مقدمة:
كتب باكثير هذه المسرحية عام 1938م(1 ) وقد كانت في مصر - آنذاك- دعوتان تقفان على طرفي نقيض، الأولى ترى أن المصريين إنما هم من نسل الفراعنة ولذلك يجب أن يهتموا بتاريخهم الفرعوني ويقطعوا كل صلة لهم بالعروبة والإسلام. والثانية ترى أن المصريين وقد أعزهم الله بالإسلام أصبحوا عرباً فيجب على المصريين قطع كل صلة لهم بالفراعنة. فوقف باكثير موقفاً وسطاٌ بين الدعوتين، ورأى أنه لا مانع أن يأخذ المصريون من تاريخهم الفرعوني الجوانب المضيئة دون التفريط في عروبتهم وإسلامهم(2 ). فكتب هذه المسرحية عن إخناتون الذي يعتبر نقطة مضيئة في التاريخ الفرعوني إذ أنه الفرعون الوحيد الذي دعا الى وحدانية الله، وثار على تعدد الآلهة عند قدماء المصريين. وقد قدم باكثير للمسرحية بالآية الكريمة: "ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك" ( النساء: 164) مشيراً بذلك الى أنه من المحتمل أن يكون إخناتون من الرسل الذين لم يقص الله علينا قصصهم.
تقع المسرحية في خمسة مناظر، عبارة عن مقدمة وأربعة فصول. وقد جعل المؤلف لكل من المقدمة والفصول الأربعة عناوين كالتالي: المؤامرة، البعث، الإيمان، في مدينة الأفق، الإحتضار. زمان المسرحية القرن الرابع عشر قبل الميلاد، ومكانها مدينتي طيبة وأخيتاتون.
شخصيات المسرحية:

إخناتون: وهي أعظم شخصيات المسرحية وأهمها، حيث تظهر في كل الفصول وتلعب الدور الأول حتى ختام المسرحية. وتتصف شخصية إخناتون -من خلال المسرحية- بالصفات التالية: الشاعرية، قوة الإيمان، الفصاحة والمنطق وقوة الحجة، رقة الشعور وشبوب العاطفة، الحلم، الشجاعة.
الملكة تي: أم إخناتون والشخصية الثانية من حيث القوة والحضور، وتتصف بالصفات التالية: بعد المطامح وحبها للنفوذ، سعة الحيلة، الغيرة على زوجها وابنها، إيمانها.
نفرتيتي: زوجة إخناتون وحبيبته، وأهم صفاتها: الجمال، الدلال العذب، روح الدعابة، الذكاء، الإعتداد بالنفس، الغيرة، حب السيطرة والنفوذ.
شخصيات رئيسية أخرى: أمنوفيس الثالث- والد إخناتون، القائد حور محب، تاي - مربية إخناتون.


الصراع في المسرحية:

يدور الصراع في المسرحية بين رغبة إخناتون في نشر دعوته الجديدة بين الناس سلماً لأن دعوته إنما تقوم على الحب والسلام، وبين رغبته في استخدام السيف ضد الكهنة الذين وقفوا له بالمرصاد وقاوموه بالعنف وألبوا الناس ضده.
وهكذا فالصراع في المسرحية إنما هو في حقيقته دفاع بالحجة والدليل العملي عن مبدأ الجهاد في الإسلام، ورد على الذين يقولون أنه مادام الإسلام يقوم على مبدأ" لا إكراه في الدين" فكيف يأمر بالقتال لنشر الدين؟ فإخناتون -في البداية- رفض استخدام العنف ضد مناوئيه من الكهنة الذين قاوموا دعوته الجديدة وحرضوا الناس ضده. وكذلك فعل أعداؤه بالشام إذ طردوا الرسل الذين أرسلهم للتبشير بالدين الجديد وهدموا المعابد التي أقاموها. وقد حاول كبير قواده (حور محب) أن يقنعه أن إستعمال السيف ضروري لنشر الدين، لأن الكهنة يقفون حائلاً بين الناس وبين قبول الدين الجديد. ولكن إخناتون لم يقتنع بكلام كبير القواد قائلاً له إن الحرب لا تتفق مع دعوة الحب والسلام التي أمره الرب بها(3 ).
وقد أدت سياسة إخناتون السلمية الى أن تجرأ عليه الكهنة، حتى أن عميد كهنة أمون أساء أدبه في حضرة إخناتون ووجه اليه كلاماً جافاً فيه تهديد ووعيد لدرجة جعلت كبير القواد يفقد صوابه ويهجم عليه بالسيف لولا أن إخناتون حال بينهما( 4). وحرض الكهنة الناس على خلع طاعة إخناتون وعدم دفع الخراج واستمالوا قواد الجيش اليهم، حتى ساءت حالة الدولة وجفت خزائنها وتفرق أتباع إخناتون عنه، واستولى الحيثيون على ولاياته في الشام.
وأخيراً، حين أصبح إخناتون على فراش الموت، تبين له خطؤه وأنه يجب استخدام سيف العدل لتحطيم سيف الظلم. وقد برر المؤلف ضرورة استخدام السيف بقوله على لسان إخناتون مخاطباً ربه: "إن رحمتك العظمى رحمة الجراح الذي يبتر العضو كي ينقذ الجسم من قرحة ساعية. حكمة غابت عني فانهار لها صرح أعمالي"(5)


الحوار:

صاغ المؤلف حوار المسرحية بالشعر المرسل -كما أسماه في المقدمة- أو الشعر الحر كما يعرف اليوم. وبذلك تعد هذه المسرحية أول مسرحية عربية تؤلف بالشعر الحر بل أول تجربة شعرية فيه، وقد أشار المؤلف الى ذلك في مقدمته للطبعة الثانية التي صدرت عام 1967م. وذكر الكاتب إبراهيم عبدالقادر المازني في تقدمته للمسرحية أن باكثير قد وفق في اختياره لهذا النمط من الشعر لأنه يصلح للشعر التمثيلي، حيث "يسهل وروده على الأذن ويطرد فيه الكلام اطراد النثر"(6 )
يتميز الحوار بالسهولة والسلاسة والتحدر، ولا يظهر عليه أي تكلف، بل إن القارئ قد لا يدرك أن هذا شعر موزون (كما عبر المازني في المقدمة). وقد استطاع الحوار أن يكشف عن صفات كل شخصية وأن يجعل الأحداث تنمو وتتطور.
ومن الأمثلة على تصوير الحوار لصفات إخناتون، نورد جزءً من حواره مع كبير القواد حور محب، حيث يبدو فيه إخناتون فصيحاً قوي الحجة وذلك حين حاول حور محب إقناعه باستخدام السيف:
"حور محب: مولاي لعل الرب اصطفى فرعونَ
رسولاً له أن كان أخا سلطان
يمكنه أن ينشر في الأرض دينه
إخناتون: ما فتئت تغني بلحنك يا حور محب!
بل كان اصطفاني رسولاً له
ليرى الناس بينهمو فرعوناً أخا سلطان
يعف عن الحرب والبغي والعدوان
ويدعو الى السلم والحب والإحسان"( 7)
ويظهر تأثر المؤلف بالأسلوب القرآني في حواره، من ذلك قوله على لسان إخناتون مخاطباً الكهنة:
" ما أمون ورع وفتاح وتلك الآلهة الأخرى
إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم
ما أنزل ربي بها من سلطان
تبغون بها عرض الدنيا ومتاع الغرور" (8 )
والمسرحية مليئة بالتسابيح والإبتهالات الجميلة. وكنموذج اخترت مقطعاً من صلاة إخناتون في بداية الفصل الثاني من المسرحية:
"كيف أثني عليك إلهي؟ بأي لسان؟
يامن خلق الألوان أفانين شتى
وأرسلها تسري في هذا الكون العجيب !
في السماء وزرقتها، في البحر المحيط
في النجوم ولألائها، في انبثاق الفلق
في سواد الليل البهيم وسود الحدَق
في عناقيد العنب السود، في الشعر الحالك الغربيب
في بياض الطلع النضيد وطل الصباح الغريض
في إشراق الدر در البحور ودر الثغور
في اخضرار غصون الروض النضير
وعشب المرج المطير
في المرجان الزاهي، في اللمى القاني، في العقيق
في ريش الطيور الجميلة، في ألوان الفراش البديع
في أصابيغ الأزهار وأطياف قوس قزح.
رب ما أندى كفيك وما أسخاك بهذا الجمال،
ما ألطف صنعك ربي وأبدع فنك !
هذا الزهر مختلف الألوان ويسقى من ماء واحد
أسدىً يا رب خلقت الفراش الجميل ؟
أسدىً يا رب خلقت الزهر البديع ؟
أسدىً يا رب خلقت الأسماك الذهبية ؟
أسدىً يا رب خلقت النجوم تلألأ في ظلمات الليل ؟"(9 )


المغزى الإسلامي في المسرحية:

ذكرنا فيما سبق أن الصراع في المسرحية يدور حول فكرة الجهاد في الإسلام. وفي المسرحية إشارة الى السيد المسيح - عليه السلام- والرسول - صلى الله عليه وسلم -وذلك في الحلم الذي رآه إخناتون وقصه على زوجه -نفرتيتي- وهو أنه رأى رجلين أحدهما: "جميل الوجه شديد الأدمة، تقطر جمته كالخارج من ديماس، يحمل في يمناه الفجر وهذي مصر تضئ بنوره"( 10) وهذا هو وصف عيسى بن مريم -عليه السلام - كما ورد في حديث الإسراء والمعراج( 11). والرجل الآخر: "بهي الطلعة أبيض مسقى بالحمرة أدعج في عينيه بريق، واسع المنكبين قوي الذراعين، يحمل في يمناه الشمس وهذي مصر تموج بأنوارها وتفيض رويداً رويداً على الكون من أقصاه الى أقصاه."(12 ) وهذه صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما وصفه الإمام علي كرم الله وجهه(13 ).
وقد كان المؤلف دقيقاً حين وصف عيسى بن مريم -عليه السلام- بأنه "يحمل في يمناه الفجر" بينما الرسول -صلى الله عليه وسلم- "يحمل في يمناه الشمس"، ذلك أن الفجر إنما هو ناتج عن ضوء الشمس يأتي قبلها ليهيئ الناس لاستقبالها، وكذلك النصرانية ماهي الا شعاع من نور الإسلام جاءت قبله لتهيئ الناس لاستقباله. كذلك عندما تحدث الكاتب عن نور الفجر ذكر أن "مصر تضئ بنوره" فقط، لكنه عندما ذكر أنوار الشمس ذكر أن "مصر تموج بأنوارها وتفيض رويداً رويداً على الكون من أقصاه الى أقصاه" وفي ذلك إشارة الى الدور الحضاري لمصر في ظل الإسلام والذي لم يكن لها في ظل النصرانية.
وحين اقتنع إخناتون في نهاية المسرحية بضرورة استعمال السيف لنشر الدين، وأن هذا لا يتنافى مع دعوة الحب والسلام، قال إخناتون: "الآن فهمت لماذا كان أخي حامل الشمس يحمل سيفاً في يسراه"(14 ) يشير المؤلف بذلك الى حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- "بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي."(15 )
والمسرحية -في رأيي- تقصد أن استخدام السيف لنشر الدين ضرورة يجب أن يتوصل الإنسان الى إدراكها دون وحي مباشر من الله، وأرى أن إخناتون يمثل المسيحية التي تدعو الى التسامح والحب، معتقدة أنه ما دام الله قد أمر بالحب والتسامح فمعنى هذا أنه ينهى عن استخدام القوة مع الذين لا ينفع معهم التسامح والحب. وهذا خطأ في فهم الناس لا في الديانة، حتى جاء الإسلام بتعاليم واضحة ووحي مباشر من الله تعالى بضرورة الجهاد في آيات صريحة في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: " كتب عليكم القتال وهو كره لكم" (البقرة، 216) وكأن المؤلف يريد أن يقول إن المسيحية والإسلام دين واحد، ولكن سوء فهم الناس للمسيحية وتحريفهم لها جعلهم يعتقدون -خطأً- باختلافهما. وإن الإسلام بشموله وصراحة تعاليمه ووضوحها هو الدين الخاتم الشامل الناسخ لما قبله من شرائع سماوية، كالشمس التي متى أشرقت استغنى الناس عن الشموع والمصابيح.
وبهذا يكون المؤلف قد جمع في مسرحيته بين التيارات المصرية المختلفة، الفرعونية والمسيحية والإسلام، واستطاع ببراعة أدبية فائقة وحجج منطقية مقنعة أن يصهر التيارات الثلاث في بوتقة واحدة، ويجعل الفرعونية والمسيحية -المتمثلة في دعوة إخناتون السلمية- استطاع أن يجعلهما مقدمات وإرهاصات للحضارة الخالدة والرسالة الخاتمة وهي الإسلام. يؤكد ذلك دعاء إخناتون لربه قبل أن يموت:
"أي ربي ! حقق وعدك لي أن تجعل مصر
منار هداك تفيض النور على العالمين !
بلسان أفصح من هذا، وبيان
يخلد فيه كلامك في الآخرين."( 16)


هوامش

1 - علي أحمد باكثير: إخناتون ونفرتيتي، مسرحية شعرية، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، 1967م، المقدمة: ص 5
2 - علي أحمد باكثير: فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية، مكتبة مصر، القاهرة، الطبعة الثالثة، يناير 1985م ص 38
3 - المسرحية، ص 124
4 - المسرحية ، ص 134
5 - المسرحية ، ص 162
6 - المسرحية ، التقدمة، ص 8
7 - المسرحية ، ص 124-125
8 - المسرحية ، ص 130-131
9 - المسرحية ، ص 66-67
10 - المسرحية ، ص 97
11 - صحيح الجامع الصحيح، الالباني، رقم 5468
12 - المسرحية، ص 98
13 - ضعيف سنن الترمذي، الألباني، رقم 748
14 - المسرحية ، ص 162
15 - صحيح الجامع الصحيح، الألباني، رقم2831
16 - المسرحية، ص 164
شاعر وكاتب وباحث إماراتي
عبد الحكيم عبد الله عيسى الزُبيدي. حاصل على الدكتوراه في الإدارة من جامعة أبردين بالمملكة المتحدة 2006م والماجستير في اللغة العربية وآدابها من جامعة الشارقة-الإمارات 2011م. حاصل على جائزة الشيخ راشد بن حميد النعيمي للثقافة والعلوم (في الشعر)- 1995، وجائزة سلطان بن زايد لأفضل بحث عن دولة الإمارات– 2011، وجائزة الشارقة للتأليف المسرحي، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2013. له 15 مؤلَّفا، منها: اعترافات متأخرة، اليهود في مسرح علي أحمد باكثير، التناص في الشعر المعاصر في الإمارات (دراسة)، النكوص الإبداعي في أدب علي أحمد باكثير، وغيرها.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية