إنه الكتاب الثاني بعد "رأيت باريس" الذي يسجل فيه "أحمد شبلول" عددا من الرحلات التي مارسها، وكتب عنها وحوَّلها، ضمن خطة قصدية لممارسة الكتابة في أحد فنون النثرية العربية القديمة، ألا وهى الكتابة في أدب الرحلات. تبدو تلك القصدية من خلال المقدمة، فيكتب قائلا:
"أحيانا كنت أزور بلدا ما لأكتب عنه، بعد أن كانت الكتابة عن البلد المزار شيئًا ثانويًا".
يعد أدب الرحلات العربي من أهم الكتابات العربية القديمة، نظرا للخدمات الثقافية والفكرية وربما العلمية الجليلة التي قدمها الرحالة العرب.. إن شرقا أو غربا. فقد حللت الأفكار المبعثرة في تلك الرحلات، حول رؤية العرب في علوم الجغرافية والتاريخ والفلك والجيولوجيا وغيرها. ووجد في طياتها الكثير من المبادىء الأولى لتلك العلوم (على الأقل حسب جملة مفاهيم ومعارف تلك الفترة التي تعد بقرون مضت).

وجاء "شبلول" في كتابيه ساعيا إلى رصد بعض الظواهر الثقافية بالدرجة الأولى، إلى جانب رصد "المكان" وإشارة إلى تاريخه. ففي رأيت باريس تجلت تلك الظاهرة في زياراته إلى معهد العالم العربي، وتعرفه على بعض الظواهر الثقافية، بالإضافة إلى رصده لعدد غير قليل مما كتب عن "باريس"، بل وملامح باريس في الأعمال الأدبية.

كما جاء كتابه الجديد "من استنبول إلى قرطبة"، راصدا تلك الظواهر الثقافية، ولنقل الهم والنشاط الثقافي في هذه البلدة أو تلك.

صدر الكتاب بعد أن أتم الكاتب رحلاته خلال الفترة من 2002م حتى 2006م، وان بدت رحلات سياحية، إلا أن فيها ما ارتبط بالنشاط الثقافي، والذي انعكس بدوره في أغلب الرحلات.

فرحلة "إسبانيا" ارتبطت باحتفالية مؤسسة البابطين لتوزيع جائزة عبدالعزيز سعود البابطين بمناسبة الاحتفال بمرور ألف عام على الشاعر العربي الأندلسي "ابن زيدون".. وقد أبرز الكاتب القيمة الثقافية لتلك الاحتفالية في أوروبا على الرغم من أنها جاءت من إحدى النشاطات الأهلية ولم تصدر عن مؤسسة دولة من الدول العربية.

كما جاءت الرحلة إلى "دبي" بدعوة من ندوة الثقافة والعلوم للمشاركة في إحدى الندوات الثقافية.

ثم رحلته إلى تونس لحضور مهرجان الشعر الدولي "خيمة على بن غذاهم للشعر" بجدليان. وأيضا رحلته إلى الكويت للمشاركة في إعداد حفل الافتتاح لمكتبة البابطين المركزية للشعر العربي لصاحبها ومؤسسها الشاعر عبدالعزيز البابطين.

كما جاءت آخر تلك الرحلات إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في ندوة منهج الأدب الاسلامى في أدب الطفل التي أقامها المكتب الاقليمى لرابطة الأدب الاسلامى العالمية بالرياض.

.. من هنا نجد الربط والارتباط بين مجمل الرحلات والبعد الثقافي أو النشاط الثقافي الذي تكشف عنه تلك الرحلات. حتى فى الرحلات السياحية كان البحث عن هذا البعد جليا وواضحا سواء في رحلة تركيا أو باريس وغيرهما.

إجمالا تتسم كتابة "شبلول" في أدب الرحلات بعدد غير قليل من الملامح:
الأسلوب المباشر الانطباعي: الوصف للعديد من الأماكن التي يرصدها، تناول بعض من الجوانب التاريخية لآثر ما أو مدينة ما، استخدام ضمير المتكلم في كل الرحلات، وهو ما برر أغلب الملامح المشار إليها سلفا، ذكر الأسماء والأماكن بأسمائها حتى الشخصيات والمرافقين له في الرحلة، غلبة الروح المرحة ربما لغلبة المفارقات التي قد يتعرض لها المسافر في مثل تلك الرحلات، لم يتخل الكاتب عن اهتماماته التي قد تبدو أنها على غير علاقة مباشرة بالرحلة. مثل الاهتمام بفتح شبكة الانترنت أينما ذهب.. والحقيقة أنها من اهتماماته التي لا يستغنى عنها أينما رحل. لم يكن النت وحده محل الاهتمام، كانت المكتبات وباعة الكتب على الأرصفة. وله في تركيا مفارقة طريفة.. فقد عرض على البائع أن يطرح أحد كتبه للبيع على الرصيف دون مقابل.. ولأن الرجل لا يجيد أية لغة لم يفهم إلا بعد ذكر اسم "ناظم حكمت" ففهم أنه كتاب في الشعر.

يمكن التقاط بعض السطور لبيان بعض ملامح الكتابة عند شبلول. ففي رحلته إلى تركيا، توقف أمام اسم مدينة استانبول وتاريخها:
"وتاريخ استانبول (موقع مدينة بيزنطة القديمة) يبدأ مع تأسيس الإمبراطورية الكبيرة عام 660 قبل الميلاد، وهو عام تأسيس الأساطير السرية حول تلك المدينة. ففي هذه الآونة ذهب الماغاريون المقيمون بإحدى الضواحي لمدينة أثينا إلى عراف مدينة دلفى، وطلبوا منه أن يساعدهم في إيجاد مكان لأنفسهم تكون أرضه خصبة، وماؤه غزيرا، وهواؤه عذبا، فأجابهم العراف بأن يذهبوا إلى المكان الواقع أمام مدينة العمياء"... فلما ذهبوا وحلوا ليلا على المكان، وما كان في الصباح أذهلهم فقالوا: "ها هو المكان الذي أشار له العراف، ولا شك أننا قضينا ليلة عمياء في هذا المكان، فلم نر هذا الجمال إلا صباحا (أو أن الناس المقيمين في هذا المكان عمياء، لأنهم لم يروا هذا الجمال أو يقدروه).

وفى رحلته إلى مدينة "بلطيم" الساحلية، ناقش فن السينما من خلال الآتي:
"أما أماكن الترفيه، فلم يكن هناك سوى سينما بلطيم، التى تعرض ثلاثة أفلام دفعة واحدة وفى حفل واحد... قام الزميل "جاد" المشرف على الرحلة بجمع أسعار التذاكر وحصل على تخفيض كبير... الأفلام المعروضة على الترتيب: "السيد العاطفي، السفارة في العمارة، معلش إحنا بنتبهدل"... ما يهمني في هذه الأفلام الثلاثة كان فيلم عادل إمام "السفارة في العمارة" الذي آثار جدلا كبيرا لدى أوساط المثقفين والشعراء والأدباء في مصر، وبعضهم رفع دعوى قضائية ضد عادل إمام لتهكمه على قصيدة "لا تصالح" للشاعر "أمل دنقل" التي أصبحت رمز الدعوة ضد الصلح... خرجت من قاعة السينما، وأنا أتساءل: هل الفيلم يدعو إلى التطبيع، أم هو ضد التطبيع؟... ولكن نهايته توحي بأنه ضد التطبيع (مش حانسلم.. مش حانبيع.. مش حانوافق ع التطبيع)...."

هكذا تبدو الحالة الحوارية والمتفاعلة مع القارىء في كتابة أحمد فضل شبلول عن رحلاته التي تعدت العشر رحلات، في كتابه الشيق "من استانبول إلى قرطبة".. الذي يقع في 145صفحة من الحجم المتوسط.. عن دار الوفاء للنشر بالإسكندرية".

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية