ظهرت "الأغنية الملتزمة" في الوسط الفني بعد شيوع تنظيرات الفيلسوف الفرنسي المعروف جون بول سارتر حول "الأدب الملتزم" فكانت "الأغنية الملتزمة" في عز المد الثوري في كل بقاع الأرض في الستينيات وكانت تعني "الأغنية السياسية الثورية" أي أن "الأغنية الملتزمة" ارتبطت في بداياتها باليسار (فالأغنية غير اليسارية لم تكن تعتبر "الأغنية الملتزمة" ولو كانت أغنية وطنية). وابتداء من السبعينيات امتدت "الأغنية الملتزمة" لتشمل اليمين أيضا، فصارت "الأغنية الملتزمة" تعني "الأغنية الدينية" كذلك.
ووسط هد التجاذب بين الدين والسياسة، حرمت المجموعات الغنائية المغربية مند السبعينيات من الاعتراف بها كفرق موسيقية تؤدي "أغان ملتزمة". فمجموعة "ناس الغيوان" التي لم تكن ملحقة لأي حزب يساري اعتبرت مجموعة "شعبوية" بينما اعتبر المطرب سعيد المغربي المنخرط في العمل السياسي اليساري "فنانا ملتزما"...
"الفن الملتزم" كان ولا زال يقيم على أساس العضوية في الحزب اليساري أو الإسلامي وليس أبدا على أساس مضامين النص الشعري أو الموسيقي أو حتى شكل الأداء الفني... هدا من جهة. ومن جهة ثانية، "الفن الملتزم" كان "أحيانا" يضاف عليه مسحة مقدسة لقطع الطريق على النقد الفني والموسيقي كي لا يخلخل بنيانه الفني الهش... وكان ذلك سببا في اضمحلال "الأغنية الملتزمة" مفهوما وتجربة.
أعتقد انه آن الأوان لتجديد الأغنية العربية وفق منظور جديد رحب غير إقصائي يشمل الجميع ليرتقي الدوق الفني. فأي أغنية قامت على غير أسس جمالية محكوم عليها بالفشل. ولنا في مسارات غير الفنانين خير مثل على ذلك. فالفيلسوف الألماني الكبير هيغل المعروف باني الفلسفة الألمانية تجوزت فلسفته في نفس الفترة التي ولدت فيها مع فلاسفة المادية الجدلية ولكن نظريته في علم الجمال صمدت لمدة قرنين من الزمن ولا زالت صامدة.
أعتقد انه آن الأوان لتفكيك مفهوم "الأغنية الملتزمة" و"الأغنية التجارية" وبناء مفهومين أكثر رحابة وأنا اشتغل أكثر على مفهومي "الأغنية المتزنة" و"الأغنية الفٌصامية".
إدا كان الولاء في مفهوم "الأغنية الملتزمة" حزبي أو ديني، فإن الولاء في مفهوم "الأغنية المتزنة" إنساني. إن الأغنية لا تكون أغنية دون انسجام داخلي بين مكوناتها، دون مصالحة بين النص الشعري واللحن والتوزيع الموسيقي والأداء الصوتي. "الأغنية المتزنة" أو الأغنية الواعية، أو المتناسقة، أو المتناغمة أو المتصالحة مع ذاتها تقف في تعارض مع "الأغنية الفٌصامية" السكيزوفرينية المصابة بانفصام الشخصية وازدواجية النص والأداء والطلاق الثلاث مع الصدق الفني سواء كانت ملتزمة أو تجارية.
1- "الأغنية الملتزمة" وأزمة المعايير الفنية الموضوعية:
المعيار الفني في "الأغنية الملتزمة" غير وارد لا عند اليسار ولا عند الإسلاميين، المهم هو العضوية للحزب أو الجماعة أو غيرها من تسميات وبعد دلك يأتي النص الشعري.
لقد ربطت الأغنية الملتزمة الأداء الغنائي بالموقف السياسي ولدلك كان هدا المفهوم مجحفا فقد كانت أغاني نعيمة سميح ملتزمة بالموقف النسائي وهو شكل آخر من أشكال الالتزام التي لم يتحدث عنه أحد ممن يقدمون أنفسهم باحثين في الفن ونقادا جماليين. ولأن أغاني نعيمة سميح التزمت الموقف النسائي فلم يتقدم ولو رجل واحد في أي برنامج من البرامج التلفزية لا المغربية ولا العربية بإعادة أداء أغاني نعيمة سميح رغم التهافت الواضح للرجال على إعادة أداء أغاني أم كلثوم...
فقد كانت أغنية’’ ياك اجرحي ‘’ للمطربة المغربية القديرة نعيمة سميح قد كتبت ولحنت خصيصا لامرأة خارجة "للتو" من المستشفى لتغني ببحة صوتها وعياء مظهرها المعهودين، عن جرح... وهدا ما ساهم في توحد المطربة لاحقا مع أغنيتها حتى صارت أغنية’’ ياك اجرحي ‘’ عند نهاية السبعينات، أغنية جرح كل النساء اللواتي اقبلن عليها حفظا وتقليدا بشكل منقطع النظير. ولا أدل على هذا الصدق الفني النادر في تاريخ الأغنية المغربية من كون هذه الأغنية، بعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمن على تسجيلها، لم يجرؤ كما قلت ولو مطرب واحد ذكر على إعادة أدائها. فقط المطربات الإناث ، المبتدئات والمتمرسات على السواء، هن من تقدمن في الماضي ولا زلن يتقدمن لأدائها بكل ثقل الصدق الفني الموروث عن مطربته الأصلية، نعيمة سميح.
فإذا كان ضروريا للفن أن يكون ملتزما، فاعتقد انه عليه أن يلتزم بالمصالحة مع دانه ومع مكوناته الداخلية: أن ينظم الشاعر قصيدة يستشعرها، وان يترجم المبدع القصيدة إلى أنغام، وان يقتنع المطرب بما يغنيه ويجسده ما دام هو مجرد مَعْبرا لرحلة الأغنية إلى وجدان الجمهور. إن الغناء نافذة للتعبير عن مكنونات الذات.لذلك فهو لا يمكن أن يكون مُعبِّرا إلا بواسطة ذات مغنية تستحضر التجربة المتغنى بها وتتوحد معها بحثا عن الصدق الفني الذي يرفعنا للأعالي وعن الصدق الوجودي الذي يعلمنا كيف نمارس تنظيراتنا وكيف نكون نحن، كيف نكون أنفسنا.
إن مجتمعاتنا التي تعاني من الإرث الثقيل للازدواجية (الأصالة والمعاصرة، النقل والعقل، الشرق والغرب...) لا يمكنها في أي عصر من العصور أن تكون "ملتزمة" بمرجعية من المرجعيات دون أن تكون متصالحة مع ذاتها.
2- أسباب انحسار "الأغنية الملتزمة":
التعارض الشائع هو تعارض بين "الأغنية الملتزمة" و"الأغنية التجارية" لكنني أفضل مفهومين مختلفين: "الأغنية المتزنة"، أو الأغنية المتناسقة، أو المتوافقة، أو المتناغمة أو المتصالحة مع ذاتها في تعارض مع"الأغنية الفصامية" أو الأغنية السكيزوفرينية.
إن ما يميز الأغاني الجيدة عن الأغاني الفقيرة ليس مضمون النص الشعري أو جودة اللحن أو مهارة التوزيع أو قدرة المطرب على التحرك في السلم الموسيقي صعودا ونزولا. إنما القول الفصل بين الريادية والإسفاف في الأغنية هو درجة الوعي بالنص المتغنى به. فمتى حضر الوعي بالنص كانت الأغنية واعية وكان الأداء منسجما لحنا وتوزيعا وغناء. ومتى غاب الوعي بالنص غاب الانسجام الموسيقي لحنا وتوزيعا وغناء فظهرت الأغنية تقول ما لا تؤديه وهو ما يمكن تسميته بالأغنية السكيزوفرينية، باستعارة معجم علم النفس.
فمفهوم "الأغنية المتزنة" أو الواعية عندي أشمل من "الأغنية الملتزمة" لأنه يركز على الفعل والممارسة: أن ينتج الشاعر نصا يستشعره وأن يجسد الملحن النص الشعري لحنا موسيقيا وأن يعيش المغني التجربة أمام المايكروفون...
بينما تبقى الأغنية السكيزوفرينية منفصمة الشخصية مفككة المعالم لا يربط بين مكوناتها رابط فقد يكون النص الشعري يتغنى بحبيب دكر في قالب موسيقي حزين بينما المطرب ناشط من عقال... إن الأغنية الشيزوفرينية تعتمد في وجودها ككل على "النمطية" في كل شيء: فالإيقاع جغرافي محلي والغزل الفاشل المرتجل هو النص والوجه المعروف صالح لغناء كل الأنماط الموسيقية... والنتيجة هي ملء الفراغ بالكثير من الدبدبات الصوتية ما دامت الطبيعة كما قال أرسطو تخشى الفراغ!!! ...
3- "الأغنية الملتزمة" وسلطة الفيديو كليب:
في البدء كان دور الموسيقى المسموعة هو "الإمتاع" عن طريق الطرب والموسيقى، ومع موسيقى الأفلام تحول الهدف إلى "إنجاح الفيلم" عبر بوابة الموسيقى حيث كانت الخلفية الموسيقية للفيلم تعزز الأثر الفني لدى مشاهد الفيلم. أما في زمن الفيديو كليب فقد انقلبت الأدوار وصارت دلالة "إنجاح الأغنية بين جمهور الأغنية" هي "رواجها في السوق". إنه انقلاب من سلطة الإبداع والرأسمال الرمزي إلى سلطة المال والرأسمال المالي. لقد انقلبت السلطة الفنية في الزمن الراهن منتقلة من "سلطة المطرب" أو "سلطة المبدع/الملحن" في وقت من أوقات الزمن الماضي إلى "سلطة الفيديو كليب" وسلطة دار إنتاج الفيديو كليب.
أما الآن، في زمن صعود الصورة وأفول الاهتمام بالبث الإذاعي المسموع، فالسلطة قد انتقلت إلى شركات إنتاج الفيديو كليب وهده الشركات يهيمن عليها خصوم أحزاب اليسار العربي الدي يتبنى مفهوم "الفن الملتزم".
لقد التزمت "الأغنية الملتزمة" العربية المواجهة مند البداية مع الأنظمة الخالدة. ولدلك حكم عليها بالفناء .
إدا كانت الأغنية عند كل المجتمعات تتوزع بين الغناء عن الواقع وبين الغناء عن المثال، فإن الأغنية العربية اختطت لنفسها مند أزيد من ثلاثة عقود طريقا ثالثا غريبا وهو: "الغناء للتشويش على التفكير ولملء الفراغ وتعكير صفو البال"... مند أزيد من ثلاثة عقود والغناء في العالم العربي يخدم قضية النظام العربي الأولى: "دعم حالة الاستثناء المعلنة وغير المعلنة"... بما في دلك التشويش على التفكير باستخدام خمسة وعشرين في المائة من قنوات القمر نايل سات "للغناء الفصامي" السكيزوفريني والصور غير الدالة والضوضاء غير الخلاقة...
4- "الأغنية الملتزمة" وعلاقة التعاقد بين المبدع والجمهور:
العلاقة بين "الفن المتزن" والجمهور هي "علاقة تعاقد" لا علاقة تنازل او تجاهل. الإبداع تواصل راق يطلق العنان للمشاعر الإنسانية النبيلة ويحسس الناس بحريتهم ويستدرجهم للاستمتاع بها. الإبداع مطلب وجودي يتمظهر في شكل واجب ينتظر من الجمهور القيام به من خلال الوعي بحريتهم واستثمارها.
إن المجهود الكبير الذي يبدله كل مبدع قبل إخراج عمله للوجود لأكبر دليل على هذا الاعتراف بحرية الجمهور الذي قد يلقي الأغنية في وجه أصحابها إن أظهر هؤلاء نفاقا أو تحايلا على حريتهم. إن الامر يتعلق ب"تعاقد" بين طرفين متكاملين لا غنى لأحدهما عن الآخر، ولا سلطة لهذا على ذاك.
هذا التعاقد بين الأحرار في الأغنية هو ذاته "التعاقد" الذي ننشده في الحياة السياسية بين الحاكم/المغني والمحكوم/الجمهور وأساسه الثقة المتبادلة والحرية كصفة وجود لكل منهما والعمل على إعلاء راية القيم الإنسانية النبيلة...
5- "الأغنية الغدوية" هي "الأغنية المتزنة":
الموسيقى شكل خالص. ولأنها كذلك فإنها صانعة الدلالة ومولدتها.
يجب أولا التمييز بين نوعين من النصوص : النص المجرد (كلام، رأي، قيمة...) والنص المجسد ) الشكل الذي يحقق كل نص مجرد وجوده(.إنه تمييز بين العام المطلق وبين الخاص النسبي المحدد في الزمان والمكان. ولعل ما جعل النص المجرد يستحيل نصا مجسدا، نسبيا ومتفردا هو تدخل " الجسد". إن وظيفة" الجسد" هي جعل النص الثابت متحولا ومتغيرا ومتفردا.آنذاك فقط يبدأ المعنى ويتأسس.
وقد كتب الدكتور عبد الكبير ألخطيبي في كتابه المعروف " الاسم العربي الجريح": ‘’ ليس الجسد هو النص، ولكن الجسد هو الصورة الغامضة لنصوص يتيمة لانهائية. إن الجسد ليس شيئا آخر سوى منتج لهذه النصوص لانهائية.’’
فإدا كان الكوميدي قادر على جعل خطابات الساسة بنقطها وحركاتها محط سخرية بمجرد تشغيل إيماءات غير مناسبة ، فإن الغناء والموسيقى عموما يمكنها يمكنها أن تجعل من الكلمات يمامات برية طليقة.
6- "الأرض تتكلم ثقافتنا":
الأغنية هي "ذاكرة" بالنسبة لمن عايش ميلادها ونموها. فالأغنية كائن حي ينمو ويشيخ ويموت ليفسح المجال لميلاد نوع غنائي جديد. لكن الغناء في كل مراحل دورته الوجودية يبقى في النهاية "وجدان" لكل من قدر له الميلاد والحياة في تربتها وتحت سمائها... الأغنية هي انتماء للأرض. فكما غنى سيد مكاوي: "الأرض بتتكلم عربي"... إن الأرض التي أنتجت هده النباتات المحلية المتفردة حولنا كشجرة الأركانة التي لا يمكنها النبات في أي تربة خارج المغرب هي ذات الأرض التي رعت الحيوانات الأخرى التي لن تجدها في أي غابة من غابات المعمور وهي ذات الأرض التي أنتجت هده البشرة المميزة لسكان المغرب العربي التي يلقبونهم في فرنسا تبعا لها "les Beurs" وهي ذات الأرض التي أنتجت هده الموسيقى وهدا الغناء... إن الأرض تتكلم من خلالنا وكل هذا التعدد الغنائي ما هو إلا لغة الأرض: لغة الوطن.
7- التجارب الغنائية في المغرب بين ريادية الفنان وتخلف المثقف والسياسي:
إن أي مشروع لتجديد الخطاب العربي العام لابد له من إدراج تجديد الخطاب الغنائي ضمن جدول أعماله. بل من الأجدى إعطاء الأولوية في التجديد للأغنية العربية وجعلها قاطرة للمشروع العربي الغدوي مضمونها "التعددية" ولسانها "الحوار"، الحوار الشامل: حوار المغنين، حوار الآلات، حوار المقامات... لقد قال أحدهم ذات مرة:"إذا أردت التعرف على شعب، فاستمع إلى موسيقاه "، فلماذا لا نكون أسياد أنفسنا ونصنع لذواتنا صورا مشعة تجعلنا جديرين بالوجود وتغري الآخرين بقيمة حضورنا وفعلنا الإنسانيين؟
المجموعات الغنائية المغربية مند السبعينيات من القرن الماضي، حاولت بعث هده الصورة المشعة لتضيء الطريق نحو أفق مغاير يغري بالتجربة. لكن ما حصل وبكل جرأة هو أن هؤلاء الشباب الموسيقيين اصطدموا بواقع أكثر مرارة من الواقع الذي قصدوا تغييره بالأغنية. لقد اصطدموا بمثقفين أميين في الفن وبمنظمات جماهيرية فغابت فرصة التاطير السياسي والثقافي لتلك المجموعات وضاعت معها فرصة العمر.
خاتمة:
إن أزمة الثقافة العربية عموما هي أزمة حرية بالدرجة الأولى. فالشاعر ليس حرا والملحن/المبدع ليس حرا والمطرب ليس حرا والجمهور ليس حرا... ووسط هده الحلقات المتشابكة من اللاحرية، يعشش التكرار والاجترار والنمطية والروتين القاتل لفن يفترض أن يجدد الوجدان والداكرة والبصيرة والفكر...
إن "الحرية" في التقليد الثقافي العربي تقترن باستقلال الوطن ومقارعة المحتل. أو ربما بدت مختلفة عن مفهوم "الحرية" في العرف الشعبي العربي الذي يقارن "الحرية" بنقيضها الثابت "العبودية" أو "الأسر". إن مفهوم "الحرية" ، بالإضافة إلى مقارعة المحتل حتى الاستقلال ونقض العبودية والأسر، مرتبط بسبر أغوار الداخل: أعماق الذات. إنه تحرير القوى الداخلية عبر مصالحتها والمصالحة معها. ولذلك كان مفهوم "الحرية" الذي يدير كل أعمالنا لا يتحقق إلا عبر بوابة "التوحد": توحد القول والفعل، توحد الفكر والقول، توحد الفكر والفعل، توحد الصوت والصورة، توحد النص والمغني...
الحرية ، بمعناها الكامل إذن، تقتضي التحرر من الخارج/الآخر وتحرير الداخل/الذات. فلا حرية، إذن، دون المصالحة مع الذات وتحريرها: فما جدوى الاستقلال عن الآخر مع البقاء مكبلا من الداخل؟ ولا حرية خارج "التوحد": لا حرية تحت راية الازدواجية والسكيزوفرينية وانفصام الشخصية... ولذلك معقود على "الأغنية المتزنة" في طرح مطلب الصدق الفني والمصداقية في الإبداع الفني العربي عبر بوابة الحرية والتحرر والتحرير.