كثر الحديث خلال العقود الأخيرة في العالم العربي والإسلامي عن دعوات فصل السياسة عن الدين، أو ـ بمعنى أدق ـ فصل الفعل السياسي عن الفعل الديني، الأول: المرتبط بالاجتهاد البشري الصِّرْف القابل للنقاش والاختلاف، والثاني: المرتبط بالمقدس الإلهي المتفرد بالإلزام بلا خوض ولا نقاش، ولعل المتأمل لهذه الدعوات يجد أنها في حقيقة الأمر ما هي إلا تلطيف لمفهوم العلمانية، والتي أجد أدق تعريف لها هو ما قالت به دائرة المعارف البريطانية "حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيوية بدلًا من الاهتمام بالشؤون الأخروية، وهي تُعتبر جزءًا من النزعة الإنسانية التي سادت منذ عصر النهضة الداعية لإعلاء شأن الإنسان والأمور المرتبطة به بدلًا من إفراط الاهتمام بالعزوف عن شؤون الحياة والتأمل في الله واليوم الأخير، وقد كانت الإنجازات الثقافية البشرية المختلفة في عصر النهضة أحد أبرز منطلقاتها، فبدلًا من تحقيق غايات الإنسان من سعادة ورفاه في الحياة الآخرة، سعت العلمانية في أحد جوانبها إلى تحقيق ذلك في الحياة الحالية"، إنها بمعنى آخر إقصاء الدين والتفكير الديني في الشؤون الدنيوية، وفي حقيقة الأمر كان دعاة العلمانية أو فصل الدين عن الدولة خلال مرحلة أسبق في بلداننا الإسلامية، أكثر شجاعة وتحرُرًّا من النسق الاجتماعي المهيمن من نظرائهم اليوم، ودعونا نقل بنوع من الدغمائية ـ بمعناها الإيجابي ـ أنهم كانوا أقل نفاقًا من نظرائهم اليوم؛ إذ دعوا صراحة إلى فصل الدين عن الدولة بصفته لا يتوافق مع العصر وباعتبار الفكر الديني المقدس يحيل إلى الثبات و الجمود، وهو ما سينعكس سلبًا على المجتمع ويجعله متخلِّفًا حسب زعمهم، وهو ما لم يستطع دعاة اليوم القول به صراحة حينما اكتفوا بالدعوة إلى عدم الجمع بين ما هو ديني وما هو سياسي أو بمعنى عدم استغلال الدين في الدعوات السياسية.
بنوع من البساطة السياسة هي علم تنظيم التجمعات البشرية و إدارتها، وبما أن الأمر معقد فإنه يحتاج نوعًا من الشمول والإحاطة بتعدد مجالات وحقول المجتمع جدًّا، فإن السياسة تحولت من علم مفرد إلى ما يُسمى اليوم بالعلوم السياسية، وهذه السياسة تختلف حسب المرجعيات والمناهج المعتمدة في تعريفها والإلمام بها، وهنا وبالإجمال نجد أن السياسة في المناهج الغربية منذ أفلاطون إلى العصر الحاضر خاصة مع المناهج الماركسية والليبرالية وما أفضت إليه من المناهج الحداثية وما بعدها، يمكن أن نجملها في دورانها حول مصطلح الصراع، أو تدبير الصراع، أو ـ بمعنى أدق ـ إدارة الصراع لصالح الدولة أو النظام، لهدف أسمى هو التحكم بالآخر الجامح الذي لا تنظمه إلا الدولة، فيصبح الفرد يسير لصالح المنظومة المؤسسية بنوع من الحرية، إنه تحكم عن رضا، ومنه فإن السياسة الغربية بمختلف فلسفاتها ـ وإن بدت مختلفة ـ أعطت الدولة قوة مقابل إضعاف المجتمع، بالمقابل يمكن أن نجمل العلوم السياسية في الفكر الإسلامي بدورانها حول مفهوم الإصلاح أو ـ بمعنى أدق ـ المصلحة، وهو الأمر الذي يعطي قوة للمجتمع على حساب الدولة أو النظام، وذلك كون الظاهرة السياسية كامنة أساسًا في المجتمع الذي هو هدفها في البدء والمنتهى، من خلال الفرد، وهو ما يمكن أن نقارب له بمفهوم المجتمع المدني باتحاد مع فلسفة الأخلاق الحديثة الرائجة خلال ما بعد منتصف القرن الماضي، بعدما كانت الأخلاق قد فقدت بريقها مع إشعاع العلم في مقابل الدين، وبالطبع فإن هدف السياسة الغربية لا يُنال إلا بالسعي نحو السلطة فيما لا تحتاج السياسة حسب المنظور الإسلامي إلى دولة أساسًا، وإن عاشت في ظلها، وبهذا المعنى فإن التاريخ يشهد أنه كلما تقوَّت الدولة "الإسلامية" على حساب المجتمع تغوَّلت و فسدت؛ لأنها تخالف روح الفلسفة السياسية الإسلامية بينما العكس بالعكس في المنظومة الغربية.
لممارسة سياسة مجتمعية فعالة تطبيقية وعلى أرض الواقع بعيدًا عن التنظير ابتكر المجتمع الإسلامي وسائل وإطارات مجتمعية تعمل في استقلال عن الدولة، وهو ما يمكن كما سبق القول أن نطلق عليه المجتمع المدني تجاوزًا، وإن كان المجتمع المدني عندنا اليوم مموَّلًا بالإلزام من طرف الدولة، وهو ما يناقض روح و فلسفة عمله، فإذا كانت الدولة تصرف مبالغ لمؤسسات المجتمع المدني جلها فإنها في المجتمع الإسلامي كانت مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة المؤسساتية باعتبار أن من يملك قوتك يملك قرارك، وبالتالي يمكن للدولة أن تعطي الحياة لمن شاءت من الجمعيات بدعمها وتقطع شريان الحياة عن التي لا تتوافق وسياساتها، وهكذا اُبتكِر ما يُسمى بالوقف الإسلامي أو نظام الأوقاف الذي ما شهد العصر مثيلًا له في الفلسفة والتنظيم كما هو في المنظومة الإسلامية.
نظام الأوقاف وعبقرية العقل الإسلامي
حظي العلماء في المجتمع والمنهج الإسلامي بحظوة خاصة جدًّا فهم ورثة الأنبياء و(إنما يخشى الله من عباده العلماء) وهم أمناء الأمة على دينها، وهم من يُبعَثون على رأس كل قرن ليجددوا للناس أمر دينهم، ولا يوجد مذهب من المذاهب الإسلامية إلا أعطى للعلماء القدر الكبير والمنزلة الرفيعة حتى تشدد البعض إليهم وأوصلوهم غلوًّا إلى ما لم يُعطِهِ الله لهم؛ فسُمِّي العالِم غوث الغائثين أو العارف بالله عند الصوفية أو سُمِّي الولي الفقيه وآية الله عند الشيعة ...، ولا شك أن هذه الحظوة لم تأتِ العلماء من فراغ فأمر الدين صعب لا يُؤتى لأيٍّ كان، فاجتهد العلماء وتفرغوا حتى حصَّلوا العلم الذي أهَّلهم لهذه الحظوة والمرتبة بين الناس، لكن هذه الحظوة للعلماء لم تكن يوما حظوة مادية فهم عُرِفوا بالزهد والتفرغ للعلم والقوة في الحق، من جهة أخرى أدرك الخلفاء والأمراء ممن عشقوا السلطة ـ وما أكثرهم! ـ قيمة العلماء التي تجاوزت قيمتهم واصطدمت مصالحهم بفتاوى العلماء، وساهم هذا الأمر في تهميش العلماء والتضييق عليهم حتى يُضطروا لموافقة النظام السياسي وإعطائه مشروعية دينية قوية، لكن مجموعة كبيرة من العلماء لم يرضخوا للسلطة السياسية مما جعلهم يلقون التضييق تلو الآخر فيُزَج بهم في السجون أو يُقتلون ويُذبحون، في هذه الظروف ظهر من جهةٍ علماء السلاطين ومن جهة أخرى علماء تقوى وازدهر نظام الأوقاف.
لما أحس العلماء بالتضييق شجعوا الناس على الوقف لصالح طلبة العلم ولصالح المؤسسات الدينية القائمة والمتمثلة أساسًا في المؤسسات التعليمية والحِلَق العلمية المختلفة، والتي لم تكن يوما منظمة من طرف الدولة إذ كان العلم تطوعيًّا في الغالب، وقد وجد الناس أحاديث نبوية واستنبطوا من آيات قرآنية ما يرغِّبهم على البذل لطلبة العلم حتى لا يُضطروا للتنازل عن علمهم لصالح السياسة العامة للدولة، ومع توالي السنوات وتعدد الوقف لصالح المساجد ودُور العلم المختلفة أصبحت المؤسسة العلمية مؤسسة قوية ذات قوة مالية ومعنوية أغنتهم عن الحاجة لسلطان أو أمير، فخرَّجت المدارس علماء أقوياء على الحق لم يتنازلوا عن الحق ولم يخافوا في الله لومة لائم، وإن لم ينالوا حظوة علمية رسمية، إلا أن تكوينهم جعلهم يتبثون على الحق رغم التضييق، كما أن مستواهم العلمي جعل كلمتهم مسموعة عند الجميع بينما لم يحظَ علماء السلاطين إلا بالمال الوفير، ولم يكن لفتاواهم وكلماتهم تأثيرًا إلا عند قلة قليلة من الناس، وكما أن أغلب علماء السلطان كانوا من مناهج ضعيفة ومدارسهم منهوكة بالقول بالرأي مع ضعف الدليل، بل إن العلماء المستقلين ظلت الأمة تنهل من علومهم إلى اليوم، هكذا إذا كان دور العلماء في المجتمع الإسلامي قويًّا جدًّا، لكن ومع دخول حِمى الأنظمة الغربية إلى البلدان الإسلامية، أمَّمت الدول الأوقاف وجعلتها أملاكًا للدولة وكان هذا هو الباب الذي جعل الحكام يحظون بمشروعية دينية لقلة علماء الحق؛ إذ أصبحت المدارس تابعة للنظام الذي يزرع في العالم منهجًا ضعيفًا منذ البداية، كما يزرع فيه جبنًا مع قلة العلم، فقلَّ العلماء وكَثُرت الرويبضة ولُبِّس على الناس، وقوي النظام بمساندة السلطة الدينية بل أصبح هو نفسه السلطة الدينية، وتكوَّن ما يمكن أن نطلق عليه حقًّا الدولة الدينية بغطاء مدني، وهُمِّش القلة القليلة من العلماء وغُرِّبوا أو سُجِنوا ولم يجدوا حضنًا يعيد لهم قيمتهم المعنوية، فلُبِّس على العامة والخاصة بعد انتشار وسائل الإعلام المملوكة من طرف النظام، والتي رفعت علماء وحطت آخرين حسب درجة ولائهم للنظام بدل أن يكون المعيار الولاء للحق.
ومن هنا فإنه لا مشروعية لامتلاك الدولة للأوقاف، إذ هي ملك شخصيٌّ لأشخاص وهبوه لخدمة العلم والعلماء، وبهذا فالمساجد والمباني التابعة لها والمدارس القديمة وأملاك الأوقاف التي أوقفها أصحابها لخدمة العلم وجب أن تُرَدَّ إلى أغراضها بدل أن تباع بأثمنة زهيدة أو تُدار لأمور بعيدة عن الحقل الذي جُعِلت وقفًا من أجله، كما أنها أصبحت في يد حكومة تُديرها وهي ليست ملكها فما أوقفها أصحابها لهذا، وهكذا فكَّر العقل الإسلامي في تحرير الحقل الديني من قبضة الحكومات المتعاقبة إذ الدين أمر يحتاج استقلالية ليكتسب شرعية، وهو الفهم الصحيح الذي يمكن من خلاله فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية وليس ما يدعيه الآن دعاة التغريب من فصل الدين عن الدولة.
إن السياسة الإسلامية جعلت المجتمع مكمن القوة وجعلت منه المحرك الحقيقي للرأي العام، هذا المجتمع القوي بعلمائه النابتين بعيدًا عن حضن الدولة، وبعيدًا عن ضيق المنهج أو المذهب إلى رحابة البحث عن الحقيقة بالدليل والبرهان، لننتقل من العقل البياني العرفاني، إلى العقل البياني البرهاني، حسب تقسيم الجابري، عقل يستند إلى النقل فالعقل ، ولا يدَّعي التفويض الإلهي، يلج المجالات المجتمعية جميعها ولا يحجُر عليه بداعي تنظيف الدين من السياسة، فما كانت السياسة يومًا نجاسة وجب أن تُبعَد عن الدين، وهنا طبعًا الدين بمعناه الحقيقي وليس بالمعنى الذي يقرأه البعض من مشايخه الغربيين الذي هم مُحِقُّون في أقوالهم بصفتهم يتحركون وفق العقل الأوربي الذي ينظر إلى الدين الكنسي، لا العقل الإنساني" العقل المجرد الكانطي تقريبا" الذي ينظر إلى الأديان المختلفة ومن ضمنها الدين الإسلامي.
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.