تشكل الثقافة بعدا من الأبعاد المنغرسة في الذوات الانسانية ومنطلقا من منطلقات التفكير البشري، ويعد الأنثروبولوجي البريطاني "السير ادوارد بيرنت تايلور ( (1832-1917 أول من قدم معنى محددا، واضحا وبسيطا لمصطلح "الثقافة" في كتابة الصادر سنة 1871 ،والمعنون ب "الثقافة البدائية"، من حيث هي " الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الانسان باعتباره عضوا في المجتمع"1 .

على ضوء هذا التحديد الوصفي العام، ينشأ مصطلح "المثقف". هذا الأخير الذي يتمظهر من جهة، كمنتج رائد للرموز والقيم والخطابات والأفكار ومن جهة ثانية يبرز كفاعل دينامي مبلور للتحولات ومؤثر في الأحداث، وهو ما عكسته التجارب الثورية والرؤى التثويرية التي عرفتها البشرية جمعاء في محطاتها التاريخية المختلفة وعبر سياقاتها المعرفية المتعددة والتي انبثقت بشكل عام من رحمها العديد من محاولات التحديد لمصطلح المثقف وتمييزه عن مصطلحات أخرى من قبيل العالم، المفكر، الفيلسوف، الفقيه، الشيخ، الداعية...وكذا مختلف التصنيفات الخاصة بالمثقف : المثقف العضوي، المثقف المقاصدي، المثقف السلطاني، المثقف الاسلامي، المثقف السياسي، المثقف الشبكي، المثقف الحزبي... عموما وبصرف النظر عن التشعبات والتأويلات والتحديدات والتصنيفات المرتبطة بهذا المصطلح "الزئبقي" ،يمكن النظر إلى المثقف، بكونه ذلك الشخص الذي ينتج ثقافة بصورة من الصور، كتابة أو قولا أو فنا2 ،الثقافة التي تنتج بدورها سلطة من السلط القابعة في الكينونة البشرية، ومنها السلطة السياسية التي غالبا ما تحتكر إوالياتها الدولة، قبل الافراد. انطلاقا مما سلف، وبعد أن كان المثقف في السياق العربي خصوصا في أقصى حالات الانفراط، هو إما "مثقف السلطان" والمثقف المستقل، أصبحت أقنعة المثقفين كثيرة، يطبعها التشظي والانفلات. فمن المثقف التبريري الذي لا ينتج أفكار، بقدر ما يعمل على تسويغ أفكار الآخرين، سواء أكانوا في اليمين أو في اليسار، أو كانوا في موقع سلطة ،إلى المثقف التبشيري أو الداعية، الذي يحتكم في أفكاره للمرجعية الدينية، ويتكلم باسم "الأصول" وليس باسمه، بخلاف المثقف الديني الذي يحرص على الإصلاح واحياء القيم، التي كانت في نظره، هي ما ساهم في عظمة الإسلام، الى المثقف الأصولي، الذي يصير ملكا للتراث أو صوتا من أصواته، لأنه يقرأه بوعي مغلق وليس بوعي نقدي مفتوح، إلى المثقف المستقيل، الذي يرفع يده من كل شيء ،ويكون بدون صوت ولا رأي إلى مثقف السلطة3 ،الذي يجسد النموذج الواضح والصريح للمثقف " الدولتي". هذا الأخير، الذي يسعى بطريقة أو بأخرى ،إلى تعزيز الأدوار الطلائعية للدولة وخلق أنماط من الدفاع المستميت عن دعائم وجودها، في إطار آلية من آليات تثبيت أسس شرعنتها. وهو ما تجسد في السياق المغربي من خلال نموذج مثقف مؤسسة المخزن أو المثقف "المخزني".

إن المثقف "المخزني"، هو ذلك المثقف الذي ما فتئت وظائفه وأدواره ومكوناته، تترسخ بشكل جلي عبر مرجعيات ومنطلقات عديدة، تمتح قوتها من تموقعها في محيط السلطة، وهو يبرز كنوع من أنواع الانقلاب " الغير الشرعي" على اتجاهات المثقف بشكل عام وميولاته الفكرية وقناعاته المذهبية. وهو الانقلاب المؤسس على نوع من "الخضوع الطوعي" أو "الإذعان القصدي "،القائم بالضرورة على إواليات الإغراء والاستقطاب إلى ملعب العطايا والهبات الاقتصادية والاجتماعية من خلال التقرب إلى مرجع الدولة4 ، و الداعم لصيرورة لامتناهية من التبريرات التي كثيرا ما يتم إضفائها عليه بنوع من الوثوقية الزائدة أو الدوغمائية العمياء. كما أنه من جهة أخرى، يظل انقلابا غير مفهوم بالإطلاق بالنظر لعدم قيامه على أسس متينة من قناعات المثقف ووعيه بأدواره الجديدة- العمل إلى جانب السلطة أساسا- التي فرضتها طبيعة المرحلة واقتضتها الظروف المستجدة. وهي المسألة التي تجعل المثقف يتخندق في مؤسسة "المخزن"، ويجعلها المبدأ والمنتهى في انتاج أفكار وتسويغ أخرى، مع توطيد أعماق وأبعاد هذه المؤسسة في إطار تبريري / تسويغي، يضفي المزيد من أسس الشرعنة عليها. إنه الأمر الذي يطرح جملة من علامات الاستفهام حول براغماتية المثقف واستعداده الدائم الممزوج بالطابع النفعي، لمراجعة الذات المثقفة بغية الظفر بعطايا ونعم المؤسسة "المهيمنة "أو التي تفرض هيمنتها. ومن ثم تفسر توجهات المثقف البراغماتي في ذهابه إلى السلطة أو انخراطه في صفوف مؤسسة المخزن، في مقابل تنازله عن مواقفه، وعن تعاقده الرمزي مع القارئ ،أي بالتنازل عن أفكاره، حرصا طبعا على السلطة5 .

وعلى النقيض من كل ذلك يعد المثقف "اللادولتي" أو المثقف الغير الخاضع بأي شكل من الاشكال لمؤسسة الدولة، خاصة في السياق العربي، نتاجا خالصا لتجليات وأبعاد انتقالية من "المثقف الإيديولوجي الحزبي" إلى المثقف "الدولتي"، في إطار نمط من احتواء الدولة للمجتمع، خاصة مع نشوء الدولة الريعية المتضخمة. وليصبح هذا النمط من الاحتواء -المتجسد لدى البعض في انتقالية هشة من الحزب الى الدولة -عاملا جوهريا في تحديد شكل فهم المثقف لوظيفته، وهو ما يفسر السبب الذي جعل المثقف العربي يظل بعيدا عن فكرة المثقف النقدي أو المثقف اللادولتي، الذي ما فتئ يتسم بخصائص جوهرية تجسد عمق أدواره. وهي الخصائص التي يمكن تحديدها في ثلاثة مكونات6 :

أولا: بقايا النزعة الرسولية التي تضمنتها ولادة فكرة المثقف في أوربا، والتي كرست فيه النزعة إلى تغيير العالم أو المساهمة فيه.

ثانيا: النزعة النقدية التي تمثل واحدة من أهم تطويرات التعريف الأساسي للمثقف بوصفه ضميرا.

ثالثا : النزعة الفكرية التي تنتج من لحظة التقاطع بين فكرة المثقف ونهضة العلوم الاجتماعية والإنسانية، والتي لا تقصر المثقف على كونه ناقدا منهمكا في الشأن العام، وساعيا للتغيير، ذلك أنه صاحب رؤية وبرنامج أيضا.

وبذلك ينبثق المثقف اللادولتي كنموذج إرهاصي للنخبة المثقفة، باعتبارها الطليعة التي تمارس –وباستقلالية- الريادة والقيادة على صعيد الفكر والثقافة 7، كما أنه يتبلور كمجمع فذ لنزعات ثلاث :رسولية، نقدية وفكرية. وهي النزعات التي تجعل أدوار "المثقف اللادولتي" تتميز بالفعالية ووظائفه تتسم بالنجاعة، خاصة في إطار تعامله مع الثقافة كظاهرة تاريخية تتطلب منه المزيد من مجابهة كل الإغراءات الزائفة للشرعيتين السياسية والاقتصادية، واللتان غالبا ما تجنحان إلى الاستبداد بالثقافة8 والتحكم فيها . هذا دون إغفال الدور الذي لايستهان به، والذي يمكن أن تتملكه الشرعية الدينية . هذه الشرعيات الثلاث، هي التي غالبا ما يتم تجميعها في يد واحدة مطلقة هي يد الدولة، والتي تعمل من أجل تعميق أسسها وتوطيد أركانها على التدخل القوي في الحقل الاجتماعي، باعتبارها الفاعل الاستراتيجي الأول أو الحصري في بعض الحالات في وضع وترتيب قواعد الإرتقاء الاجتماعي للنخب المختلفة والتخطيط لممرات ومسارات الصعود الاجتماعي إلى القمة. ولا يتمتع المجتمع في هذه الحالة بأية استقلالية واضحة المعالم عن الدولة9، في إطار خطة محكمة من أبرز آلياتها الاحتواء والاستقطاب والإدماج والتدجين.


الإحالات:

1 Cité par Paul. Henri Chombart de lauwe in « images de la culture » Payot Paris 1970 .p17.

2- أحمد مفلح "صورة المثقف العربي : دراسة سوسيولوجية في مجلة المستقبل العربي "مجلة اضافات العددان 29-30 شتاء -ربيع 2015.ص 49.

3- صلاح بوسريف "المثقف المغربي بين رهان المعرفة ورهانات السلطة " دفاتر وجهة نظر (28) ( مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الاولى 2014) ص 9.

4- فريد لمريني "محاولة حول النخبة المثقفة المغربية. ملاحظات من قلب التحولات الجارية" وجهة نظر،العدد 43 ،شتاء 2010 ص 21.

5- صلاح بوسريف، مرجع سابق، ص 9.

6- حيدر سعيد "مولد المثقف اللادولتي : حالة العراق" مداخلة ضمن المؤتمر السنوي الرابع للعلوم الاجتماعية والانسانية مراكش 19-21 مارس 2015.

7- صلاح بوسريف، مرجع سابق ،ص 6.

8- جمال مفرج "الثقافة في زمن العولمة من مهمة إنسانية إلى جبهة للصراعات "ضمن" المعرفة و القوة.نحو طريقة علمية للهيمنة" الدار العربية للعلوم ناشرون منشورات الإختلاف. الطبعة الأولى 2009.ص 22.

9- فريد لمريني، مرجع سابق،ص 20.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية