قرأت في عدد الاثنين الماضي من هذه الصحيفة كلمة جميلة ولاذعة حول أدباء المراحيض، للعقيد (فني) عبد الكريم عائض الشهراني، وأدباء المراحيض هي تلك الفئة التي تستعرض قدراتها الأدبية أو "قلة الأدبية" على جدران دورات المياه، وأختلف مع الأخ الكريم عبد الكريم في ما قاله بأن الأجانب المقيمين بين ظهرانينا نقلوا عنا تلك الممارسة الوسخة، ففي كل الدول الغربية تتفشى تلك الظاهرة التي يسمونها "الجرافيتي"، بل وهناك دار نشر معروفة تجمع ما يكتب في دورات المياه وغيرها وتصدره في سلسلة كتب شديدة الرواج ولكن شيوع تلك الظاهرة في الشرق أو الغرب لا يعني أنها "طبيعية"! وما هو غير طبيعي تماما هو ان يكتب شخص ما اسمه كاملا في مرحاض كي "يتذكره" الآخرون، وفي دورات المياه في المطارات تجد مثلا عبارات من شاكلة: حسنون يانسون المغفلي... مسافر ترانزيت عبر المنامة الى قبرص!! هب أنني تذكرتك يا حسنون، وهب أنني التقيت بك وعرفت انك صاحب العبارة المكتوبة في مرحاض في مطار المنامة! هل سيسعدك أن أقول: يا لمحاسن الصدف،... إنت حسنون بتاع الدبليو سي العطلان... لماذا لا تكتب في مجلة نيوزويك طالما إنك "كاتب مشهور"؟... ويبلغ انحطاط الذوق بالبعض أنهم يكتبون عبارات تمجد أندية كرة القدم التي يشجعونها على جدران المراحيض!! كيف يربط الإنسان بين شيء يحبه ومكان ارتبط بالقاذورات والأمراض!! الإنسان السوي يحرص على عدم استخدام أي دورة مياه عامة حتى للأغراض التي خصصت لها، فكيف يطيق إنسان حتى ولو كان نصف عاقل ان يدخل مرحاضا وهو مزود بقلم ذي رأس غليظ لتسجيل خواطره! والأدهى من كل ذلك وكما قال العقيد الشمراني هو إن أدباء المراحيض يستمدون مفرداتهم من شبكة الأنابيب التي تنقل محتويات المراحيض، ويتفننون في رص الألفاظ التي تعكس وساخة عقولهم، بل وأن بعضهم يعرض سير وأعراض الآخرين على الجدران.
عندنا في السودان يستخدم البعض جدران عربات القطارات لتسجيل أسمائهم كي تحفظها الأجيال المقبلة، ووجدت ذات مرة عبارة: سعيد العفن... منقول من سجن عطبرة إلى سجن بورتسودان.. اذكرونا فالذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان.. اذكرونا فالذكرى عمر ثان!!
تذكرت كتاب "الرسائل العصرية" الذي كان رائجا في الستينيات والسبعينيات، وكان أنصاف المتعلمين ينقلون عنه نصوص الرسائل حسب مقتضى الحال وكانت أكثر أقسامه "شعبية" تلك المتعلقة بـ "الحب" وكم من مرة ضبطت أحد معارفي ينقل نصا كاملا عن ذلك الكتاب الركيك ليخاطب حبيبته: أشتاق إليك اشتياق الصائم للمغيب والمريض للطبيب والفنادق للغريب، وقد حماني الله من ذلك الكتاب لأنني لم أجد فتاة تحبني على عهد المراهقة أو ما بعدها، كما أن الله أكرمني بعدم الهوس بتشجيع أي نوع من الرياضة فلا أتعصب لفريق، وعصمني كل ذلك عن ممارسة أدب الجدران، والهتاف بحياة هذا النادي أو ذاك وانسحب ذلك على مجال السياسة حيث لم يسبق لي الهتاف بحياة أي زعيم!