إن المجتمع المدني مفهوم قديم جدًا، وقد وفر لمدة طويلة المنطلقات المرجعية لتقويم مقولات الفكر السياسي المركزية، لكن البيئة السياسية المقيدة المحتضنة للعمل المعاصر ظلت، ولأمد ليس بالقصير، تحجب العديد من الدروس والعبر، التي بإمكاننا الاستفادة منها في تجاربنا الجمعية. ولكون المقدمات الأولى للمجتمع المدني لم تُسبر بما يكفي من حيث أشكالها القديمة، فإن المجتمع المدني غالبًا ما يعرض بصيغة واهية وغامضة لا تخضع للتنظيرالموضوعي. إن محمولات هذا المفهوم أوسع وذات امتدادات شاسعة. وبإمكان العرض المفصل لتراث الماضي المساعدة على تقويم وتفادي انزلاقات الفرضيات المعاصرة المرتبطة بالإمكانات الديمقراطية التي ينطوي عليها مفهوم المجتمع المدني في شتى تمظهراته. لقد اكتسب مفهوم "المجتمع المدني" عمومًا مدلولات جديدة مع تطور بِنى الدولة الحديثة، والتحولات المتسارعة في النظام الدولي، والتأثيرات المتلاحقة لتيار العولمة الجارف في شتى تجلياتها، والثورة الهائلة في الاتصالات، والتدفق المتجدد لنظم المعلومات. حيث إنه ما فتئ يلاحظ عودة المفهوم في العصر الحديث إلى الصعود مرة أخرى خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين في مرحلة انتقالية ساهمت في تشكيل الوضع العالمي الجديد وأدت إلى سوء استخدام المفهوم وإلى دخوله في متاهات ومعارك فكرية لفرق متعارضة من المفكرين، والأكاديميين، والباحثين، وصناع القرار؛ إذ ذهب بعضهم إلى أن المفهوم لا يظهر إلا حيثما وجد اقتصاد السوق وتوفرت ضمانات للملكية الخاصة، في حين ذهب البعض الآخر إلى القول بأن استخدام المفهوم بهذا الشكل الجزافي يفقده الكثير

من بريقه العلمي ويستخدمه استخدامًا غارقًا في براثن أيديولوجيا ترويجية للمجتمع الليبرالي بشتى تنظيماته الثقافية وتمفصلاته الاقتصادية، مما قد يعري في نهاية الأمر عن وهنه الإبستيمي وضعفه التنظيري ويجعله مفهومًا "غير بريء". وهنا، نجد أن المفهوم الجديد للمجتمع المدني يكتسي بالدرجة الأولى حلة أيديولوجية لربطه بالحركات التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية في عقد الثمانينيات من القرن العشرين في مسارات التوجه نحو اللبرلة المفرطة وفي إطار بروز الموجة الثالثة من الديمقراطية، وهو ما تجسد بشكل فعلي، في تقليص سيطرة الدولة على الاقتصاد، والتشكيلات السياسية، والحركات الاجتماعية، والتنظيمات النقابية. والملاحظ في هذا الصدد أنه بعد انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفياتي سيمنح مفهوم المجتمع المدني بعدًا "تنمويًا" من خلال منظمات الأمم المتحدة، والبنك العالمي، وصندوق النقد الدولي. فقد باتت هذه المؤسسات تنظر إلى المجتمع المدني باعتباره المجال الذي يتيح إشراك المواطنين في "التنمية البشرية المستدامة"، بعد أن فشلت التنمية في التحقق في معظم دول العالم الثالث. وكان الدافع وراء إعطاء موقع خاص للمجتمع المدني في عملية "التنمية البشرية" هو تبني سياسة الخوصصة والتقويم الهيكلي في إطار سياسات اقتصاد السوق، باعتبارها الأنجع للتنمية الاقتصادية. ومنح هذا بعدًا جديدًا لمفهوم المجتمع المدني، حيث إن هذه السياسات التي روجت لها المؤسسات المالية الدولية وخطاب الليبرالية الجديدة ركزت على حصر دور الدولة في تهيئة بيئة قانونية وبنية تحتية ملائمة لنمو القطاع الخاص باعتباره أداة التنمية الأساسية، مع توفير حد أدنى بالمشاركة والتنسيق، مع منظمات المجتمع المدني، من الرعاية الاجتماعية للفقراء (في إطار ما يعرف بشبكات الحماية الاجتماعية) ولتدخل لاحقًا مفردات جديدة على خطاب التنمية، خصت بالأساس منظمات المجتمع المدني كالمشاركة، والتمكين، والفعالية، والكفاية. هكذا، سيحمل المفهوم الجديد للمجتمع المدني في طياته أبعادًا أيديولوجية تنموية مكنته من الاقتحام وبقوة لمفردات اللغة السياسية اليومية المتداولة بين رجال الصحافة والسياسة وغيرهم. الشيء الذي أدى إلى التباس وغموض المفهوم، بسبب التشويه المتعمد الذي يمارسه البعض ضده والحملة الهوجاء التي تتوخى بالأساس التقليل من أهميته الريادية وأدواره الطلائعية. ومع ذلك يمكن القول أن مفهوم المجتمع المدني رغم هذا الالتباس، والتشويه، والحملة المغرضة ضده قد أضحى في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين مفهومًا متداولاً على نطاق واسع. وهو الآن يعيش لحظة الذروة لما أثاره من افتتان لدى تيارات الفكر والسياسـة مع ربطه مع مفهوم آخر أكثر بريقًا، وهو مفهوم "الحكامة". لقد أخذ مفهوم المجتمع المدني لذلك حلة جديدة، فلقد أضحى أداة تفكير وموضوعًا للتفكر، بحسبانه من المفاهيم الإجرائية التي دأب على توظيفها منظرو العلوم الاجتماعية والإنسانية في إماطة اللثام عن مختلف الإشكالات العويصة التي أضحى يعيشها عالمنا المعاصر. ورغم أن المفهوم نشأ في المجتمع الغربي في ظل سياقات اجتماعية وفكرية معينة وظروف مختلفة، فإنه أصبح اليوم مفهومًا كونيًا، شأنه في ذلك شأن مفهوم الحداثة، والتقدم، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وكل القيم الرفيعة. كما لا ينبغي إغفال الانتقال المهم، ولو بشكل متذبذب، إلى المستوى الدولي والعالمي الذي ظل مشفوعًا بظاهرة العولمة وثورة معلوماتية تهدف إلى تأسيس عناصر شبكة اتصالية Net working صارت سمة للتفاعل الدولي في الوقت الحالي، بحيث طالت ظواهر أخرى في العالم وتحت مسمى برز في الآونة الأخيرة وهو Global Civil Society، إلا أن الأمر لا يتعلق بمجرد بروز التسمية، ولكن الأمر يتعلق بالتساؤل إلى أي مدى يوجد على أرض الواقع المجتمع المدني العالمي في ظل تطورات ومتغيرات بعضها سياسي، وبعضها اجتماعي، وآخر ثقافي؟ إذ يشهد العالم تحولات غاية في الأهمية تتراوح بين تباين حاد بين مناطق مختلفة وبين بروز ظاهرة العولمة، بغض النظر عن الجدل الدائر حولها بين الرفض أو القبول أو التوجهات والتفاعلات الناجمة عنها وكذا المخاطر المحدقة بها من كل صوب وحدب. وهو الأمر الذي أضحى مفروضًا في ظل تطور العلاقة بين الداخل والخارج، والتداخل بين المجتمع المدني العالمي ومستويات وجود المجتمع المدني الأخرى في العالم محليًا وإقليميًا، وفي ظل تواجدات واستقطابات مجتمع مدني عالمي ممتلك لخبرات ومهارات متمايزة، ومتطورة، ومتجددة. هكذا، نجد أنه مع بروز طابع العولمة وعملياتها، التي أنشأت بيئة جديدة تنزع على نحو متزايد إلى عولمة نظم الاقتصاد وسياقات النظام الدولي، وكذلك مشاكل الإنسانية الراهنة، تم إكساب المجتمع المدني الطابع الشمولي المعولم، ليصبح بذلك مفهومًا جديدًا يتناول، وبراهنية ومواءمة، مختلف التنظيمات المعبرة عن حيوية السلوك المدني المنغرس في الذوات البشرية والكيانات المجتمعية، مع الالتزام الصارم بالأبعاد المعيارية والأخلاقية لهذه التنظيمات من تسامح، وتوافق، وتراضٍ، واحترام لتتمكن في نهاية المطاف من تحقيق الغايات النبيلة التي تصبو إليها كتنظيمات تطوعية حرة ومستقلة.

 

التدقيق اللغوي: أنس جودة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية