلص النية والجهد في سبيل إعادة بناء مناهج تربوية إسلامية، تراعي خصوصية مجتمعاتنا وظروفها. أما على المستوى الخارجي فإن كثيرًا من العوامل تلعب دورًا مباشرًا في تعميق الهوة بين القناعة النظرية والسلوك العملي عند الفرد المسلم، سواءً في مجتمعه أم في خارجه. ومنها على سبيل المثال: محاربة بعض المنظومات السياسية التابعة في بعض البلدان الإسلامية والعربية للسلوك الإسلامي باسم التقدم والتمدن وغيره من المزاعم -التي هي كلمات حق أريد بها باطل-، وفرضها عقوبات شديدة على ممارسة بعض نواحي التربية الإسلامية، وهذا من أعجب وأغرب ما حمله لنا الزمان، فالحاكم الذي يتوجب عليه خدمة الشعب وثقافته ومبادئه صار يقوم بدلاً من ذلك بمحاربته!! حتى إن بعض السفهاء من المخلوعين، جعل دخول المسجد بإذن وبمواقيت! ثم يسمح من جهة أخرى بأن تستحوذ مناهج تربوية غريبة لا تنتمي للمجتمع على عملية التربية في المدارس والجامعات وفي وسائل الإعلام، فثوابتنا ومعتقدنا وفهمنا شيء، ونجبر على تعلم وممارسة شيء آخر، مخالف له تمامًا، فحدثت حالة من التشوه في نفسية الفرد المسلم، وفقد القدرة على التوفيق بين ما يجب عليه تعلمه وممارسته، وبين ما يأمره به دينه وقيمه. ومع الزمن نمت عملية الازدواجية في نفسية المتعلم، حتى أصبح يطبقها في مختلف جوانب حياته بصور لا شعورية، فقد تمرن عليها في طفولته لكي يستطيع تحقيق نوع من التوازن والوفاق في الشكل الخارجي لحياته الاجتماعية. لذلك فإن ما نحتاجه الآن وما يجب التركيز عليه، هو: أن يتم العمل فورًا على إعادة النظر في المناهج والطرائق التربوية، وليس على مستوى الحياة الدينية فحسب، بل على كافة مجالات الحياة، وخاصة الجانب العلمي منها. إن تفشي جملة من الأمراض الاجتماعية من مثل الرشوة، والغش، وعدم إتقان العمل، والفشل العلمي، وتدني مستوى الجودة التعليمية في المدارس والمعاهد والجامعات... إلخ؛ إنما يكون في مجمله ناتجا عن فشل الأساليب التربوية في المجتمع، وليس لدينا أدنى درجات الشك بأن كثيرًا من الأنظمة العربية الفاشية، قد تعمدت أن تدمر قطاع التربية، من خلال كثير من الإجراءات، والتي من أهمها إهمال دور المعلم وإهانة شخصيته وكرامته، وخاصة من خلال تخفيض الأجر الذي يتقاضاه، بل إن دخل المعلم في معظم الدول العربية هو من أدنى الدخول، وهذا أمر في غاية العجب! يخيل للمرء في بعض الأحيان لو أن عدوًا من الأعداء اللدودين للمجتمع العربي والإسلامي قد سلط لتدمير البنية التعليمة، وتدمير الإمكانيات البشرية في مجتمعاتنا، لما استطاع أن يفعل أكثر مما فعلته بعض الأنظمة الفاشية في مجتمعاتنا!. ما زلت أذكر أن مدير الإعدادية التي درست بها، وهو رجل مضرب المثل في إخلاصه وتميزه في مهنته التعليمية، كان يضطر أن يعمل في الإجازة عتالا في سوق الخضرة، وغيره إسكافيا، وغيره بياع ورق يانصيب أو تاجر دخان، وحدث ولا حرج، ثم كيف نتخيل أن التعليم الحكومي لن يفشل، وكيف لا يصاب الإنسان العربي والمسلم بازدواجية الشخصية بل الفصام الحاد، في حين تنفق المليارات على الراقصات وبياعات الهوى والسخافات والسفاسف!. ربما لن نبالغ إذا قلنا إن المعلم هو أحد أهم أركان أي مشروع إصلاحي للنهوض بمجتمعاتنا، فهو القادر إذا ما أتيح له أن يمارس مهنته بوصفها رسالة مقدسة على أن ينشئ جيلا جديدا يتجاوز حالة الفصام الحالية، فتكون حياتنا العملية انعكاسًا لقناعاتنا النظرية. ولعلّ معظمنا قد سمع أو قرأ عن قصة إمبراطور اليابان "ميجي أو ميجو أو موتسوهيتو" (1852- 1912) عندما اجتمع مع حكماء بلده ليخرجوا البلاد من تخلفها ويعملوا على تحديثها، فكان من أهم القرارات التي خرجوا بها آنذاك أن جعلوا دخل المعلم من أعلى الدخول، وجعلوا مهنته أكثر المهن قيمةً وقدسيةً، وبذلك تأتى لهم فيما بعد النهوض بأجيالهم ومجتمعهم. وقد نسبت إليه مقولة تكتب بماء الذهب: "المعرفة سوف يبُحث عنها ويقُتفى أثرها في كل أنحاء العالم".1 وحالنا كالذي يتسول التبر وهو مالك الذهب، أفلسنا نحن أمة "اقرأ"؟! ثم إن كبار الحكماء في تاريخ البشرية وعلى رأسهم الأنبياء، كثيرًا ما يطلق عليهم لقب (مُعلم). سيكون أمامنا وأمام أجيالنا القادمة الكثير من العمل والمهام؛ للنهوض بأنفسنا ومجتمعاتنا، والبداية تكون بأن نتصالح مع أنفسنا وهويتنا، وأن نتجاوز الفصام في فكرنا وسلوكنا.
مصدر: 1- من أجل مزيد من المعلومات حول حركة هذا الإمبراطور الإصلاحية راجع كتاب: رايشاور، أدوين: اليابانيون، ترجمة ليلى الجبالي، مراجعة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، العدد 136، الكويت، 1989، ص. 103- 115 وص. 223-241. وأيضاً راجع كتاب: ضاهر، مسعود: النهضة اليابانية والنهضة العربية، تشابه المقدمات واختلاف النتائج، سلسلة عالم المعرفة، العدد 252، الكويت، 1999، ص. 219- 259.
التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي