إذا انطلقنا من التساؤل التالي: ما هو المجتمع المدني؟ فالجواب يظل ضبابيا، لأن الأمر يتعلق بمفهوم مرن /مرتبك، ويصبح بدون معنى في حالة حصره في تعريف دقيق وموحد، خاصة عندما نرصد التطورات المتلاحقة التي ما فتئت تعرفها المجتمعات المتسمة بحضور فعال وملفت للتنظيمات المدنية لدرجة أصبحنا اليوم نعيش في عصر"مدني" بامتياز. إلا أن الإحتفاء بهذه "المدنية" المفرطة، عليه في المقابل، أن ألا يحجم عنا "زئبقية" سمات وحربائية عناصر تحديد أهم المفاهيم المرتبطة بهذه "المدنية"، وهو مفهوم المجتمع المدني، والذي بقدر مايعري بالضرورة ، عن وهنه "الإبستيمي"، فإنه على النقيض من ذلك، يكشف وبقوة، عن زخمه التأويلي، بالنظر أساسا للطابع الإشكالي الذي يتميز به كمفهوم ملتبس وشائك. الشيء الذي سيساهم لامحالة في بروز العديد من العوائق الابستيمولوجية والصعوبات الفكرية، التي تظل تواجه الباحث عند تعامله مع هذا المفهوم، ومنها(1):
*غموض التأصيل النظري لمفهوم المجتمع المدني، وذلك على الرغم من شيوع استخدامه، وأنه لم يحدث تأصيل نظري للمفهوم من حيث تعريفه وضبطه وتحديد متغيراته، مما يفرز العديد من النتائج السلبية: الانتقالية في نقل المفهوم، والتحيز في استخدامه، والمبالغة في قيمته.
* الاختلاف في تكييف طبيعة مفهوم المجتمع المدني. فالبعض يستخدمه في مقابل الدولة، اذ يرى أن المجتمع المدنـي يحد من سلطتها ويحمي الأفراد من تعسفها، والبعض يستخدمه كمقابل للدين، بحيث يجب فصل الدين عـن الدولة، أي إعلان مبادئ العلمنة كأحد المدخلات الذي لامحيد عنها لبناء المجتمع المدني بمعناه الحقيقي، وآخرون يقيمون تمييزا بين "المجتمع المدني" و"المجتمع الأهلي". وهناك من يستخدم لفظ "المدني" في مقابل عبارات على شاكلة "العسكري" أو"السياسي". وهذا مرده أساسا، انعدام التحديــد الدقيق للمفهوم وعدم ثبات معناه، والذي أضحى مع مرور الوقت أكثر ضبابية و" حمالا لأوجه" .
* المواقف الجدية بشأن وجود المجتمع المدني من عدمه، خصوصا في الفكر السياسي العربي. حيث هيمنة تنظيمات لا تتوانى عن التعبير عن ارتباطها الوثيق، وجودا وعدما، بشكل الدولة، وهو الأمر الذي ينطبق على الجماعة والقبيلة مثلا. من منظور ماسلف، يبدو أنه لن يكون من الممكن استخدام مفهوم المجتمع المدني بصورة عملية والاستفادة منه في التحليل النظري، من دون تحريره من اختلاطات ثلاثة، على حد تعبير أحد المفكرين(2):
* الاختلاط الأول: ويتجلى في أن المجتمع المدني هو رصيد قيم الحرية والتحرر، ويضعه في موضع النقيض من السلطة والدولة، وما تنطويان عليه من قيم متناقضة مع هذا الرصيد.
* الاختلاط الثاني: فهو نابع من مطابقة مفهوم المجتمع المدني مع مفهوم الشأن الخاص المتعلق بالفرد وحياته الشخصية، مقابل الشأن العام والدولة التي تهتم بالأمور الوطنية. وفي هذا السياق، يصبح التحرر والتقدم في اتجاه الديمقراطية، رهين بالعودة إلى الفردية وسيطرة المصلحة الشخصية.
* الاختلاط الثالث: وينبع من محاولة جديدة وحثيثة لوضع مفهوم المجتمع المدني، في مقابل مفهوم المجتمع الأهلي. وفي هذه الحالة، يستخدم المجتمع المدني كتعبير عن التنظيمات والبنى الحديثة بمثابة آلة حرب ضد الحركات والتيارات الحاملة للقيم التقليدية.
لقد شهدت السنوات الأخيرة طفرة متقدمة لمقولة المجتمع المدني، سواء على المستوى التراكمي أو التأثيري، كما وكيفا، مما خلق نوعا من الامتداد المعبر عن دينامية مجموعة من المفاهيم الجديدة المرتبطة به، بشكل أوبآخر، من قبيل العولمة، الحكامة، الاتصال الشبكي، الاندماج المعرفي والتكتل الاقتصادي...
إن المجتمع المدني يبرز هنا، ليس كقوة ذات مكانة سامية في عالم اليوم، وإنما كانبثاق للتنوع والتعدد وبروز لمسارات الاختلاف والجمع بين سياقات معرفية متعددة : الفلسفة، التاريخ، السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا... وامتدادات الفضاءات والأزمنة الوطنية، لينظر إليه كمفهوم يتسم بشساعة التأويلات، وبالتالي ضرورة عمل الباحثين والمفكرين، على اختراق دلالته بنوع من الدينامية التأويلية، وفق مسارات متواصلة وشاملة. ومع ذلك نجد أنه كثيرا من الاستعمالات والتوظيفات التي ظل مفهوم المجتمع المدني لصيقا بها، لم يوفق في عرضها بإيجابية وفعالية، لكونها انطلقت من فرضيات مرتبكة، للتأكيد على مفهوم ظل لوقت طويل مقولـة افتراضية من جهة، ومفهوما من المفاهيم التاريخية من جهة أخرى. هذه المفاهيم ما فتئت تشهد تحولات عديدة. فتاريخ المفهوم هو تاريخ تحولات ترصد في شتى الحالات ووفق مختلف الدلالات وذلك من بدايـة نشأته، مرورا بتشكلات المعرفة المرتبطة به والمعبرة عن ظرفية تاريخية معينة، حيث في كل مرحلة تاريخية يأخذ المفهوم دلالات جديدة تعبر في أحيان كثيرة عن قطيعة واضحة مع ما سبقها، الأمر الذي زاد من صعوبة الاتفاق على تعريف واحد للمجتمع المدني، حتى داخل المجتمعات التي عرفت تاريخا اجتماعيا مشتركا، وعاشت في ظل مؤسسات وأنماط تنظيمية متشابهة. كما أن لعبة الخفاء والتجلي المرتبطة بهذا المفهوم، زادت من حالة الارتباك المميزة له. وهو مارصد في اختفائه الملفت للنظر في الفترة الممتدة من سنة1850 إلى حدود سنة 1920 (بعد تواجده في كتابات هيجل وماركس) وليعاود الظهور من جديد في أطروحات المفكر الماركسي " أنطونيو غرامشي". الشيء الذي أكسبه قوة باهرة مكنته من أن يتجلى كحتمية جديدة في الخطاب السياسي المعاصر(3).
وما دام البعد التأويلي يحيلنا على مفهوم غائي، فإن السؤال القائم: أين تكمن ضرورة المجتمع المدني؟ يظل سؤالا ملتبسا، وحيث نجد أنفسنا أمام مجموعة من الأسئلة الأخرى من قبيل: هل يكفي الادعاء بأن المفهوم مقولة تفسيرية، بينما هو ذاته بحاجة إلى تفسير؟ وهل يجوز استهلاك وصف المجتمع المدني بالوسائطية أو العلائقية، من دون بذل الجهد في تحليل الوظائف العميقة الني يخترق عبرها المجتمع المدني منظومة القيم، وليس فقط شبكة العلاقات؟ فالقول مثلا بأن المجتمع المدني يلعب دور الوساطة بين المجتمع والدولة لا يفسر شيئا على الإطلاق: إذ كيف نعرف ظاهرة بالوساطة، ثم نستعملها في تفسير الوساطة نفسها؟
وفي نفس الاتجاه، يظل المعنى التأويلي مرتبطا بأدوات معرفية أخرى من قبيل الترجمة، حيث استعادت أعمال الترجمة مفهوم المجتمع المدني لتخضعه إلى تأويل يعكس السياقات السوسيو-سياسية التي تؤثر في المترجم، وهو ما يفسر الكيفية التي أصبحت بها دلالات المفهوم تحيل على أكثر من تعريف.
وحيث يساعد هذا التفسير أيضا، على تتبع الصيغ المتعددة والمتناقضة التي يتم التعبير بها عن المجتمع المدني في الخطاب الذي أنتج وينتج حول مفهوم يعد في حد ذاته مقولة تأويلية لعدة مفاهيم أخرى، وهو ما يعيد إلى الواجهة سؤال استقلاليته كمقولة مفاهيمية قبل أن يصبح واقعة سوسيولوجية، وبالتالي كيف لا تكون المفارقات الكاملة هي مكمن ضعفه، بل باعث على استمراريته وتكيفه(4). وعموما، هناك قسم من العمل النظري والتجريبي البالغ التأثير يوحي بأن المجتمع المدني هو مقولة تم التنظير لها دون المستوى المطلوب وبشكل سيء ، لأنها لا تستطيع أن تفسر بعضا من تطورات الحياة المعاصرة. ويمكن القول أنه قد حان الوقت للذهاب أبعد من التفكير المحدود، وأبعد من الاحتفاء بالتشظي المحلي للتعاطي مع الأسئلة الكبيرة التي تطرحها العدالة الاقتصادية والنظرية الديمقراطية(5). وهنا، سنجد أن المجتمع المدني وفق المنظور التأويلي المحض، يتجلى في اقتناعه كتنظيم، بأهمية إثراء الثقة في قدرة العمل الجماعي على الانفتاح على مختلف المطالب الاجتماعية(6) والحرص على اشباعها، وكذا الايمان الراسخ بالبعد المعياري لمفهوم المجتمع المدني، والذي يشترك فيه مع الديمقراطية، باعتبارها مجموعة من قواعد الحكم ومؤسساته التي تنظم من خلالها الادارة السلمية للصراع في المجتمع بين المجتمعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة(7). فالروح التأويلية، ووفق هذا الأساس المعياري في التحديد، تفرض على المجتمع المدني أن يمتح بعض عناصر تعريفه من الديمقراطية كفكرة جامعة لجملة من المبادئ ذات الحمولة الايجابية. وهو ما يمكن التأويل في حد ذاته، من نحو منحى تبريري/ تسويغي، "يصنع" مفهوم المجتمع المدني " صناعة جديدة" لا تحصر أبعاده إلا في كل ماهو ايجابي.
هكذا، فالمنظور التأويلي لمفهوم المجتمع المدني هو منظور متطور وظائفيا يسعى على البحث عن غائيات تواجد هذا المفهوم ويطرح فرضيات مواءمته المستمرة، كما أنه منظور متعدد يشمل شتى التخصصات وينطلق من جميع النظريات التي حاولت تسليط الضوء عليه، مع ضرورة الأخذ بالمنطلقات الابيستمية التي واكبت مسيرته عبر تصورات مفكري الحقب التاريخية المختلفة مند العهد الاغريقي(أفلاطون، أرسطو، شيشرون، أوغسطين ، دانتي أليجري، نيكولا ميكيافيلي، آدم فيرغسون، ايمانويل كانط، طوماس هوبز، جون لوك، جون جاك روسو، فريدريك هيجل، كارل ماركس، أنطونيو غرامشي، ألكسي ديتوكفيل ...) وهو المنظور الذي عليه ألا يستثني أي تصور كيفما كان، ولو اتسم " بضحالة أو سذاجة "في التحليل، فهو يتوخى في أوله ومنتهاه، في ظاهره وجوهره، توسيع دائرة ادراكاته، وبالتالي ترسيخ وتعزيز قدراته الفائقة على استيعاب مختلف التواجدات النظرية والعملية.
الإحالات :
(1) حسين توفيق إبراهيم، "بناء المجتمع المدني: المؤشرات الكمية والكيفية" ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية"، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1992)، ص: 684.
(2) برهان غليون، "بناء المجتمع المدني العربي: دور العوامل الداخلية والخارجية" ضمن "المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية"، نفس المرجع، ص: 734.
(3) Danièle LOCHAK, “La société civile du concept au gadget”, dans Jacques CHEVALIER,dir., La société civile, P.U.F. 1968, p44 (4) جون اهرنبرغ، "المجتمع المدني: التاريخ النقدي للفكرة" ترجمة علي حاكم صالح، حسن ناظم، مراجعة فالح عبد الجبار، (المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، فبراير 2008)، ص: 25.
(5) نفس المرجع، ص: 20.
(6) Jean-Louis Laville, Renaud Sainsaulieu (dir.) Sociologie de l'association. Des organisations à l'épreuve du changement social . Desclée de Brouwer, 1997, p 317
(7) كمال الهشومي، " المجتمع المدني والتحول الديمقراطي" ،مجلة الشعلة العدد 13، أبريل 2016،ص:46.