نحن كذرة وسط غبار كوني هائل مثقلون بمادة الجسد والزمان والمكان وباقي القوانين الفيزيائية التي لا نعي كبشر سوى أقل من عشرة بالمئة منها، باعتبار المادة والطاقة المظلمتين، ليس لنا وزن في هذا العالم، حياتنا التي تقدر ببضع أجزاء من الثانية من الساعة الكونية ليست سوى تفاصيل صغيرة ضمن منظومة كبيرة بالكاد تحس بنا، بقاؤنا أو اختفاؤنا كبشر وككوكب بل كمجرة قد لا يكون سوى تفصيل صغير لا يؤثر على السير العادي للمنظومات الكونية الهائلة.
لماذا نحن موجودون إذن؟!
هذا السؤال الذي تكرر منذ وعي الإنسان بنفسه وحاولت الديانات والفلسفات والعلوم الإجابة عنه ليس مهما في نظري، وسبب عدم أهميته إلى استحالة الإجابة عنه، أو لنقل استحالة إيجاد جواب واحد موحد له، بل إن السؤال الوجودي التقليدي المرتكز على الثلاثي من أين جئنا ووكيف نعيش وإلى أين المصير يظل سؤالا يبعث على الاختلافات التي عمقت الفرقة البشرية وضاعفت بواعث الاختلاف، لكن هناك سؤال أهم منه بكثير وهو الأهم طرحا وبحثا، وهو سؤال كيف نوجد/نعيش؟
إن واقع الحال يقول أن هذا السؤال لم يحظ بأهمية لدى البشر، إذ أن هذا السؤال لا يطرح إلا كتابع للسؤال الوجودي، كيف نعيش أو بالأحرى كيف أعيش انطلاقا من مقدمة من أبين جئت وحتمية إلى أين المصير، وبالتالي العيش وفق نظام محدد وتابع للسؤال الوجودي الأكبر، بينما طرحي هنا أن يكون سؤالا مستقلا بذاته، وبالتالي أن تكون الإجابة منفصلة عن سؤال الوجود والماهية، كيف نعيش بصيغة الجمع بغض النظر عن من أين جئنا وإلى أين المصير، إن عدم الانفصال بين السؤال كيف والسؤالين من أين وإلى أين هو الذي خلق لنا إنسانا، في الغالب المطلق، ذئبا للإنسان، إنسانا لا يرى بعين جمعية، أننا في الحقيقة واحد بصيغة المتعدد، وإنما يرى بعين أنانية تريد لذاتها وما ارتبط بهذه الذات أن تكون الأفضل، إننا كجسد واحد يريد ليده اليسرى أن تكون أقوى وأفضل من يده اليمنى، وإن استدعى الأمر بترها!
كيف نعيش/نوجد؟ كسؤال يجب أن يعوض سؤالين استنزفا الفكر البشري، سؤالا المصدر والمصير، بل إن السؤالين وجها إجاباتنا على السؤال الأهم، كيف نعيش يجب أن يطرح هكذا بصيغة الجمع، ومتى تم الوعي أننا واحد بصيغة المتعدد، اتجهنا نحو الإجابة الصحية.
لقد حاول سقراط أن يعبر فلسفيا وتطبيقيا أن العيش يتلخص في محاولة إصلاح الجماعة مع الالتزام بقانونها وإن كان ظالما، أي أن تكون مواطنا صالحا، وقد دفع حياته من أجل ذلك، بينما رأى ديوجين مثلا أن العيش هو التنازل عن الملذات الجسدية والاكتفاء بالطبيعة العذراء دون سعي إلى قوانين الجماعة في محاولة منه إلى التعبير عن رفضه للقانون ليس احتجاجا على ماهيته بل الدعوة إلى عدم الاحتياج إليه، من جهة أخرى رأى شوبنهاور أن العيش هو العزلة وعدم الاختلاط بالجماعة وملذتها باعتبارها ملذات زائفة، أما سارتر فيعتبر العيش تعبير عن موقف نضالي يجب أن يتخذه الإنسان ليلعب دورا إيجابيا داخل الجماعة، ويشاركه في رأيه هذا ألان باديو حيث يعبر بطريقته عن معنى السعادة بقوله أن السعادة قائمة في جوهرها على عدم الرضا وعدم القناعة بنظام العالم كما هو، وهكذا تعددت الرؤى الفلسفية بين من يرى أن نعيش بشكل منعزل منفرد بعيدا عن قوانين الجماعة وأحكامها وبين من يرى أن العيش هو العيش مع الجماعة سواء بالاندماج معها أو بمقاومتها، ولا يختلف رأي الأيديولوجيات كثيرا عن الرأي الفلسفي وإن اختلفت المؤسسات طرق التعبير، لكن كل هذه الرؤى أسست لنوع من التمحور حول الذات الفردية أو الجماعية أحيانا للنظر في سؤال كيف نعيش، لكن ماذا لو وسعت النظرة وذهبنا أبعد من ذواتنا الفردية والجماعية وفكرنا في شركائنا على الكوكب وربما في الكون مستقبلا؟
يعيش كوكب الأرض تاريخا من الانقراضات الكبرى كانت تتم على مراحل زمنية متباعدة، لكن منذ ظهور الإنسان زاد معدل انقراض الأنواع منذ العصر الزراعي الذي جعل الإنسان يحرق الغابات لتوسيع أرضه وبالتالي القضاء على أنواع نباتية وحيوانية متعددة وصولا إلى العصر الصناعي والتكنولوجي والذي جعل الإنسان يفتك بالأرض ومن عليها في محاولة لتعيش أقلية إنسانية ترفا على حساب شركائها من البشر وغير البشر، وبالتالي فسؤال كيف نعيش/نوجد؟ لا يجب أن يتضمن فقط الجنس البشري، بل باقي شركائه من كائنات حية وجمادات على الأرض وربما قريبا خارج الأرض.
كيف نعيش؟ هو سؤال كيف نكون جميعا، كيف نحيا اللحظات الكونية القصيرة دون المساس بالذوات الأخرى والمكونات الإيكولوجية التي في وجودها وجودنا جميعا، كيف نفكر في الآخر والأشياء الأخرى وفي تحويل العنف الكامن في ذواتنا، كيف نحارب الرغبة المريضة التي تدعونا إلى التفوق بغض النظر عن طريقة ذلك، كيف نؤمن أن الآخر هو في الحقيقة أنا في كيان آخر، كيف نحارب عدم قبولنا لكوننا والآخرين سواء...
إن طرح السؤال بصيغة الجمع: كيف نعيش/نكون يقتضي أولا تعرية موروثنا الإنساني المشترك والذي سادت فيه نظرة طبقية عنصرية مريضة تجاه الآخر، إننا كبشر نتساوى في هذه النظرة، ويجب علينا أن نعترف بذلك لنتجاوزها، ونحول النظرة من التمحور حول الأنا إلى رؤية آلام العالم، إلى استحضار الإنسان والأرض في جميع إمكانات عيشنا الفردي، ليتحول إلى عيش جماعي، نحو توجيه جديد لفهمنا لمفهوم العيش.
أخيرا أنا حينما أرفع شعار التخلي عن سؤالي المصدر والصير، لا أدعو الإنسان بالضرورة إلى التخلي عن إيمانه ومعتقده، الديني أو غير الديني، وإنما إلى توجيهه والتفكير فيه، وإعادة صياغته ليكون تبعا لسؤال العيش وليس ليظل سؤال العيش تبعا له، إذ أن الديانات والإيديولوجيات هي في الأول والأخير جاءت لتنظم العيش الجماعي على الأرض، فعيش جيد على الأرض لنا جميعا هو الهدف الأسمى، ومتى تألمت نفس واحدة انعكست آلامها على الوجود الجماعي ككل.