ربع قرن يفصلنا عن الطفرة النوعية والقفزة العقارية والاقتصادية الهائلة حيث لا يزال المجتمع يعيش على خيراتها حتى أيامنا هذه. وها هو الزمن يعيد دورته ، فالطفرة عادت ولكنها هذه المرة أتت على شكل تشريعات عقارية في مدة لا تتجاوز 5 سنوات!
هي لا شيء في عمر الأمم، ولكنها مع ذلك كانت كافيةً وزيادة لتحدث الطفرة العقارية في المملكة العربية السعودية والتي احتوت من التنظيمات العقارية ما جعل بلادنا محط أنظار التطلعات الاستثمارية ، لكن الأمر لم يخرج مع الأسف عن إطار التطلعات دون أي خطوات فاعلة في هذا المجال.
والمحك الأساسي يبرز عندما نتساءل كمهتمين بالشأن القانوني: أليس من الأولى تأسيس قاعدة للنظام القضائي تكون جاذبة للاستثمارات؟
الخطوة الأولى التي لا بد منها هي تقنين أحكام المعاملات (والتي يُشكّل العقار ركناً أساسياً منها) بدل أن تكون مبعثرة في كتب الفقهاء ، لا سيما والفقه بحر زاخر بالنظريات المحكّمة مما يجعله مصدراً غنياً لتشريع متكامل.
ألا يسهم ذلك في ضبط تعدد الأحكام القضائية في المسألة الواحدة (وهذا إن شكّل ميزةً في الفتوى إلا أنه ثغرة في القضاء يجب أن تسد).
كيف دونّا أحكام عدد من الأنظمة الإجرائية في حين بقي الفقه على نوازله عهد البهوتي وابن مفلح !؟!
إنّ الرهبة من هذه الخطوة لتزول عندما نعرف أن التقنين معمول به جزئياً بالتعميم الصادر منذ أكثر من 50 سنة والقاضي باعتماد كتابي ( كشّاف القناع وشرح منتهى الإرادات ) في الأقضية الشرعية، وهو بالإضافة إلى هذا وذاك فيه من المصالح الشيء الكثير:
1.فالتقنين سيؤدي إلى نهضة فقهية تعود بنا بإذن الله إلى عصور الاجتهاد الذهبية عندما يبدأ النقاش حول مواد معينه في القانون من قِبَلِ الفقهاء والمختصين.
2.القول بأن تدوين الفقه والإلزام به سيؤدي إلى الجمود، إنما يتوجّه في حق من يدوّن ثم تتوقف ملكاته عن التطوير والزيادة، وهذا غير سائغ في حق بلادنا التي تحوي أكبر عدد من الفقهاء في العالم الإسلامي بالنسبة لعدد السكان!
3.تحتل المملكة المرتبة الثانية عالمياً بعد ماليزيا في إبداع الحلول المصرفية الشرعية، وهو ما دفع البنوك العالمية إلى انتهاج إبداعات عقولنا الفقهية كما هو مشاهد في ساحة المصرفية الإسلامية، أليست هذه العقول قادرة على إبداع التقنين ومتابعة الإضافة عليه !!
4.الزعم بتقييد التقنين للقضاة وتكبيل أيديهم عن إنزال حكم الله في المسألة، هو في حقيقته قولٌ غير سائغ، ذلك أن الفقه في تعدد أقواله والنص في تعدد مرواياته، مشابهٌ تماماً للحد الأعلى والأدنى الذي يتيحه التقنين، فحيثيات القضية وملابساتها هي ما يفرض على القاضي الاختيار بين أقرب نظائر المادة القانونية إلى القضية ، وأي عدلٍ أعظم من ذلك.
إن سوقاً استثمارية يتداول فيها ما يقارب التيرليون ريال لتمثل بحق طفرة اقتصادية تحتاج منا لجرأة قضائية والتقنين هو بداية النهضة .. تلك التي بدأها المنصور بن أبي عامر في دولته ( العامرية ) بالأندلس قبل أكثر من 1000 سنة عندما ناقش قاضي الجماعة عن أمر التقنين من خلال تنظيم مدونة تجمع الفقه وتلزم به ، والقاضي يدافعه ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، بدون حجة مقنعة ولا دليل بيّن!