تتنوع الثقافة وتتعدد صورها من مجتمع لآخر ، وسوف نلقي الضوء على بعض أنواع الثقافات السائدة في مجتمعاتنا ومنها :
أولاً : الثقافة العامة :
تتنوع الحصيلة المعرفية للبشر ، بحسب اختلاف اهتماماتهم ، فالبشر مختلفون بطبائعهم ومعارفهم ، فهناك من يهتم بتحقيق الإنجازات فقط والتي تتجسد من وجهة نظره بكسب المال وجمعه فقط ، فتجده شخصاً مفرغاً من الداخل قميئاً لا يتحصل على أدنى مستويات الثقافة والمعرفة ، وهناك من تجده مهتماً بتطوير ذاته وتحصيل أكبر قدرٍ من المعارف لأنه يعتقد اعتقاداً جازماً بأنه خليفة الله في أرضه ، وأن ساعاته محدودة على هذه الأرض ، لذلك فهو يهتم بما يفيده وبما يفيد الآخرين بعد وفاته وانقضاء أجله .
فثقافة الشخص هي مؤشرٌ جيد عمَّا يحتويه هذا الشخص وعن شخصيته ، وتتحصل هذه الثقافة عن طريق القراءة وحب الاطلاع وحب معرفة الجديد ، وحب استكشاف الوجود والتنقل بين سهوله ومحيطاته والعيش مع كل الأمم ومعرفة الحضارات جميعها ومحاولة العيش فيها والتفاعل معها .
لذلك يعتبر الكتاب الوسيلة الأساسية لزيادة الثقافة العامة عند الأشخاص الراغبين بذلك ، حيث أن القراءة تبلور الأفكار وتمكن الشخص من تحصيل كافة الخبرات السابقة وكافة العلوم المختلفة .
وهناك خلط واضح ما بين الثقافة والتخصص المتحصل عليه عن طريق الدراسة الجامعية ، فالتخصص يكسب الشخص معلومات في مجال واحد فقط أما الاطلاع والقراءة فتكسبه معلومات في مجالات مختلفة وفي شتى الميادين ، فالشهادة الجامعية ضرورية لكنها لا تكسب الأشخاص ثقافة ، فلم نجد أن عالماً من العصر القديم كان جامعاً للشهادات والألقاب ولكننا نجده قد أسهم بشتى الطرق في إحداث نقلات نوعية لدى البشر على مر العصور ، فقد كان قديماً مصطلح العالم الموسوعي يطلق بكثرة على العلماء وذلك نظراً لإتقانهم علوماً مختلفة في شتى المجالات والأغرب أنك قد تجد إنجازات واضحة في كل مجال منها ، فقد يكون العالم متقناً للرياضيات والفيزياء والطب والرسم والموسيقى والهندسة .
ويمكن للإنسان أن يجمع بين زيادة معرفته في تخصصه وزيادة ثقافته عن طريق قراءة كتاب في التخصص وكتاب في أي مجال آخر .
كما يجب البدء باكتساب الثقافة المتنوعة من الصغر حيث يجب التركيز على ما يتلقونه من تعليم منذ بدء عمليتهم التعليمية ، وذلك عن طريق ترسيخ قواعد اللغات عندهم منذ بداية حياتهم .
كما أن اللغات وسيلة مهمة لزيادة الحصيلة المعرفية واكتساب الثقافة في المجالات المختلفة ، إذ يجب قراءة الكتب في لغاتها الأصلية فالترجمة قد تضعف المعاني التي يقصدها المؤلف عند تأليفه الكتب خصوصاً إذا كان المؤلف غير متقن للغة التي يترجم منها .
وفي هذا العصر تتنوع وسائل الحصول على الثقافة فبجانب الكتب هناك المقالات ، وهناك التسجيلات الصوتية ، ومقاطع الفيديو للعلماء والمثقفين والتي بدورها تسهم في إثراء المعارف عند المتلقي ، خصوصاً وإن كان المتحدث قارئاً نهماً للكتب وذو ثقافة عالية جداً .
ثانياً : الثقافة الاجتماعية :
يهتمّ الكثير من الناس بأن يكونوا مثقّفين وملمّين بكافّة مجالات الحياة ، فالثقافة بشكل عام هي الأمور التي تجعل الإنسان قادراً على بناء فكر وروح معطاءة ، وتدفعه للتحرك نحو الحياة ومواجهة كافة الأمور بالشكل العقلاني الصحيح ، حيث إنّها مجموعة متكاملة من الآداب ، والعلوم ، والفنون ، كالعقائد والتاريخ والرسم .
فالثقافة الاجتماعيّة هي الثقافة ذات العلاقة الوطيدة بالأعراف والعادات والتقاليد التي تعتمد المجتمعات عليها في بناء حياتها لضمان تحقيق حياة كريمة وسعيدة مع رفاهية ، من خلال تطبيق قواعد وقوانين خاصة ، يتمسك بها الأفراد دون رقابة أو وصاية ، ويركز هذا النوع من الثقافة على تلك التي تحثّ على توجيه الثقافة لجعل زمام أمور التحكم بيد القيم والمثل النبيلة ، وذلك من خلال الترابط والألفة .
والثقافة الاجتماعيّة هي نتاج المجتمع نفسه ، من خلال ما يقومون به ويفكرون فيه ، فلا أحد يستطيع أن يغيّر ثقافة المجتمع بوقت قصير ، لأنّ الثقافة الاجتماعية يتمّ توارثها من قبل الأجيال ، وقد يكون جزء من الثقافة الاجتماعية مستورداً من ثقافات أخرى كما هو الحال الآن بمجتمعاتنا العربية ، فبالرغم من المحافظة على العادات والتقاليد المتوارثة من الأجداد فقد ظهر حديثاً العديد من الأمور الدخيلة على المجتمع نتيجةً لتطوّر الحياة وتداخل المجتمعات ببعضها البعض بسبب وسائل التواصل الحديثة ، وسهولة السفر والتنقل بين هذه الدول .
وللدولة دور مهم في بناء الثقافة الاجتماعيّة لإصلاح المجتمع ، فالدولة باعتبارها هي رأس المجتمع فإن فسادها سيتسبب في انتشار الفساد وتفشيه في كافة أرجاء المجتمع ، ولا بد من أن تقوم الدولة بإصلاح نفسها ثم محاولة التأثير على المجتمع والتخلص من الثقافات غير الملائمة لهذا العصر ، من خلال عرض وسائل تعليمية للجيل الجديد تحثهم على الإصلاح ، والاهتمام التربوي والتعليمي لإعلاء مستوى الثقافة العامة وبالتالي تحسين مستوى الثقافة الاجتماعية .
وللثقافة الاجتماعية علاقة مباشرة بالأخلاق ، وذلك من خلال عادات وتقاليد وسنن المجتمع ، فإن قاموا بتأسيسها بالأسس الفضيلة والصالحة ، فستخلق جواً مناسباً للتربية الصحيحة والتهذيب ، أما إن تأسست من الرذائل والفساد الأخلاقي ، فستخلق جواً مناسباً لنشر القبائح والجرائم في المجتمع ، ولقد انحرف العديد من الأقوام السابقة بسبب وجود قيم منحرفة بالمجتمع وتقاليد غير صحيحة وغير سوية ، مما أدى إلى إسقاطهم للرذيلة وتدمير المجتمع كافة .
ومن ثم فإن الأخلاق التي تتكون منها الثقافة الاجتماعية لها دور أساسي في تحديد مكانة المجتمع وازدهاره ومدى تقدّمه ، فإن كانت الثقافة السائدة ذات مستوى مرموق ، فإنّها حتماً ستنتج أفراداً ذوي أخلاق عالية فاعلين في المجتمع ، والعكس سيؤدي إلى زيادة الفشل وتفشي الجريمة بالمجتمع ، ومن الثقافات السيئة التي كانت سائدة بالعصور القديمة : وأد الإناث ، عبادة الأصنام ، العبيد ، وهناك العديد من الثقافات السيئة في عصرنا الحالي مثل : حرية العلاقات الجنسية ، وانتشار المثلية الجنسية ، وحرية إسقاط الأجنة .
ثالثاً : الثقافة السياسية :
ويُعنى هذا النوع بالقضايا المصيرية التي ترتبط بأمور الأشخاص ، وخاصة فيما يتعلق بالحريات والطقوس الدينية والمذهبية ، وتندرج تحت هذا النوع ثقافة تحفز الأفراد على الاتجاه إلى الإصلاح والتغيير والسعي الدؤوب لتحقيقها وذلك في المجتمعات والدول المتحضرة التي تتمتع بالحرية والديمقراطية ، أما المجتمعات في الدول التي تنتهج سياسة القهر والدكتاتورية وقمع الحريات فتوطد بهم معاني الخلود والتبعية والخوف .
مفهوم أوروبا للثقافة :
وقد ظهر مفهوم الثقافةِ للمرة الأولى في أوروبا ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد ، وكان المراد به تحسين المستوى والاستصلاح بشكلٍ عام ، وتمّ إطلاق هذا المفهوم على البستنة والزراعة ، وتحوّل تدريجيّاً ليشير بشكلٍ مباشر إلى تعديل وتحسين وتطوّر المهارات الفرديّة للأفراد ، ويتحقق هذا الأمر عن طريق التربية بالإضافة للتعليم ، ومن ثم السعي لتحقيق قدر من التنمية الروحيّة والعقليّة للفرد في سبيل الوصول إلى قيمٍ عليا ورخاءٍ على المستوى القومي .
وفي أواسط القرن التاسع عشر للميلاد أصبح مفهوم الثقافة يشير إلى قدرات الفرد على مستوى العالم .