للاستماع إلى هذه المقالة بصوت الكاتبة:
{play}/audio/Nashiri_Hayat_juhha_wa_fakh_Aleeqaa.mp3{/play}
{enclose Nashiri_Hayat_juhha_wa_fakh_Aleeqaa.mp3}
هل تذكرون جحا؟ هل تذكرون قصته حين سألوه "يا جُحا أين أُذُنك؟" فرفع يده اليمني ولفها خلف رقبته ليشير إلى أذنه اليسرى! منذئذٍ صارت عبارة "يا جحا أين أذنك" تطلق على من يلف ويدور حول أمر ما بشكل ممجوج. الآن ما علاقة قصة جحا بالإيقاع الوارد في عنوان المقالة؟ تابعوا معي رجاء.
في قضية حِل الموسيقا وحرمتها، هناك ثلاثة آراء:
1- هناك من يرى أن الموسيقا في مجملها حرام، ويكتفي بالهمهمات الصوتية البشرية مثلا.
2- وهناك من يرى أن الدُف وما شابهه من آلات غير وترية فقط حلال، وما عداها حرام.
3- وهناك من يرى أن الموسيقا برمتها بآلاتها الوترية وغير الوترية حلال.
لكل أصحاب رأي من الآراء الثلاثة مذهب في الاستدلال على صحة ما يقولون. وتضييع الوقت في الحكم على صحة آرائهم كتضييع الوقت في المراء حول موضع الكفين في الصلاة أين يكون، هل على الصدر أم على البطن، فكل هذه خلافات اجتهادية فقهية فيها سعة وليست هذه المقالة مجالها. لذا نترك النقاش فيها لأهلها ونلتزم نحن –غير المتخصصين في الفقه- نحوها أدب الاختلاف.
الدوائر الثلاث التي ذكرتها واضحة ومحددة ولا لبس فيها ولكلٍ الحق في اختيار ما يناسبه منها، لكن الآن صار لدينا مولود جديد يسمى تجاريا بالإيقاع خلط الدوائر الثلاث شر خلط. والوقوع في فخ الإيقاع صار صرعة اليوم كما يبدو.
حسنٌ، ما هو هذا الإيقاع؟ وهل له من اسمه نصيب فأوقع بنا؟
الإيقاع أحبتي كلمة ملطَّفة ومطاطة لكيان هجين بين الموسيقا والأصوات البشرية، حيث يقوم شخص بتأدية اللحن بصوته، ثم يُدخل الصوت البشري إلى الحاسوب وباستخدام برامج معينة يخرج الصوت البشري بحلة جديدة فتارة يبدو كصوت الطبل وتارة كالدف، أو العود، أو الكمان، أو البيانو أيضا. وسبحان من علّم الإنسان ما لم يعلم.
هنا يطرح السؤال نفسه وبقوة: هل العبرة بالصوت أم بمصدره؟ بمعنى، ما الفرق بين صوت البيانو الصريح الصادر من جهاز البيانو المعروف وبين صوت بشري تحول بواسطة الحاسوب إلى صوت يطابق صوت البيانو؟ أليس صوت البيانو بالنسبة لمن يؤمن بالرأي الأول حرام سواء أكان صادرا من بيانو أم من حاسوب أم من صدى قادم من كوكب المريخ؟ أليس هذا من ذاك وذاك من هذا؟ أين ذهب مبدأ القياس الفقهي إذا؟
من حرموا الموسيقا حرموها لما تحدثه في القلب من إلهاء من وجهة نظرهم، وهل صوت العود الخارج من الحاسوب أقل إلهاء من ذلك الخارج من أداة العود نفسها؟ الأخطر من هذا هو أنّه إذا كان شخص ما يرى أن الآلات الموسيقية حرام، أليس من المؤسف أن نجعله يستمع إلى شيء هو في محصلة الأمر موسيقا خرجت من رحم مختلف (الحاسوب) عن الرحم المعتاد (الآلة الموسيقية)؟ أليس هذا كمن يفعل مثل جحا في القصة التي أوردتها خاصة وأن الغالبية العظمى تظن أن الإيقاع أمر مختلف عن الموسيقا لأنها كلمة مألوفة وعامة ولا توحي بالكثير.
لغويا، الإيقاع أو الـ Rhythm وفقا لمعجم المورد هو "الاتزان والتناغم وائتلاف أجزاء الأثر بعضها مع بعض بحيث تؤلف كلا فنيا". وهذا أمر موجود في الشعر، وموجود في الألحان بشكل عام، سواء في تلك الخارجة من آلات موسيقية مباشرة، أو الخارجة من تحوير الصوت عبر الحاسوب، أو في الهمهمات البشرية. فلِمَ يتم لي عنق الكلمة لتوصل معنى ليس معناها؟ وإن سألتموني عن الاسم الصريح والواضح لما يسمى ظلما بالإيقاع فسأقول أنه "موسيقا ذات أصل بشري" أو "موسيقا حاسوبية". فهل سنجد الجرأة من منتجي الأناشيد ليكتبوا ذلك على أغلفة إصداراتهم؟ آمل ذلك من كل قلبي.
أعلم أن لهجتي حادة قليلا بل كثيرا، وعذري في ذلك أني أحب لإخوتي -حتى الذين اختاروا رأيا غير رأيي- ما أحب لنفسي. أما عني أنا شخصيا، فأنا من أصحاب الرأي الثالث وأرى أن الموسيقا وحدها ليست حراما، بل ما يحدد حِلها أو حرمتها هو الكلمات والأداء والجو المحيط بها والرسالة التي تهدف إليها، ولا يهمني أكان اسمها موسيقا أم إيقاعا. وكان بإمكاني أن أسكت وأن ألا أدخل إلى عش الدبابير بقدمي بدعوى أن الأمر لا يعنيني، بل سيكون انتشار ما يسمى بالـ"الإيقاع" بمثابة انتصار غير مباشر لوجهة نظري. كان بإمكاني ألا أبالي وأن أهز كتفي وأقول كما يقول الجميع "وما شأني أنا". لكنها العدالة، لكنه علم وصل إليّ لا يجوز لي أن أكتمه. و"من علم مسألة، فهو بها عالم" كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، و"من كتم علما، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة" كما قال رسولنا صلوات ربي وسلامه عليه.