الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
من أين نبدأ؟ وكيف نبدأ؟ وماذا عسانا نقول؟ حين تنقلب المفاهيم، ويسري التعفن الفكري في جسم الأمة الإسلامية؟ ولعل الأسباب كثيرة، والعقبات متنوعة؛ فأمة اقرأ لا تقرا، واكتفت بأخذ القشور من غيرها، ونسيت أو تناست المكانة التي فضلها الله بها على سائر الأمم ، فيا عجب لمن يلبس الإسلام قناع غيره! أولا يصلح الدين إلا بالتفلسف؟ وما ذنب أولئك الأولين الذين لم يطلعوا على كتب الفلسفة؟ أيحاسبون على ذلك؟ وإذا كان هؤلاء المتفلسفة يضربون المثل بسقراط أو كما يطلق عليه شهيد الفلسفة؛الذي قدم رقبته لأجل مبادئه؛ فإن هناك ملايين المسلمين الذين قدموا رقابهم في سبيل الله ولا يزالون.
إن الأمة الإسلامية لا تختص بفئة أو أقلية معينة؛ بل إنها تتجاوز تلك الأعراف الجاهلية وتندرج كلها تحت غطاء الإسلام، إلا أن هناك من يسعى لتفرقتها و زعزعة استقرارها، وذلك عن طريق الغزو الفكري؛ لأنه يفسد العقيدة قبل كل شيء. و تعتبر الفلسفة كغيرها من المعارف ملقية بظلالها على الإسلام تحت غطاء إعمال العقل و التأمل في آيات الله عز وجل، ولعل هذا الوجه الظاهري هو ما استغله بعض المتفلسفين الذين يحسبون على الإسلام؛ والإسلام براء منهم براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.
إن الحديث عن الإسلام و الفلسفة طويل و متشعب، وقد سبقنا في ذلك الكثير من الدعاة و المفكرين والعلماء والفلاسفة أنفسهم، و كلماتنا هذه ليست بصدد دراسة أي منهما ، ولا نقصد بها أحدا، ولكن لتوضيح بعض اللبس القائم في أساسه على التركيبة اللغوية لمصطلح « الفلسفة الإسلامية »، ولعل التلاعب بالألفاظ والمصطلحات هو ما سمح لغيرنا بالتحكم فينا عن بعد ،سواء أمن الناحية الفكرية ( كافة العلوم تسير وفق المنظور الغربي؛ وخاصة الفلسفة) بشكل عام؛ أم في مجالات الحياة الأخرى؛ سواء أفي السياسة ، أم الاقتصاد، بل وحتى المنظومة الاجتماعية، فالكثير من المصطلحات التي نتداو لها لا نعرف معناها ولا المدلولات الحقيقية لها ؟ وإذا شرعنا في تعريف الفلسفة الإسلامية كما يطلق عليها فسنجدها تتألف من كلمتين: فلسفة، وإسلامية، أما الفلسفة فيعرفونها على أنها محبة الحكمة، وهي في نظر أصاحبها التحرر من كل القيود وإعطاء العقل زمام كل شيء، وهذا التعريف مخالف لمعنى الحكمة في المنظور الإسلامي، فهي تسعى لهدم الديانات وتطويقها، مستغلة بذلك المنطق الأرسطي الذي عطل العقول لعدة سنوات، ولم يتوان شيخ الإسلام –رحمه الله– ابن تيمية في دحضه وكشف أغاليطه، لأنه يعتبر بوابة الفلسفة، وقد صدق القائل: "من تمنطق تزندق"، وقد نشأت الفلسفة في بيئة كان قومها يعبدون الكواكب، والنجوم، وغير ذلك من الآلهة، ولم تنحصر الفلسفة في رؤية محددة، أو تصور واحد، بل يمكننا القول إن لكل فيلسوف فلسفة خاصة به، أما الإسلام -خاتم الديانات، ومتمم الرسالات– فقد جاء كاملا متكاملا، فهو لم يترك أمرا من أمور الحياة إلا وضع له الأطر والمعايير التي تكفل للمسلمين الخير والسعادة في نهجها وسلوكها، وقد عني الإسلام أشد العناية بإرساء جانب العقيدة الذي يحفظ للمسلم التوازن النفسي والروحي، مما يحقق له السعادة. فللإسلام شريعة ربانية، والفلسفة دستور إنساني ، وشتان ما بين الاثنين!
وقد كان لحركة الترجمة في العصر العباسي أثر سيئ على فكر الأمة المسلمة، حيث اختلط غثاء الجاهلية اليونانية والفارسية والهندية بالدين الإسلامي، فتكدر النبع الصافي وراجت الشبهات وكثرت الخزعبلات بسبب تلك الكتب المترجمة، فاطلع بعض المسلمين على الإرث الفلسفي اليوناني (سقراط، أفلاطون، أرسطو) وكانت جل كتاباتهم وأفكارهم تكاد لا تخلو من هذا الإرث الذي سلب عقولهم، وشحذ عزائمهم، فظهر ما يسمى بعلم الكلام الذي نستطيع أن نقول عنه إنه : دراسة العقيدة وتلقينها من منظور فلسفي. والفلسفة في أصلها تقوم على مناقشات ذهنية مجردة يغلب عليها الطابع الميتافيزيقي؛ فهي لا تثمر إيمانا ولا تدفع شكا؛ بل تزيد من حيرة الحيران، عكس العقيدة الإسلامية التي تثبت القلوب، وترتاح لها الأنفس، لهذا فان مصطلح الفلسفة الإسلامية يعد انتهاكا لحرمة الإسلام و افتراء على أهله، لأن المفاصلة بين المنهج الإسلامي والمنهج الفلسفي واضحة وضوح الشمس؛ فالعقيدة الإسلامية مصدرها رباني، والفلسفة عمل إنساني، وإذا كانت الفلسفة مبنية على الشك و الريبة؛ فإن الإسلام دين يسر، جاء لتخليص الإنسان بصفة عامة من براثين العبودية والجهل، والدعوة إلى التفكر و تدبر آياته، إلا أن هذا التأمل محدود، فالعقل الإنساني قاصر أمام مدبر الكون، بيد أن تعظيم الفلاسفة للعقل والغلو في قدراته أدى بهم إلى الخوض في متاهات لا توجد لها نهاية،لذا نجد معظم الفلاسفة يدورون في حلقات مفرغة، لأن جني الفلسفة لا يزرع إيمانا، ولا يورث استقامة؛ بل يورث كآبة وشكا، وحيرة وضياعا.
ولقد دخلت الفلسفة في الإسلام كمحدثة أحدثها أصحاب البدع والشبهات، ليستغلوا الوقت العصيب الذي مرت به الأمة الإسلامية آنذاك، فليس في الإسلام فلسفة، ولا يوجد في المسلمين فلاسفة بالمعنى المنحرف للكلمة، ومن أشهر الفلاسفة المنتسبين للإسلام: الكندي، الفارابي، ابن سينا، ابن رشد، وفي هذا الصدد نذكر ما قاله الإمام الشافعي –رحمه الله– ما جهل الناس واختلفوا إلا بتركهم مصطلح العرب وأخذهم بمصطلح أرسطوطاليس.
ولذلك جاء عنوان المقال «براءة الإسلام من الفلسفة الاستسلامية» وليس «براءة الإسلام من الفلسفة الإسلامية» لأن الإسلام لا يحتاج إلى التفلسف، وهو أكبر من أن يدرس من منظور يوناني ملحد، فكل من يحاول تسليط الفلسفة على الإسلام يسعى لتشويه الصورة الحقيقية لمعنى الدين النقي، وما أكثر هؤلاء المتفلسفين الذين تسول لهم أنفسهم أن يفلسفوا القضايا الإسلامية، أما قولنا استسلامية فلأنها استسلمت لأفكار غيرها؛ دون التمعن في المغزى الحقيقي للفكرة، فنحن لا نرفض كل شيء وإنما ندرس المواضيع من كل زواياها، فقد استطاع الغرب أن يسرق من عند المسلمين التراث الحقيقي للعلم، مثلما حدث للمنهج التجريبي الذي ينسبه الغرب لنفسه، بالرغم من أن الإرهاصات الأولى للمنهج التجريبي عرفت عند المسلمين؛ ونحن مازلنا نغوص في فلسفة الغرب الملحدة الجوفاء؛ التي دخلناها دون سابق إنذار، ولم نستفد منها في أي شيء.
وأسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
التدقيق اللغوي: حميد نجاحي