هو السؤال الأكثر مرارة وخيبة، ليس لأنه يحمل في معناه العام المفترض تلمّس الحلولً للمشكلات، بل لأنه أصبح موضة اليوم وكل يوم، والوصفة المفضّلة لغسل الضمائر من أدران الشعور بالعجز..
ونحن في لجّة أحداث الانتفاضة الباسلة، نرقب من بعيد مجريات الأحداث، نحزن، ونتحسّر، نمتلئ غيظاً وقهراً لكننا نحتسي القهوة، ونتفرّج على المحطّات التلفزيونية العربية الأخرى بما فيها من تسلية وإثارة.. وخلافه.. بعدها نتناول الطعام، نلعب مع أطفالنا، وننام مع زوجاتنا..
وحتى لا تقتلنا ضمائرنا، نجلس في منتدى، أو في مقهى، ونتساءل بحماسة منقطعة النظير: ماذا نفعل..؟
صباح مساء، يخرجون علينا بإعلامهم المتطور والمذهل، لا يكفّون التحدث عن فضائل "صاحبة الجلالة" الديموقراطية، وعن خيراتها، وما تحققه من خلال استقلالية المؤسسات والاتحادات والنقابات من حرية للأمم في اتخّاذ قراراتها الوطنية المناسبة في المكان والزمان، وما تنعمه على الشعوب من تقدم وحضارة لا تجارى..
ونحن نوافق على ذلك كله..
منذ وقت قريب ما نزال نذكره جميعاً قام سائقوا الشاحنات وعمّال النقل في فرنسا بإضراب دعت إليه نقاباتهم "المستقلّة عن سلطة الدولة" بسبب رغبة الحكومة في رفع سعر الوقود، وبتوجيه من نقاباتهم، أضربوا عن العمل وسدّوا بشاحناتهم العملاقة الطرق والدروب المؤدية إلى مراكز توزيع الوقود، وعقد الشوارع الرئيسة في كافّة المدن والقرى الفرنسية، وشّلوا أو كادوا حركة الدولة واقتصادها، وأوشكت تبدو باريس مدينة للأشباح.. وأمام ذلك لم تستطع الحكومة معهم إلا التفاوض، والاتفاق على حلول مرضية، دون تدخل دولة أخرى في شؤونهم الداخلية.. ودون إشارة إلى مسؤولية للدولة في التحريض على ذلك..
هي ديموقراطية إذن.! أليس هذا رائعا.؟ بلى والله..
وما تقدم مجرد مثال من عشرات الأمثلة التي نراها ونسمع بها كل يوم تقريباً.. ونقول.. هنيئاً عليهم ديموقراطيتهم. ونجلس متحسّرين على حالنا، نحلم مثلما يحلم خلق الله..
وانسحاباً على هذا التمنّي، فقد رأيت في المنام "خير إن شاء الله".. أن اتحادات العمال في بعض بلادنا البعيدة عن خطوط التماس أوعزت إلى أعضائها من العاملين في دنيا البترول من حقول وآبار، وتسويق وجرّ وترحيل للإعلان عن يوم إضراب واحد عن العمل، ووقف الإنتاج..
كما أن نقابات عمال النقل الجوي والبحري في دولنا العربية، أعلنت بأن عمّالها أوقفوا تقديم الخدمات لطائرات وسفن الدول التي تدعم العدوان المعلن على الشعب العربي الفلسطيني الأعزل..
ورأيت "لا أراكم الله مكروه" أن المعنيين بتسويق واستيراد السجاير والتبوغ الأجنبية، النظامية والمهربة، أعلنوا وقف تعاملهم مع هذه الأصناف، واستبدالها بالمنتجات الوطنية.. وكذلك فعل مستوردوا المشروبات الروحية الفاخرة، وزجاجاتها المربّعة والمدوّرة.. والمأكولات المعلّبة التي تحمل أسماء غريبة عجيبة، فقد قرروا دون ضغط من حكوماتهم، وخارج مسؤوليات دولهم، الاستغناء عن ذلك الترف، والعودة دون إكراه إلى المجّدرة والرز بفول، وإلى بيرة الشرق وعرق أبو سعدة..
ورأيت فيما يرى النائم، أن بعض أصحاب رؤوس الأموال العرب المكدّسة أموالهم في البنوك الأجنبية هددوا بسحبها.. وأن الجمعيات الزراعية قررت الاستغناء عن استيراد المبيدات الحشرية المغشوشة المستوردة من بلاد العم سام، والتي ثبت بعد التجربة إنها لا تقتل الحشرات فقط، بل تقضي على المحصول، وعلى أصحاب المحصول وعلى قدرتهم على الإخصاب..
وأن تستغني أيضاً عن استيراد البذور المهجّنة التي تطرح كوسا بطعم الفجل، وبطيخ بطعم الخيار..
وسمعت أن أصحاب مصانع الألبسة، والجرابات والخيوط الوطنية ضاعفوا إنتاج مصانعهم لتغطية حاجة الأسواق المحلية، بعد أن استغنى المواطنون عن المستوردات..
رأيت جمعيات أيام زمان، جمعية معونة الشتاء، ومشروع الفرنك، وغيرهم، وغيرهم… يعودون إلى الحياة بنبض جديد، وصافحتني أجواء بلادي خالية من رايات الغزاة، ومكاتبهم، وسفاراتهم، وحرسهم، وشاراتهم.. ورأيت مشروعاً وطنياً شاملاً لجمع التبرعات..
رأيت أطفالاً يحملون لافتات على صدورهم، واحدة تقول.."أنا فلسطيني من يافا، أريد العودة إلى وطني" وعشرات مثله كل يحمل لافتة باسم مدينته وقريته في فلسطين، ويبرزونها أمام وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وأمام سفارات الدول الأجنبية، ومراكز المنظّمات الدولية..
رأيت آلاف البرقيات موقّعة من أكثرية الشعب الفلسطيني تشدّد على مطلب العودة، ترفع أيضاً إلى المحافل الدولية..
رأيت مراكز المعلومات الأجنبية وصالاتها ومكتباتها التي تسرق تراثنا وتاريخنا وحضارتنا تحت سمعنا وبصرنا، تحمل عصيّها وترحل..
رأيت ذلك كله، فتحسست أطرافي.. أيقنت أنني ما زلت أحمل الإرث، قلت: هو الشعب.. نقاباته ومؤسساته وجمعياته بعيداً عن توجيهات الدولة، وبعيداً عن تحميلها أية مسؤولية أو مساءلة، وتحقيقاً لديموقراطية "نفخونا" بالحديث عن فضائلها..
وحتى لا يحرمني الصباح من لذّة الحلم المباح، تمنيت أن لا أستيقظ أبداً..