شكلت إسهامات محمد عابد الجابري الفكرية والنقدية أحد أهم المشاريع التي بصمت في الفكر العربي المعاصر، فعلا وردة فعل، وخاصة في موضوع التراث الذي فككه الجابري وحاول إعادة بنائه للاستناد عليه في تقديم إجابته الخاصة حول سؤال النهضة الذي شغل العقل العربي، الإجابة التي أرادها الجابري أن تكون مؤسسة لفعل عربي خاص يتجاوز الإجابات السلفية التي استدعت التراث لتكرره خارج مجاله الزماني والمكاني، ويتجاوز الإجابات التغريبية التي نادت بالقطيعة وأرادت استنساخ التجربة الغربية متعالية عن الزمان والمكان، وبهذا قدم الجابري مشروعه المبثوث في العديد من كتبه وخاصة منها الكتب المؤسسة: نقد العقل العربي وبينية العقل العربي.
سياق القول وبنيته
لا يمكن فهم مشروع الجابري دون التطرق للمحددات الأساسية التي يمكن من خلالها فهم هذا المشروع المركب كما أراده الجابري، ومن أجل ذلك فإن قراءة المشروع وحدها لا تسعف القارئ، أي قارئ، ليحيط بكافة الفعاليات العاملة فيه، وذلك لأن المشروع يعتمد على معارف ضرورية يعتبرها الجابري من باب الضرورة أو من باب التقصير أن القارئ محيط بها، وهو ما خلق التباسا كبيرا في المشروع حتى من لدن المتحمسين له أو من لدن القراء المتخصصين، ومن أجل ذلك سأبتدئ بتحديد بعض المحددات الأساسية التي استند عليها الجابري لتمرير مشروعه وأيضا لفهمه من طرف القراء:
سياق القول: يعتبر مشروع الجابري ولا ريب امتدادا للمشاريع المعرفية والسياسية أيضا التي حاولت الإجابة عن السؤال المركزي الذي طرحته الثقافة العربية حينما اجتاحتها الحضارة الغربية المعاصرة في شقها الأوربي، والمتمثل في: كيف لنا أن ننهض؟ وجاءت إجابة الجابري بعدما لم تقنعه إجابات كثيرة بدأت مبكرا مع الرواد كشكيب أرسلان أو مع الثلاثي الديني التجديدي الأفغاني وعبده ورضا، وتوالت مع رموز الفكر والثقافة العربية بمختلف تلاوينها الفكرية والمذهبية، والتي اعتبرها الجابري لم تنفذ إلى العمق وظلت تحوم حول الجواب، بل إنها لم تطرح السؤال المناسب بتوجيه أعينها بقوة نحو الماضي أو نحو الغرب.
مفهوم التراث: يعتبر الجابري التراث العربي كل الإنتاجات المكتوبة بالعربية والتي بدأت خصوصا منذ عصر التدوين خلال القرن الثاني الهجري والتي ما تزال فاعلة بشكل من الأشكال فينا جماعات وأفراد، إنه كما قال الجابري: يعيش فينا ونعيش فيه، ويرى الجابري أن تعاملنا مع التراث هو نوع من السلفية الإيجابية والتي قال عنها: إنها رجوع إلى الخلف خطوات من أجل التقدم إلى الأمام والقفز، ويستخدم الجابري التراث كمادة للنقد الثقافي وأيضا كأداة للتداوي الثقافي، وحدد من أجل ذلك شرطين للتعامل معه هما المعقولية أي اعتماد المعقول من التراث فقط، وهذا يستدعي إعادة كتابة هذا التراث، والموضوعية أي الانتقاء من هذا التراث ما يصلح للنقد وللتداوي ولا يحدث ذلك دون وصل بين الحاضر والماضي، مع الإشارة إلى أن الجابري اعتبر القرآن نصا خارج التراث من حيث بنيته، لكن الفهم التاريخي له يعتبر من التراث.
العربي: لا يقصد الجابري بمصطلح العربي ما يحيل على العرق ولا على الجغرافيا، وهو بهذا لا يقصي باقي الأعراق التي ضمتها الحضارة الإسلامية، ولكنه يقصد بالعربي الهوية الثقافية المستندة على اللغة العربية ليست كأداة تواصل فقط بل كنظام تفكير، إضافة إلى اعتمادها على التراث، وبهذا يتجاوز الجابري المفهوم العرقي للعرب ويحدده في اللغة ونظام التفكير الناتج عنها ومعها.
العقل: يعتبر العقل من المفاهيم التي خلق الخلط لدى نقاد الجابري، فالأخير استخدم المصطلح ليس بمعنى البنية أو النظام، كما استخدمه كانط، وإنما كأداة منتجة كما استخدمه ميشيل فوكو، فالعقل العربي بهذا المعنى هو تلك الفاعلية التي أنتجت الفكر العربي وحددت له الشكل الذي انتهى عليه.
المنهج: لقد زاوج الجابري بين العديد من المناهج وحاول تحييد مناهج أخرى، فمنهج التحليل التاريخي والمنهج البنيوي والآليات المنهجية الماركسية كانت أهم المحددات التي اعتمد عيها الجابري في مشروعه، ولا يمكن لقارئ الجابري أن يفهم مشروعه ما لم يكن ملما بين هذه المناهج وقادرا على استخراج التفاعلات التي أحدثها الجابري بينها والتي جعلت من مشروعه مشروعا محددا يجبر قارئه على الالتزام بما حدده الجابري سلفا من قدرة على استنباط المعنى من خلال مبنى الكتابة.
إضافة إلى ما سبق تقتضي القراءة للجابري فهم التراث العربي وعدم الاكتفاء بالنماذج التي مثل بها الجابري في كتابه، حتى تكون للقارئ تلك الفاعلية التي يستطيع من خلالها الانتقال من المثال إلى التعميم والاستنتاج، كما يستطيع أيضا فهم منطف الانتقاء ومسوغاته.
العرفان
من خلال تحليله للتراث العربي حدد الجابري ثلاث أنظمة عاملة منتجة للفكر العربي، أو ما نسميه بثلاث عقول:
البياني ومثّل له أساسا بنموذج الجاحظ وقد بني هذا العقل بطريقة سلفية ويرتكز على فنون القول واللغة لينتج الفكر، ما يمكن أن نسميه اليوم بالذكاء الكلامي، أي القدرة على الإقناع الكامنة في اللغة، واعتبر الجابري أن العقل البياني هيمن على الفكر العربي وخاصة السني منه، إنه ما سماه علي الوردي الاستحواذ بدل الإنتاج، أي أن العقل البياني متمثل في شخصية الأعرابي الذي يستحوذ على الشيء بالبيان واللغة واللفظ بدل أن ينتج، "إن البيان كنظام معرفي هو جملة من المبادئ والمفاهيم والإجراءات التي تعطي لعالم المعرفة ذاك بنيته اللاشعورية: أعني المحددات والسلطات التي تحكم وتوجه المتلقي للمعرفة المنتج لها، داخل الحقل المعرفي البياني، دون أن يشعر بها، دون أن يختارها" بنية العقل العربي ص 556
البرهاني ومثل له أساسا بابن رشد، وهو العقل القائم على الأسس المنهجية والتجريبية في الإقناع، وهو العقل الذي ظل مغيبا في التراث العربي ولم يعمل بالفاعلية المنشودة ولا بالتأثير المرغوب، وهو العقل الذي انتصر له الجابري ودعا إلى العودة إليه، "إنه (البرهان) كفعل معرفي فهو استدلال استنتاجي (مقدمات فنتائج تلزم عنها) وكحقل معرفي هو عالم المعرفة الفلسفة العلمية المنحدر إلى الثقافة العربية عبر الترجمة، ترجمة كتب أرسطو خاصة" بنية العقل العربي ص 557
العرفاني وهو العقل المبني على الأسطورة والميتافيزيقا ومثل له بابن عربي، والذي يعتبره الجابري عقلا مستقيلا، وعلى هذا العقل نعتمد في رؤيتنا في مشروع الجابري وعلى ما سميته بالنظرية الكسب، إنه "كفعل معرفي يسميه أصحابه بـ'الكشف' أو ‘العيان'. وكحقل معرفي هو عبارة عن خليط من عقائد وأساطير تتلون بلون الدين الذي تقوم على هامشه لتقدم له ما يعتقده العرفانيون أنه 'الحقيقة' الكامنة وراء ظاهر النص" تكوين العقل العربي ص 557
يخلص الجابري من خلال تناوله العلاقة بين اللغة والفكر، في إطار الإبستمولوجيا الثقافية إلى اعتبار أن الأعرابي هو صانع الوعي العربي، إذ يقول: "فهل نبالغ إذا جنحنا إلى القول بأن الأعرابي هو فعلا صانع العالم العربي العالم الذي يعيشه العرب على مستوى الكلمة والعبارة والتصور والخيال، بل على مستوى العقل والقيم والوجدان، وأن هذا العالم ناقص فقير ضحل وجاف، حسي-طبيعي، لا تاريخي، يعكس العصر الجاهلي، يقول الجابري في هذا السياق: "كان حلم المأمون حلماً سياسياً وهل يكون حلم رئيس الدولة شيئاً آخر؟ لقد عبر هذا الحلم عن اتجاه الخليفة، المستنير بسياسته الثقافية، إلى الحوار، لقد استنجد بالعقل الكوني «اليوناني» ليغرز به «المعقول»، وهكذا كانت المعركة بين ثقل آسيوي عرفاني روحي غيبي، وبين محاولة تحديث ونقل وترجمة للمعارض العقلية اليونانية وهذا ما حاوله الكندي وكذلك الفارابي الذي عاش عصر التمزق والانهيار الإسلامي، كانت محاولة المأمون بداية لتنصيب العقل الكوني في الثقافة العربية التي تقاسمها نظامان معرفيان آنذاك: النظام الإيديولوجي السني بشكله البياني والنظام العرفاني والإيديولوجيا الشيعية من جهة ثانية وهو ما كان ينبئ عن أزمة أسس في الفكر العربي يمثلها نموذج الفارابي والكندي" (تكوين العقل)، ص249، إن العقل العرفاني في نظر الجابري عقل استطاع الهيمنة على الفكر الشيعي ولكنه أيضا موجود بقوة في العقل السني وخاصة الصوفي منه، وهو لم يقصد بتاتا ما تبادر إلى ذهن الكثير من الدارسين من أن العقل العرفاني هو العقل الصوفي، إن العقل العرفاني في نظر الجابري هو ما يمكن أن نسميه اليوم بمفهوم الدراسات الثقافية الحديثة النسق الثقافي، إنه نوع من القبح المتمكن من العقلية العربية المتواري خلف مختلف الأنظمة الثقافية مهما كان نوعها، إن العرفان حاضر لدى العربي ككل، سواء كان متصوفا أو حداثيا أو فيلسوفا، إنه عقل فوق إيديولوجي وفوق مذهبي، وقد احتقر الجابري هذا العقل معتبرا أن "الموقف العرفاني كان دائما موقف هروب من عالم الواقع إلى عالم العقل المستقيل، كلما اشتدت وطأة الواقع على الفرد الذي لا يعرف كيف يتجاوز فرديته، ويجعل من قضيته الشخصية قضية جماعية، وإن لزم الأمر قضية إنسانية"، وهو المسؤول عن انتكاسات العقل العربي، لأنه لا يعترف بسعي بل يؤمن بالكشف، ما يعني سيادة الأسطورة وإهانة العقل واعتماد اللامعقول والركون إلى الميتافيزيقا.
يعتبر الجابري العقل العرفاني عقلا متسربا من المحيط خارج العربي، خصوصا من الهند وفارس ومن التيارات الغنوصية والهرمسية التي انفتح عليها المسلمون والعرب والتي كانت سائدة، فقاموا بأسلمتها واستغلوها كنظام معرفي لتفسير وتأويل العالم وأيضا كموقف من العالم، وبهذا ينسب التصوف جملة وتفصيلا للتلاقح الحضاري ويعتبره أقدم من الإسلام وأن المتصوفة انتحلوا، بعلم أو بدون علم، التصوف من الحضارات القديمة وخصوصا من الشرق الأدنى.
نظرية الكسب
إن انتقاد الجابري للعقل العرفاني ولنظام العرفان كنظام معرفي وكنظرية لم يكن بناء على عداء أيديولوجي كما يظن البعض، فالجابري هو أولا وأخيرا ابن بيئته، مسلم مغربي سني يعتبر التصوف مكونا راسخا ضمن مكونات شخصيته تلقى تعليما دينيا تقليديا مبنيا على البيان والعرفان قبل أن يتعلم الفلسفة والفكر الحديث، ولهذا يحتاج القارئ للجابري أن يكون واعيا بمنظومة العرفان الصوفية المشتغلة في العقل الصوفي وغير المقتصرة عليه، إن العرفان هو نظام معرفي يقوم على تكريس النظرة السحرية للعالم أولاً وأخيراً، إنه يعود بنا إلى التقسيم القديم الذي وضعه جيمس فريزر العصر السحري والعصر الديني والعصر العلمي ويعتبر العرفان عودة إلى العصر السحري، وهو تكريس للبنية الثقافية القديمة، التي يشكل فيها الفكر السحري أساسا للتعامل مع العالم، وهنا يتساءل الجابري: هل يمكن تحقيق نهضة عربية بالسحر؟، إن العرفاني يهرب باستمرار الى عالم الميثولوجيا المفلسفة والكشف العرفاني، اللذان ليسا شيئاً فوق العقل كما يدعي العرفانيون بل هو أدنى درجات الفعالية العقلية، إنه من مخرجات الخيال الطوبوي البسيط، وليس فتحا ربانيا أو ميتافيزيقي، فكل شيء كامن في العقل، والعقل مراتب ودرجات.
يعود بنا الجابري من أجل تفكيك العقل العرفاني وإظهار خطورته إلى طريقة الكسب، أي الكيفية التي يمكن أن يتحصل بها الإنسان على العلم والمعرفة، وهنا تكمن خطورة العقل العرفاني الذي يعزو التحصيل إلى الكشف والفتح الرباني وليس إلى السعي والكد، فالصوفية والغنوصيون عموما يقسمون الانسان إلى ثلاث مراتب أساسية هي من الأدنى إلى الأعلى: الماديون أو الجسمانيون وهم عموم الناس ممن ارتبطوا بالجسم والمادة واعتبروها وسيلة للكسب والسعي، وهؤلاء علمهم مهما بلغ محدود وقاصر، النفسانيون وهم السائرون على طريق النفس والمحاولون للارتقاء بها إلى مصاف الارتقاء عن المادة وهؤلاء سائرون على الدرب مجاهدون للنفس وصولهم مأمول غير مجزوم، الروحانيون وهم من بلغ أعلى درجات الارتقاء الروحي ومن بلغوا درجة الاتصال بالروح الأولى، والذين يفتح لهم الكشف والوصل بمعرفة الأسباب وعلمهم تام مكتمل، وهنا نلاحظ التقسيم الطبقي المبني على أسس بعيدة عن منطق الاجتهاد والسعي للتحصيل، فإذا كان علم الاجتماع قد حدد العلاقة الصحية بين المكانة والمجهود وقرر أن مكانة وقيمة الفرد يجب أن تتناسب مع المجهود المادي الذي يقوم به من تحصيل علمي وعملي فإن العرفاني يرى أن المكانة متأتية من الإرث المنسوب لقوى غيبية يمكن الوصول إليها غالبا من خلال سلوك طريقة محددة.
نجد في النسخة الإسلامية نماذج لهذا التقسيم في التراث الصوفي والشيعي، حيث أن الصوفي يرى أن العارف بالله أو شيخ الطريقة أو القطب أو الغوث قد حاز من المعرفة الربانية التي فتح الله به عليها التي لا يمكن أن يحوزها مجتهد مهما فعل خارج المنطق العرفاني، كما أن الشيعي يرى أن الإمام وحده من يحوز المعرفة والقدرة على الإمامة من خلال الإرث النبوي العلوي، وهو ما لا يمكن أن يصل إليه غيره بالجد والاجتهاد، وفي هذا طبقية مقيتة تجعل الإنسان مراتب ودرجات بعضها فوق بعض لا يمكن الانعتاق من طبقة أدنى نحو طبقة أعلى إلا بطرق خرافية غير عقلية.
إن خطورة هذا المنطق الكسبي المعتمد على الكشف بدل الجد تكمن في تسربها إلى نماذج عملية في الفكر العربي، ولهذا هاجم الجابري نماذج من الفكر العربي وانتقدها رغم مكانتها المرموقة في المخيال العربي، حيث هاجم نموذج ابن عربي بل ونموذج ابن سينا كذلك، واعتبر النموذجين مسؤولين عن الانتكاسة العربية وعن تكريس الخرافة والعقل المستقيل، وهما النموذجان اللذان تسربا إلى العقلية العربية عبر التاريخ وتحكما فيها لنصبح أمام ما يمكن تسميته بالعقل الجمعي المستقيل، عقل يميل إلى الخرافة ويركن إلى الكسل وينأى عن الاجتهاد لتحصيل المعرفة، وحتى وإن حصلها فأنه لا يؤجرئها إلى مكاسب دنيوية تنعكس على نواحي الحياة العملية، إنه ينتقد هنا العقل العلمي الذي لا يحول معارفه إن توفرت إلى أفعال قادرة على الدفع بالحياة العملية للمجتمع العربي إلى الأمام.
إن نظرية الكسب هذه تنعس في عالمنا العربي على المجال الفكري والسياسي أيضا، حيث أن الطبقية فيهما ما تزال منتشرة بناء على ذلك المنطق العرفاني، فالحاكم مقدس ظل الله على الأرض وخليفته ولا يمكن انتقاده ولا زحزحته باعتبار ذلك المنطق، فالشرعية والمشروعية يحوزها بالقوة وبالضرورة وليس بالفعل، كما أن المتشبع بالفكر العرفاني لا يمكنه المقاومة لأنه يستقيل من اليومي المعاش ويتعلق بأهداب الوصل الإلهي، إنه يعيش في عالم مواز قدم فيه العقل استقالته لصالح منطق العرفان والسعي نحو الاندماج والوحدة بماهية متعالية غير فاعلة في الأرض، ولا ضير إذن من استمرار طاغية في الحكم فهو مجرد ظل وليس حقيقة، ولهذا نرى الاندماج الغريب بين الأنظمة الحاكمة وبين الصوفية لما في ذلك من خدمة مباشرة للأجندة السياسية، أما في الفكر فالتشبث بالباطن على حساب الظاهر يجعل طريقة الوصول للمعرفة طريقة غير منضبطة لآليات عقلية جماعية بقدر ما هي تجربة روحية فردية، وبالتالي لا يمكن صياغة مشروع فكري بآليات محددة وواضحة.
إننا هنا نخلص إلى استنتاج مفاده أن العرفان هو تهريب للواقع، تفريغ للإنسان من المشروع الدنيوي الفاعل نحو إنسان بعقل مستقيل عن عالمه، ولهذا دعا الجابري إلى ضرورة التخلص من هذا العقل العرفاني ومعه العقل البياني الذي تحالف معه وتبني العقل البرهاني التجريبي الفاعل في الحياة الواقعية اليومية للمواطن وللإنسان.
ردود على الجابري
لا شك أن مشروع الجابري الفذ قد قدم الكثير من المحددات الرئيسية للإجابة عن سؤال النهضة من خلال نقد التراث والعقل العربي، ولهذا يظل للمشروع راهنيته المشروطة بفهمه الجيد وأيضا بنقده الجيد، ومساهمة في هذا النقد سأقدم خطوطا عريضة لنقد بعض مكونات هذا المشروع وخاصة في الجانب الذي تطرقنا إليه والمتصل بالعقل العرفاني.
مفهوم التراث: إن من أهم ما يمكن أن ينتقد فيه الجابري هو اعتماده على أن التراث المؤثر، الذي يعيش فينا ونعيش فيه، هو التراث المدون، ومعلوم أن هناك تراثا شفهيا كبيرا تتميز به الحضارة العربية، بل إن الحضارة العربية هي بالأساس ثقافة مشافهة وليست ثقافة كتابة وتدوين، كما أن الدراسات الحديثة أظهرت ما للتراث الشفهي والتراث الهامشي من دور في تكوين الفكر والعقل الإنساني، وهذا ما نحتاج فيه إلى العودة لإعادة تشكيل مشروع الجابري وتطويره.
موقع القرآن: إن وضع القرآن من طرف الجابري كنص فوق التراث يجعل الالتباس قائما في تحليل العقل العربي بمنأى عن هذا النص المؤسس، فالقرآن لا يقرأ كنص بل كحمولات تاريخية للفهم، صحيح أن الجابري حاول الخوض في هذا المبحث لكنه كما اعترف هو بنفسه كانت تنقصه الآليات، فهو ليس فقيها كما قال، وبعض الجرأة كذلك، لأن القرآن يشكل قطب الرحى في فهم العقل العربي وفي أي مشروع محتمل، ولا يمكن تحييد هذا النص عن الصراع القائم.
دور التصوف: صحيح أن الجابري رفض التصوف جملة وقبل بعض تفاصيله، رسالة القشيري مثلا، لكن لا يمكن أن ننقض التراث الصوفي الذي كان فاعلا بإيجابية في كثير من مراحل الحضارة العربية، ومادام الجابري قبل التعامل بانتقاء مع التراث فلماذا رفض هذا الانتقاء في تعامله مع التصوف ولم يركز في الخطة العلاجية على الإشراقات المضيئة في الفكر الصوفي الذي لا يمكن أن نحصره في العرفان وإن كان مكونا أصيلا وراسخا فيه.
الشرق والغرب: من الأشياء التي يمكن انتقاد الجابري فيها أيضا تقسيمه العقل العربي إلى عقل مشرقي ومغربي، فإذا كان منطلق اشتغاله على التراث منطلقا انتقائيا فالنتيجة بدورها لن تكون عامة ومجردة، فالمشرق الذي وصفه بالعرفاني والمغرب الذي وصفه بالبرهاني، "مدرسة مشرقية إشراقية " و "مدرسة مغربية برهانية"، لا يمكن أن تكون نتيجة حيادية بل هي نتيجة مؤطرة داخل حكم الانتقاء الذي قرره الجابري من البداية.
في الأخير لا يمكننا إلا أن نشيد بهذا البنيان المعرفي الذي قدمه الجابري والذي يحتاج إلى الاتكاء عليه لتطوير مشروع مكتمل لنموذج محلي منفتح على الماضي والحاضر قارد على إخراج الأمة العربية بكافة تلاوينها من المأزق التاريخي الذي تعيشه.