تتمثل قيمة الفكر السياسي في قدرته على بلورة أسس تأسيس الدولة، وإن حدثت أزمة انقسام وتناقض، ففي قدرته على تجاوز أزمة الانقسام، وإن حدثت مواجهة بين المبدأ والبدائل ففي قدرته على تجاوز الصدام مع البدائل والحفاظ على المبدأ وتجاوز الأزمة.
إن الفكر السياسي الأمريكي إلى نهاية عصر (روزفلت) يكاد أن يمثل أحد منجزات الغرب الراقية في الميدان السياسي، لاسيما في إدارة واحدة من أكبر دول العالم وأهمها، ويتمثل رقيه ليس في كثرة مدارسهم الفلسفية وتنظيراتها، كما هو عليه الحال في أوربا مثلًا، وإنما في عمليته وواقعيته وعقلانيته التي استقاها من مرجعيات فلسفية متعددة لم يكن الفكر الإسلامي ومصادره الأصلية غائبة عنها، وإن غابت الإشارة إليها، وهذا شأن الفكر الغربي بعامته، فهو كثيرا ما يتجاهل مصادره المعرفية الشرقية وفي مقدمتها (الإسلام) وفكره، في حين يشير إلى المرجعيات الغربية مثلما يفعل محررا كتاب "الفكر السياسي الأمريكي" نورتون فريش وريتشارد ستيفنز، إذ يحيلان جملة الفكر السياسي الأمريكي إلى مرجعية يعدونها الأساسية، وهي فلسفة (جون لوك) التي تؤكد على أن الأفكار تكتسب عن طريق الخبرة العملية وهي بالتالي تشكل المادة الأساسية للمعرفة نفسها، وهو الذي يؤكد في مقاله عن "الفهم البشري" على أن مهمتنا هي أن نعرف لا كل شيء، وإنما فقط ما يهم سلوكنا وحياتنا العملية، ومقدرتنا تتسع لمثل هذه المعرفة .
أما نظريته في الدولة والقانون فإنه يؤكد على فكرة الانتقال من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية والأشكال المختلفة للحكومة، ويؤكد كذلك على أن الغرض من الدولة الحفاظ على (الحرية والملكية) اللتين تكتسبان عن طريق العمل، ومن ثم فإن الحكومة لا يجوز أن تكون تعسفية(الموسوعة الفلسفية-روزنتال،ص416).
بماذا تميزت مرحلة (تأسيس الدولة الأمريكية)؟
لقد تمكن (جيفرسون) من فرض نفسه مؤسسًا للولايات المتحدة بتنسيقه لـ (إعلان الاستقلال) وإنشائه حزب الحكومة سنة 1790م (الحزب الجمهوري) الذي ميز نظام الحكم الأمريكي بنظام الحزبين، وهو أكثر الأنظمة الديمقراطية استقرارًا.
لقد أدرك جيفرسون أن السياسة مفتاح التقدم، وأدرك أن العلاقة بين التقدم والمساواة علاقة حميمية، لذلك جعل استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا يقوم على قاعدة ذهبية رائعة هي "جميع الناس يولدون متساوين".
إنه مبدأ عظيم وهو أحد خصائص (الإسلام) الذي يؤكد على وحدة الخلق ووحدة النفس الإنسانية "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ..." الأعراف/189 ... "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..." الحجرات/13.
وكذلك قول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:"الناس سواسية كأسنان المشط لا فرق بين عربي على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى".
ولما كان الناس متساوين فإن لهم حقوقا في الحياة والحرية والرفاه لا يمكن تجاهلها مطلقا، أو تحويلها إلى الغير، وإنما يجب أن تنسق، وتنسيقها لا يكون مجديا بدون حكومة تستمد سلطتها من رضا المحكومين والذين سيكون لهم الحق في إبدالها إن فشلت أو عجزت عن تحقيق هذا التنسيق، وهو ما يذكرنا بخطبة الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما أعلن يوم توليه الخلافة :"إن رأيتم فيّ اعوجاجاً فقوموه بسيوفكم". ومقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" أطيعوني ما أطعت الله فيكم".
وعن أهمية رضا المحكومين يقول الأمام علي (عليه السلام):"فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضى، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى".( نهج البلاغة- تحقيق صبحي الصالح- ص367).
إن سيادة السلطة التشريعية التي تصورها جيفرسون هي أساس الحرية، وهي المقولة التي كان قد أكد عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
ذلك أن الحكومة العادلة هي التي تخدم أجساد الناس وحقوقهم دون أن تدخل في عقولهم، فهم أحرار في ما يؤمنون به أو لا يؤمنون . وهذا مبدأ مهم من مبادئ الحرية الإسلامية:" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..." البقرة/256
وعلى هذا الأساس يتحدد – في تصور جيفرسون- الفارق الحضاري بين الناس فالذين يكافحون ويعملون بوعي سيرتقون حضاريا.
لقد انشغل (جيفرسون) بالإصلاح، وسعى جاهدا لتعليم الأمريكيين التعرف على هذا الأساس في ضوء العلم والحرية، يوضح جيفرسون ذلك بقوله :"لقد فتحت جميع العيون، أو ستفتح على حقوق الإنسان، وانتشار نور العلم في كل مكان قد كشف لكل ناظر الحقيقة الساطعة بأن جموع الجنس البشري لم تولد بسروج على ظهورها، ولم يعط لقلة متميزة ترتدي أحذية طويلة ومهاميز في أن تمتطيهم بشكل مشروع ،لأن الله فضلهم بنعمه".
يؤكد جيفرسون في هذه الرؤية على عدم إمكانية فصل الدين عن السياسة كما يقول هارفي مانسفيلد الابن في مقالته عن "توماس جيفرسون" في الكتاب المحرر عن الفكر السياسي الأمريكي المشار إليه آنفا والذي يشكل الفضاء المعرفي لهذه التأملات – لأن اعتقادًا دينياً معينًا- والكلام لهارفي ،أسَّسه (الجهل الرهباني والخرافات) يقود الناس إلى الاعتقاد بأن بعض الناس أفضل من بعضهم الأخر لأن الله فضلهم بنعمه، إن هذه الرؤية هي التي تجعلهم يقدمون ولاءهم لحكومات لا تحترم حقوق الإنسان، ولذلك أكد على قضية فصل الكنيسة عن الدولة وهي قضية أخرى...
إن الدين الذي دعا إليه جيفرسون هو (الدين الطبيعي) وليس (الدين السماوي) دون أن يغفل هذا الأخير. إن الدين السماوي الذي قصده جيفرسون هو الدين الذي صنعه الرهبان ، وقد هاجمهم جيفرسون في مناسبات عدة، معتقدًا بأنهم سينتهزون فرصة تفردهم بالأمور الدينية للمطالبة بسلطات سياسية لأنفسهم وحلفائهم، وهم بسلوكهم ومعتقدهم ينقضون المساواة التي بنى عليها فكره السياسي. لذلك أكد على العلم ونوره فهو الذي يُعلّم الناس المساواة، وهي ذات الفكرة التي يقوم عليها الإسلام، فالإسلام يرفض سلطة (رجال الدين / الرهبان) ويؤكد على أن الدين هو لكل الناس هدى ورحمة وبشرى وسلام وعلم، وذلك أن أحد مسميات الدين هو (العلم)، وشرط قبوله هو ذات شرط العلم ، قائم على التجربة والمشاهدة والاختبار ثم اليقين.
.." ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير " البقرة/120
..."وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقون" البقرة/23
" قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " البقرة/111
ولكن على الرغم من موقف جيفرسون هذا من الدين السماوي، إلا أنه أكد على أن من واجبات الحكومة حماية الحرية الدينية، وتُحبذ الدين على اللادين، ويؤيد جيفرسون أن ترفض شهادة الملحد في قاعة المحكمة .."ارفضوها، ولتكن وصمة عار عليه".
وأكد كذلك – وحفاظا على الحرية- بأنه يجب على الحكومة أن تدعم الدين.
إن هذه الرؤية والعلم يمكنان الشعب من أن يكون الحارس الأمين على حريته وتعلمه كيف يتعرف على الطموح مهما كان الشكل الذي سيختفي تحته، ولكن ما العلم الذي يمكن الشعب من التعرف على طموحه؟
يجيب جون سي. كالهون على ذلك في كتابه المهم "بحث حول الحكومة" الذي تكمن أهمية الرؤية السياسية لفكر الكتاب في أن كالهون أراد أن يجعل من السياسة علما يحتذي علم الفلك، أساسه الصلب قانون يقف في علاقته بالطبيعة البشرية، كما تقف الجاذبية في العالم المادي (علم السياسة الفلكي) ويتحدد منهج هذا العلم في:
1- الاهتمام بالحقائق كما يعيشها الإنسان فعلا.
2- نحن الأمريكيون لا نشرع لشخص معين أو لعموم الناس وإنما لشريحة معينة من الجنس البشري.
3- الدليل الذي يوجبه المشرع ليس ما يعتقده عما يجب على الناس عمله بل إدراكه الحسي الثاقب فيما يدفع الناس حقيقة إلى التصرف.
وإذا ما اكتمل وعي المنهج ستحدد أهداف علم السياسة وفي المقدمة منها بناء حكومة تحمي المجتمع وترتقي به، يعتقد (كالهون) كما يقول رالف ليرنر كاتب مقالة "جون سي كالهون":(إن الحكام ليسوا أفضل مما يحكمونهم ولهذا السبب لا بد من ضبط نزعتهم إلى تعظيم أنفسهم على حساب إتباعهم، إما الرقي بخلق الله فيبقى مسؤولية الإنسان).
إن هذا يتحقق حسب كالهون في ظل دستور مكتمل يربط الحكومة بأهدافها الصحيحة. ولقد وعى الفكر السياسي الأمريكي أن الحكومة ليست قيدًا على الأمة بقدر ما هي أداة لإدارة المسؤولية والرقي وحماية الحق والحرية، ومهما كانت عبارات الفكر السياسي الأمريكي في التعبير عن رؤيته لدور الحكومة، فإنها لا تخرج عن طرحه أكابر الأمة الإسلامية، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول يوم توليه الخلافة :"وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتم فيّ اعوجاجا فقوّموه بسيوفكم".
إنها رؤية واعية جدا لوظيفة الحكومة ومسؤوليتها الأخلاقية والحضارية وقد عبر عنها الإمام علي عليه السلام في قوله:" ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الأرض والقضاء بين المسلمين، والنظر في حقوق المطالبين.." ( نهج البلاغة/ص175)
عندما واجهت الحكومة الأمريكية في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر عددا من التحديات الاقتصادية والإدارية والسياسية، وتحديات حركات الإصلاح التي كانت تجتاح البلاد يومذاك مثل حركة أبناء البلد والحركة المناهضة للماسونية والأصولية ..انبرى (روجر تاني) الذي كان وزيرًا في وزارة اندرو جاكسون ورئيسا للمحكمة العليا لمواجهة هذه التحديات برؤية أخلاقية عميقة وحّدت بين السياسة والقانون في معالجة قضايا النظرية والتطبيق، مؤكدا مجمل رؤيته ومنهجه في مواجهة تلك التحديات والتحديات المماثلة في التأكيد على أن المضمون الأخلاقي للقانون ينبع أساسا من وضعه الشرعي بوصفه عقدًا، وليس من توافقه مع مقاييس العدالة الأبدية، فالوعود تحل محل الحق كونها مصدرًا للالتزام القانوني ،وإن انعدام الأخلاق لديه أن لا يحفظ المرء حكمته.
لقد أكد الإسلام على أهمية الوفاء بالعقود إذ الوفاء بالعقد يشكل الهيكل الأخلاقي للالتزام الذي يعد المحور الذي يدور حوله النظام الأخلاقي، والذي يؤدي فقده إلى سحق جوهر الحكمة العملية ذاته، إذ بدون الالتزام لن تكون هناك مسؤولية، إذا عدمت المسؤولية فلا يمكن أن تكون العدالة، وحينئذ تتفشى الفوضى، ويفسد النظام. (عبد الله دراز- دستور الأخلاق في القران - ص21).
ولذلك امتلأ ضمير (أبراهام لنكولن) بالإحساس بالعدالة وهو يناهض الرق وتجارته في الاتحاد الأمريكي، بكل ما أتاه الله عز وجل من بلاغة ضد القاضي دوجلاس الذي دافع عن إرث العبودية الأوروبي الذي انتقل إلى الولايات المتحدة من أوروبا، لقد شكلت هذه المواجهة مرحلة مهمة من حياة الولايات المتحدة، إذ انقسمت فيها المصالح والرؤى الأخلاقية إلى حد خطير فكانت حكمة (لنكولن) جديرة بأن تنتقل بالولايات المتحدة إلى بر الأمن والأمان.
إن الأساس الذي انطلق منه لنكولن في محاربة الرق هو دفاعه عن (الحرية العالمية) واهتمامه بها، لقد آمن (لنكولن) بأن اتحاد الولايات (آخر أفضل الآمال على الأرض) في أن يتمكن الناس من العيش في ظل مؤسسات حرة، واعتقد لنكولن انه سواء كان النظام السياسي هو الأفضل والأكثر حرية أم هو الأفضل اليوم، أو سيكون الأفضل والأكثر حرية في المستقبل، فلا حاجة للاختلاف حوله لأهداف آنية، وعلى أية حال فإن القليل من الناس قد يساورهم الشك في أن مستقبل حرية الجنس البشري كان وإلى حد بعيد يقع على كاهل الاتحاد كما يقع عليه الآن، ولم يشعر لنكولن قط إن أي سعر يدفعه في سبيل الحفاظ على الاتحاد كان باهظاً، ربما شك في أنه قد يعرض رخاء الأمريكيين للخطر، لكن بالنسبة للنكولن لم تكن مسؤولية رجال الدولة الأمريكيين تقتصر على الأمريكيين فقط بل هي تشمل العالم، وقد أكد أثناء توجهه لتولي منصبه سنة 1861م بأنه لن يرضى بأية تنازلات، حتى من اجل ما قد يسميه الناس اتحادا، اتحادا يتضمن التنكر لإعلان الاستقلال –لأنه يعتبر أن (إعلان الاستقلال) الذي أعلن حقوق البشرية هوالأساس الصحيح لأي نظام سياسي- يجعل من واجب أول أمةٍ تكرس نفسها للعدالة التي تنادي بها أن تكون سباقةً إلى كل ما هو حق، وهو الذي أعلن في مناسبة أخرى أن إعلان الاستقلال قد ( منح الحرية ليس لشعب هذه البلاد فقط بل والأمل لكل العالم اليوم وفي الأيام المقبلة وهو الذي وعد بأن الأحمال سترفع عن كواهل جميع الناس، حين يحين الوقت وأن الجميع سيحضون بفرص متساوية) " الفكر السياسي الأمريكي- ص188".
هل يعلم لنكولن الذي قال مرة "العبقريات النادرة تأنف السير في درب مطروق" بأن أمة الإسلام في عهد الرسالة ومبلغها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانت منشغلة بتكريس قضية العدالة والحرية للعرب والعالم ... وأن مكافحة الرق كانت أحد مهمات الدعوة الإسلامية الاجتماعية والإنسانية، ذلك أن الإسلام هو أول من حد من انتشار الرق وتجارته ثم القضاء عليه، عندما جعل تحرير الرقبة عملا عباديا وإنسانيا نبيلا "فلا اقتحم العقبة، وما إدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة" البلد/11-14
لقد سلك لنكولن دربا مطروقا ومع ذلك يبقى عبقريا لأنه عمل في ظرف جديد وصعب، ورؤية جديدة وصعبة، أن يجعل الولايات المتحدة جنة العدالة والحرية لكل العالم ...ولكن في زمن (ودرو ويلسون) كان التحدي الذي واجهه هو طبيعة إدارة شؤون الدولة ودورها الحيوي في الديمقراطية الأمريكية الحديثة.
إن فن إدارة الدولة يعيش ترديًا خطيرًا في البلاد، لذلك ينبغي الاهتمام بمعالجته في دولةٍ اعتقد (ويلسون) أنها (أُسست من أجل خير البشرية) لذلك أكد على أمور منها : أهمية الصراحة التامة ،والإعلام الكامل عن جميع هموم الحكومة، وشجب السرية والغموض والخداع مبينا أن أهم الأسئلة التي تجب الإجابة عليها في تساؤل سياسي ليست المسائل عن الغايات النهائية او المبادئ الأولية، بل هي كيف نحقق الأهداف التي قد يوافق عليها الرجال المحترمون.
إن عطاء ويلسون للولايات المتحدة كبير ومهم وعميق، لقد كان بمستوى الخطر الذي تعرض له في إدارة البلاد، لذلك كانت معالجته واسعة المدى شملتها كتب وبحوث عدة منها: (الحكومة الكونجرسية) وكتاب (الدولة) وكتاب (الحرية الجديدة) الذي صاغ فيه السياسة الاقتصادية للولايات المتحدة صياغة دقيقة.
لقد شعر ويلسون بخطورة الشركات الكبرى التي ابتدأت تؤثر على العلاقات الاجتماعية في الولايات المتحدة التي كان الاقتصاد الزراعي هو الطاغي عليها، حتى أنه قال في كتابه (الحرية الجديدة):"لم تعد حياتنا تعتمد على العلاقات الشخصية المباشرة بين جيران أو بين عمال وأصحاب عمل بل بشكل غير شخصي وبين غرباء".
إن كتاب "الحرية الجديدة" يعد مواجهة تاريخية مع الوضع الخطر للولايات المتحدة يومذاك – لذلك اعتنى بأهم أدوات تلك المواجهة إلا وهي (السياسة الاقتصادية والاجتماعية) التي قامت على العناصر الآتية:
1- مفهوم موسع للعدالة الاجتماعية.
2- تحرير الأعمال الاقتصادية الصغيرة من القيود التي فرضت عليها من القوى الاقتصادية الخاصة واستعادة حرية المنافسة.
3- تجديد الاستقلال الشخصي في كثير من نواحي الحياة المهمة من أجل انطلاقة شاملة للطاقات البشرية.
4- العدالة هي إجراءات تحد من قدرة القوي على منع الضعيف من الدخول في السباق ومن استخدام مواهبه وطاقاته لغايات يختارها بنفسه.
5- ربط العدالة بالاعتبارات الإنسانية مثل ظروف عمل صحية وسليمة.
6- العدالة حرية اختيار ومطالبة بالتعاطف المتبادل والتعاون بتسامح وعطف بين المواطنين.
7- تشجيع الانسجام الاجتماعي بتصحيح الأخطاء التي تقف في طريق التعاون.
لقد ارتقى (ويلسون) بالدور الذي ينبغي أن تلعبه الولايات المتحدة في العالم، حين أكد على أن "الرسالة الأمريكية هي توحيد البشرية، بتحطيم الحواجز وتشجيع تلك المساواة التي هي أساس التضامن الإنساني أو الأخوة الإنسانية، والولايات المتحدة ليست حرة في تعاملها مع الآخرين على أن تعمل بوحي من امتيازات هؤلاء الذين يعيشون ضمن حدودها، ونحن لسنا أحرارا في أن توجهنا مصالحنا القومية، فهي ليست شيئا مميزا عن مصالح الشعوب الأخرى".
وهذا هو معنى بيانه الذي طالما استشهد به "انه لأمر محفوف بالمخاطر تقرير سياسة خارجية لأمة ما على أساس المصالح المادية ، والمصالح المادية هي امتياز يكسبه المرء على حساب الآخرين ويمكن تحقيق مصالح الولايات المتحدة الحقيقية دون أن نكلف أحدا ما شيئا لان هذه المصالح تتألف من تعزيز قيم ديمقراطية معينة تتطابق مع الصالح العام للبشرية كلها وقد توج موقفه هذا ورؤيته للولايات المتحدة على حيادها بقوة كي تكون في وضع يسمح لها بالعمل كوسيط مؤكدا على (الشرف القومي) لأمريكا، كونه الشرط الأول لقدرة أمريكا على خدمة دورها الدولي لمندوب عالمي غير متحيز للقانون والحق وأن خدمة هذا الدور هو معنى (شرفنا القومي).
لقد كان المضمون الأساس لدولة (ويلسون) هو (العدالة) وكيفية نشرها والحفاظ عليها، وهي أولى القضايا المركزية لبناء الدولة في الإسلام، وهو معيار النصر الوحيد بغض النظر عن العقيدة، وذلك أن دولاً إسلامية سقطت لأنها ظالمة.
لقد تجلت العدالة بوصفها أحد مشاغل الدولة في زمن (روزفلت) الذي قاد ثورة عرفت بـ (الاتفاق الجديد).
لقد كان لدى روزفلت عداءً شديدا وكرهًا متأصلا للفقر، ربما لاعتقاده بأن الفقر يجعل الناس أسوأ بطريقة ما ويخلق تحاملا ديمقراطيا ضد عدم المساواة، إن أفضل نظام سياسي تصوره (روزفلت) هو (دولة الرفاه) وغاية الحكومة أو هدفها هو أكبر قدر من الخير لأكبر عدد من الناس.
لقد أصاب روزفلت الحق عندما قال:" حتى هذا الوقت كان كل ما يطلب من الحكومة هو إعداد (الظروف) التي تمكن الشعب من العيش بسعادة والعمل بسلام وأن يكون آمنا، أما الآن فيطلب منها رفع مستوى المعيشة لكل شخص، وجعل الترف في متناول أكثر الناس تواضعا وتحرير كل فرد من مشاق الكدح اليومي الثقيل...".
وبين أنه لشيءٌ جديد نسبيًا عن الحياة الأمريكية، التفكير في علاقة الحكومة بشعبها الجائع، ومواطنيها العاطلين عن العمل، واتخاذ الخطوات للقيام بواجباتها الحكومية تجاههم" لقد صمم روزفلت دولة الرفاه بنجاح فأنقذ الولايات المتحدة من الإنهيار.
لقد تصور الفكر السياسي والاقتصادي الأمريكي بخاصة والأوروبي بعامة أن دور الدولة مسألة جديدة وطارئة في الحياة السياسية والاقتصادية الرأسمالية، ولقد تصور روزفلت ومن بعده الاقتصادي البريطاني (كينز) والفرنسي(ويكسل) أنهم جاءوا بالجديد في معالجة أزماتهم الاقتصادية في حين أن دور الدولة الاقتصادي يعد أحد أساسيات الفكر الاقتصادي منذ أن أسس الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم "دولة التوحيد" في المدينة المنورة لتمتلئ كتب الفكر الإسلامي السياسي بالحديث عن دور الدولة في إدارة الفعالية الاقتصادية .
إن وعي التاريخ ضرورة لصناعة المستقبل..
تلك هي القضية .
تدقيق: لجين قطب.