الشمس هي المصباح المنير الذي أشعله ملكُ الملوكِ ومالكُ الملكِ، وأرسل ضياءه ليكون للعالمين سراجًا وهاجًا، يطرد به وحشة الليل فيهتدون نهارَهم بنهارِها، وينتشرون بانتشارها، فيسعون ويأكلون ويشربون ويأنسون في ضيائها، ويصلحون من شؤونهم في صباحها ومسائها، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا. وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا. وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾[1]، وقال تبارك اسمه: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾[2]، وقال سبحانه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾[3].


وللشمس منافع عظيمة كعظمها، لا يمكن سردها بالسطور ولا حصرها بالصدور، فمن دونها لا تستقيم الحياة، ولا تعيش ذوات الأكباد ولا يعيش النبات، بل تكثر الأوبئة والآفات، وتظلم بظلامها الكائنات، فلا ضوء ولا معاش ولا حياة، بل جمود وخمود يخمد به الإنسان والحيوان والطير والنبات وبقية الكائنات.
 
ولولا أنْ منَّ الله علينا بهذا السراج الوهَّاج، والمصباح الوضَّاح، لما عرفنا ليلنا من نهارنا، ولما اهتدينا إلى أوقات صلواتنا، ومواقيت عهودنا وزكواتنا، ولاختلط علينا الحساب، وتعطلت المصالح، وتهنا في ظلماتِ ليلٍ بهيم، فسبحان الذي خلق فسوى، ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا﴾[4] وسبحان مَن لا تحصى آلاؤه ولا تعد نعماؤه قال تقدست أسماؤه: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾[5]
 
فقد أحكم الله سيرهما، فأجراهما في حساب دقيق، لا يستغني عنه صاحب عمل أو طالب علمٍ،  بل لا يستغني عنه كل قلبٍ تنبض فيه حياة، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[6]، وقال المنعم المتفضل:
﴿وجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾[7]
 
وذكر الله الشمس في كتابه العزيز كثيرًا، وأقسم بها بقوله: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾[8]،  وبها سميت هذه السورة، فالشمس آية من آيات الله البينات الواضحات الدالات على عظمته سبحانه وعلى قدرته وحكمته
 
وكلُّ صباحٍ تطلعُ فيه يُذكِّر الله بها عباده، فإذا اعتادوها وغفلوا عنها أجرى عليها كسوفًا تستيقظ به قلوبٌ وتلين أخرى، فتنتقل الأبصار والهامات من الطعام والماء إلى كبد السماء.
والشمس آية في خلقها وجريها وعلوِّها، وفي طلوعها وغروبها، وفي مطالعها ومغاربها، ولن تنقطع في جريها وعجائبها حتى قيام الساعة، وهي واحدة من آيات الله العظام الدالاَّت على قيام الساعة، يوم أن يحبسها جلت قدرته عن الناس فتطلع من مغربها، في حالٍ عجيب وفزعٍ عظيم، يوم ﴿لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾.
وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها. ثم قرأ الآية)). رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه وغيرهم.
 
وعنه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض)). رواه مسلم وأحمد والترمذي وأبو يعلى وغيرهم.
 
وقد أوردته بلفظ أحمد وهو الصواب، فقد انفرد -رحمه الله- بذكر الدخان بالخاء بدلاً من الدجال بالجيم، والكلمة كما تعلم تحتمل التصحيف، لأن انتقال المعنى من الدخان إلى الدجال يحكمه موضع النقطة فقط.
 
وعن صفوان بن عسال قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ من قبل مغرب الشمس بابًا مفتوحًا، عرضه سبعون سنة، فلا يزال ذلك الباب مفتوحًا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه، فإذا طلعت من نحوه لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا)).
رواه ابن ماجه وهذا لفظه وابن خزيمة وأحمد والنسائي والترمذي والدارقطني والطبراني في الكبير والبخاري في تاريخه .
 
والمتتبع لهذه الأحاديث وغيرها من أحاديث الباب، ينشأ لديه إحساس بأن هذه الشمس لها صلة قوية بالتوبة، بل لها صلة بهداية الناس والدعوة إلى الله، وليست ذات منافع صحية وبيئية فقط كما يتردد على ألسنة الأطباء والحكماء، ولا هي آيةٌ في حجمها وضيائها فقط، بل أمرها أشمل وأعظم، وهي أكثر التصاقًا بسلوك الناس وقلوبهم وأعمالهم مما يظنون، ففي ضيائها وعلوها وانضباطها وتوقدها وديمومتها وسعيها وشروقها وغروبها وحجمها وصفائها وبعدها واستدارتها آيات حيَّةٌ شاخصة لكل عاقل، ودعوة صباحية مسائية لكل ناظرٍ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾[9].
 
يكفيك مثلاً على قربها من أمر الناس والتصاقها بأحوالهم؛ ديمومتها مع الإنسان منذ خُلق إلى قيام الساعة، لا تغيب عنه يومًا واحدًا، بل ملازمة له، تصنع له كل يومٍ نهارًا جديدًا؛ لتدعوَه من جديد، فتذكِّره كل صباح بما معها من آيات، وبما تكشفه بضيائها من كائنات، ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾[10]،  وتحثه على الجد والعمل والحياة بخروجها وارتفاعها ولهيبها وزوالها وغروبها، وتُعلِّمه الصبر والثبات والمثابرة والانتظام، إنها في عمل جادٍّ واجتهادٍ مستمر لغاية معلومة لديها لا تفتر لحظةً واحدة، تسعى سعيًا دؤوبًا طوال السنين والقرون، تُذكِّر بالله وتدعو إليه، وتضيء الأرض وما حولها في نظام دقيق وسير حثيث، لا تَدَع الناسَ ولا تفارقهم ملازمة لهم ولما حولهم إلى اليوم المعلوم.
 
وإذا ازددتَ سَعَةً في خيالك ستَذْكر أنها إذا طلعت أضاءت الدنيا على أهل الدنيا، وانطلق كلٌّ في مسعاه، وإذا غربت أظلمت الدنيا على أهل الدنيا، فلاذوا كلٌّ فيما أعدَّ له من حصنٍ أو ملاذ يلجأ إليه، فهذه قارة تشمس وتصبح وتنشط، وتلك قارة تمسي وتغرُب في مضاجعها
 
والشمس كما تعلمُ نور، وهداية الله للناس نور، وكتابه نور، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- نور، ودينه نور، والإيمان نور، ومعرفة الله نور، فهي جزء هام في هذه الدائرة النورانية المتلازمة، والتي من شأنها معرفة الله والدعوة إليه وعبادته كما أمر، أي: أنها في ذات عملٍ ومهمة منسجمة مع غايةِ ما حولها من مخلوقات في هذا الكون، ولطيفٌ أن تستذكر هنا أنَّ الله نور السماوات والأرض.
فالشمس بطلوعها كل صباح حتى غروبها بذلك الهدوء في المسير والعظمة في التأثير، تخاطب الناس وتناديهم أن آمنوا بربكم ، وكأنها رسول من عند الله له أجل معلوم، ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ﴾[11]، فإذا جاء أجلها وانتهت رسالتها خرجت من باب التوبة من مغربها، وكأن خروجها من ذلك الباب إعلانٌ للناس أنه انتهى الوقت الممنوح لكم يا أهل الدنيا، وانتهت الفرصة المعطاة للدخول في دين الله والعمل الصالح، وهأنذا أخرج من باب التوبة ، فخروجي غلقٌ له فلا قبول بعد اليوم لتائب ، ﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾[12].
 
فإذا علمت أن للشمس أجل، وأنَّ الحسبان أعم وأشمل من معرفة الأيام والسنين، وأنَّ الشمس والقمر يجريان في حساب بالغ الدقة ومساراتٍ متقنة معلومة، وأسرار حسابية لا نعلمها؛ هناك ستعلم أنَّ الشمس ليست شمسًا تجلب النهار فقط، ولا تنشر الضياء أو تُمِدُّ بالحرارة فقط، بل هي أكبر مما تفهم وترى.
 
نسأل الله التوبة والقبول والغفران إنه هو التواب الرحيم، كما نسأله سبحانه أن يميتنا مسلمين مؤمنين محسنين موقنين وهو راضٍ عنا، إنه كان بالمؤمنين رحيمًا.
 
 
[1] (النبأ الآيات: 11- 13).
[2] (نوح الآيتان: 15، 16).
[3] (إبراهيم الآية: 33).
[4] (الأنعام من الآية: 96).
[5] (الرحمن الآية: 5).
[6] (يونس الآية: 5).
[7] (الإسراء الآية: 12).
[8] (الشمس الآية: 1).
[9] (النحل من الآية: 12).
[10] (ق الآية: 8).
[11] (الرعد من الآية: 2).
[12] (الأنعام من الآية: 158).
 
 
 
التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي

 

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية