فاطمة ناعوت بنتٌ صغيرة. تمضي ساعاتٍ طوالا في صناعة طيارة من قصاصات ورق ملوّن، كانت تدخرها من جلادات الكراسات، ومن كرانيشَ وذيولٍ وخيوطٍ وصمغ. تصعدُ إلى سطح البيت وتطيّرها. في محاولة لدفع الروح للتحليق مع كيانها الورقيّ الطائر الذي لا تنسى أن تثبت فوقه عينيها لكي ترى العالم من فوق بعين طائر يصعد فوق الحياة. مرةً سألوها ماذا تودين أن تكوني حين تكبرين؟ فقالت: نسر. سأكونُ نسرًا.
نسر طيب لا يخطف الطيور الصغيرة بل يدافع عنها. فقط أود أن أرى العالم من أعلى دون أن يأسرني معدن الطائرة ومقعدها المنظم ووجبتها السخيفة وابتسامة المضيفة المصنوعة. هي ذاتها البنتُ التي تثني ركبتيها فوق سريرها ثم تتكئ بظهرها على حافة النافذة وقت العصر، بعدما تقرر الشمسُ أن تلملم أشياءها العنيفة التي تلسع عيون الأطفال وترحل. تستلقي بظهرها كي تواجه عيناها السماء. تجهد مخيالها لكي ترى هذه الصفحةَ الزرقاء بحرًا، وحينما يعوزها صوتُ هدير الموج بإيقاعه المنتظم، لن تفعل أكثر من أن تقوّس كفيها فوق أذنيها فيتدفق الصوتُ بكامل زرقته غنيًّا فاتنًا. حيلةٌ تعلمتْها من شقيقها الأكبر حين كان يضع قوقعة البحر فوق أذنها على شاطئ الشاطبي بالإسكندرية فتسمع البحرَ يوشوش لها. البحرُ يختبئ داخل القوقعة كما أخبرها أخوها. سوف تدرك في وقت مبكر أن كل ما سبق من حيل لا يخلق العالم. تجرب الرسم.
كوخٌ ونهرٌ وولد وبنت وزهرة وبومة فوق شجرة. لكن اللوحة ساكتةٌ لا تحمل صوتًا ولا رائحةً ولا تَراقُصَ لهبِ نارٍ ولا حتى شيئا من الفوضى. لابد من عالم يحمل فوضاه وشقاوته. حيث البومةُ مليحةُ الوجه كما رأتها دومًا، والغرابُ طائرٌ رائع يلبس بذلة اسموكنج أنيقة من الرمادي والأسود. صوته عميق وحزين. هل جربتَ أن تحب صوتَ الغراب؟ حين أغدو إلهةً في الانتخابات القادمة لن أظلم الغراب. سوف أعيد ترتيب الكون على هواي. فيغني الناس عن وجه البومة ونعيق الغراب ونقاء الحمار وتوقّد ذاكرته. هكذا كانت تُسرُّ إلى نفسها أمام المرآة. تدخل تحت سريرها وتوقد الأباجورة ذات اللمبة الصغيرة التي تخبئها تحت السرير كي تستلقي على البلاط وتقرأ الكتب التي حظرتها أمها من دخول البيت: جبران ونزار قباني وأرسين لوبين لموريس لوبلان والعهد الجديد. في الحقيقة الأم حظرت كل الكتب التي تخرج عن منهج المدرسة. حظرت الموسيقى وصوت فيروز وحظرت الأصدقاء وحظرت العالم.
ثم تتذكر فجأة أباها الذي لم يحظر شيئا، ليس فقط لأنه مات لكن لأنه رجل طيب. لم تره منذ كانت في السابعة. كان يحكي لها قصص الأنبياء. تتذكر المسيح ومريم، هو تكلم في المهد؟ قالت لأبيها وقتئذ: طيب عروستي أيضًا تتكلم، فيبتسم ويقول إن عروستها مُبرمَجة بكلمات بعينها، لكن المسيح كان يجادل اليهود ويرد على أسئلتهم بمنطق وعقل ووعي. فتقول له أريد طفلا كهذا. فيشرح كيف أنه كلمة الله، وأن مريم أرقى نساء الأرض. وإذًا؟ تحتاجُ في البداية إلى الجزء الماديّ من العالم الذي ستبنيه، الجزء الكونكريت Concrete أو الهارد ويير hardware فكان أن اختارت قسم العمارة في كلية الهندسة. قررتْ أن تبني مباني طائرة، لا تقف فوق الأرض، رسمت أجنحةً في تصميماتها. لكن أستاذ الإنشاءات يوغل عميقًا في محاضرة الهياكل والأساسات واللبشات الخرسانية المسلّحة والخوازيق الحديدية التي تقاوم الزلازل وتحمي المباني من السقوط وتمنعها من الطيران.
تبًّا! لماذا يصر الناس على التمسك جدًّا بالأرض؟ هل يخافون أن تهرب من تحت أقدامهم؟ ثم تتذكر "كمان" تشايكوفسكي الذي كان يطيّر النغمات النحيلة من أوتاره دون أن يخشى عليها من الضياع. الكمان يحرر الزقزقات من إسارها فتطير صوب السماء ثم تعود إليه مثل الحمام الزاجل. فلماذا يخاف الناس من الطيران؟ هي الآن تجلس إلى مكتبها في وقار الفلاسفة وهدوئهم، تخرج القلم الحبر شأن الرجال الكبار المهمين المقدمين على عمل جلل. ثم تفتح دفترها وتكتب ماجنا كارتا تحمل قوانينها وشروطها. تلك الورقة التي ستوزعها على مخلوقاتها حين تخلق العالم. وكان الشعر. الجزء الأثيري من العالم، السوفت ويير software . ولأنها أحبت ناجي وجبران ونزار، كانت تحط قصائدهم أمامها على المكتب ثم تقوم بنقلها بعدما تغير في المفردات والقافية، محاوِلةً أن تحافظ على جرْسها الموسيقيّ الذي قال جدها إنها تدعى بحورًا شعرية. وعلمها كيف تنقر بإصبعها على الطاولة لتناوبَ بين السكون والحركة. كان هذا حين سقط هذا الجد في بئر المصعد لتنفصل شبكيته وتتحول الحفيدةُ إلى عينين. تقرأ له الصحف والشعر والقرآن والإنجيل وعظات بوذا وشذرات زرادشت والملك لير.
لكن أستاذ التصميم الآن في هندسة عين شمس يطلب منهم أن يضعوا تصميمًا لبوابة جهنم، ثم يدور على طاولات الرسم ويشطب بقلمه الغليظ على كل التصميمات الجميلة التي احترمت النسب الذهبية والاتزان اللونيّ والتماثل الكُتليّ. رسبت كلُّ المشروعات التي حققت المعادلات الإنشائية والرياضية والهندسية التي تعلموها في سنواتهم الأولى بالجامعة. المعلّمُ ينقلب على العلم الذي لقنّه لتلامذته، ويسخر من أوائل الدفعة المتفوقين الذين نفذوا بالحرف كل ما علمّه لهم! بوابة جهنم يا أغبياء. ثم يعتدل ويواجههم ليشرح معنى الخطاب ما بعد الحداثي في العمارة. التشظي. جماليات التنافر. سقوط السُّلطة. محاكاة العالم في تناقضاته وفوضاه وتمرده وعبثيته. نثرنة الوجود. تحطيم القوالب. هنا، لَكَمْ يبدو صوتُ توقيع الخيول والنوق على رمال الصحراء غريبا بانتظامه ورتابته وإتقانه.
خببٌ وافرُ كاملٌ بسيط رجزٌ متدارك. لكم تبدو الرتابةُ منفرّةً ونشاذًا ودخيلةً على أذُنٍ تعودت على صوت الكلاكسات والمدافع وأزيز الطائرات في صخبها ولا انتظامها! قصيدة النثر؟ شرح لنا معلم التصميم المعماريّ، دون قصدٍ، قصيدةَ النثر من مدخلات العمارة دون أن يعي أنه يشرح بامتياز درسًا أدبيًّا نقديا جماليًّا. تنظر البنتُ من نافذة غرفتها فترى الطيارة الورق ترقص بحريّة وشقاوة في الهواء ودون انتظام مهما أحكمتِ اليد القابضةُ على خيطها. الطيارة الورق لا تمشي على قضبان، ذلك لأنها طيارة ورق. هل صارت البنتُ جاهزةً الآن لخلق العالم؟ هل لديها ما يكفي من أحجار ورمال وماء ونجوم وطير وطمي وأخشاب؟ الأكيد أنها تملك ما يكفي من الرغبة في الثورة. لكن تلك الثورة ستظل كامنة بين الفستان والجلد عقودًا طويلة حتى تكبر البنتُ جدا بما يكفي لكي تنبت لها سبابةٌ قوية تشهرها في وجه عائلة بطريركية لا تؤمن بغير صك الطب أو الهندسة ثم الجلوس باطمئنان وبلادة على مقعد مرموق في الكيان الاجتماعي.
ستعرف لاحقًا أن سبابتها المتنحية تلك كانت دائما هناك، خبيئة في كفها اليسرى، لكنها لم تكن من القوة بما يكفي لشهرها عاليةً في وجه العالم. وستدرك أيضًا أنها لن تكون إلهة أبدًا، ليس فقط لأنها لا تملك ما يكفي من مادة صلبة لبناء العالم، وليس لأنها فقدت الحماس لبناء العالم. لكن مِن أجل مَنْ تبنيه؟ من أجل بشر لم يتقنوا حتى الآن إلا فنون القتل والدمار؟ بشر يفخرون بإعلانهم الحرب وقتل الأطفال وهدم البيوت وحيازة أسلحة الدمار الشامل وفي المقابل يختبئون في الظلمة حين يحبون. تجد واحدهم لا يستنكر أبدًا أن يتجهم في وجه الناس ويشتاجر مع بعضهم في الطريق وربما ابتذل في القول أو أشهر في وجهه سلاحًا وفي المقابل يخجل من تقبيل حبيبته أمام الناس!
الحرب في العلن والحبُّ في الخفاء!! بُحَّ صوتُها لتقول لهم: الحب أسهل من الكراهية، وأنا إن صنعت لكم عالما لن أسمحَ بدخوله إلا لمن يتقنون الحب، وحده الحب ولا شيء سوى الحب. الحب بالمعنى الأشمل للحياة والبشر والموجودات. لكنهم لم ينصتوا لها وأمعنوا في الضجيج والقتل وهدر الدماء.
وهذا ما سيجعلها تكتب إهداءً على صدر أحد دواوينها يقول: إلى يوتوبياي التي لم أرها. لذلك هي لن تكون إلهة أبدًا، ليس لأن صناعة يوتوبيا بات مستحيلا، وليس لأن زمن آلهة الإغريق الذين أدمنت قراءتهم حدَّ أن مُسّت بالجنون قد ولى بغير عودة، وليس لأنها اكتشفت أن الألوهة نفسَها غدت فكرةً ساذجةً لا تستحق إهدار الخيال من أجلها، ولكن لأنها بالفعل تملك ما يكفي لبناء عالم صغير، لا يضم بشرا ولا أنهارا ولا كواكب ولا جبالا. عالم يخصها وحدها ولا يعيش فيه سواها. بالكاد يكفي لنمو زهرة. زهرة صغيرة جدًّا. على ورقة بيضاء في كراسة زرقاء تنام وادعةً كل ليلة جوار سريرها.