مرت في شهر نوفمبر الماضي الذكرى الثامنة والثلاثين لوفاة الشاعر الروائي المسرحي الكبير علي أحمد باكثير -رحمه الله. وقد مرت الذكرى كعادتها كل عام صامتة رتيبة، فلم يتذكره أحد مع ضخامة ما قدم من أدب وأهمية من ترك من تراث. وسنحاول في السطور التالية التعرف على جانب مهم في أدب باكثير، لم يوله الباحثون ما يستحقه من اهتمام، وهو موقفه المشرف من المرأة في كتاباته، وهو موقف يكاد يتفرد به باكثير بين الكتاب المعاصرين. ذلك أنه قدم نماذج مشرقة للمرأة في أدبه، وأنزلها منزلة لم ينزلها إياها أحد غيره من الكتاب، فيما أعلم. إعادة تفسير الأساطير:لم يقتصر باكثير على إبراز المرأة في صورة مشرفة في الأعمال التي يبدعها ويؤلفها فحسب، بل لقد عمد إلى قصص التاريخ والأساطير فإذا وجد في بعضها نيلاً من قدسية المرأة أو موقفاً سلبياً تجاهها شرع يعيد كتابة تلك القصة معيداً للمرأة اعتبارها ومكانتها مصححاً خطأ التاريخ أو معيداً تفسير الأسطورة.
وللتدليل على ذلك سنتناول واحدة من أشهر مسرحياته وهي مسرحية (سر شهرزاد) ([1]) لنرى كيف أعاد باكثير تفسير الأسطورة على نحو جديد يحفظ للمرأة كرامتها وعفتها وأمانتها. سر شهرزاد:لقد قرأ باكثير قصة ألف ليلة وليلة كغيره ممن قرأها، ولكنه توقف أمام الأسطورة التي قامت عليها وخلاصتها أن الملك شهريار كان يبني بفتاة عذراء كل ليلة ثم يقتلها في صبيحة اليوم التالي، وهو يفعل ذلك انتقاماً –بزعمه- من زوجته التي خانته مع عبد من عبيد القصر، وحين علم بذلك قتلها وقتل العبد وحلف أن يتزوج كل ليلة بفتاة عذراء ثم يقتلها في اليوم التالي انتقاماً من جنس النساء، حتى استطاعت شهرزاد بحكاياتها المسلية أن تحمي نفسها من هذا المصير.لقد وقف باكثير أمام هذه الأسطورة مدققاً متفحصاً ولم يرقه هذا الاتهام الخطير للمرأة أنها خائنة غير مؤتمنة على عرضها.
فجعل يقلب هذه الأسطورة وجهاً لظهر ويناقش تفاصيلها ليدلل على تهافتها وعدم منطقيتها، فقد أخذ يتساءل قائلاً:"لماذا قتل شهريار زوجته الأولى؟ ألأنها خانته مع عبده الأسود؟ القصة تقول ذلك. ولكن لماذا خانته زوجته؟ ومع من؟ مع عبده الأسود؟ ألم تجد في رجال القصر من شاب جميل تصطفيه حبيباً لها؟ وهبها أغرمت بالعبد لانحراف جنسي فيها أليس الأشبه بمثلها أن تحتاط وتتحفظ حتى لا ينكشف أمرها لأحد من البلاط فما ظنك بزوجها الملك نفسه؟ وهبها فعلت ذلك فقتلها الملك لذلك، فلماذا أعلن هذه الفضيحة في الناس؟ أليس الأجدر به أن يسترها ولا يدع أحداً يعلم بها؟ أليس العرض الذي انتهك هو عرضه؟ أليس إشهار ذلك مما يغض من مقامه بين رعيته؟ أما كان يستطيع أن يقتلها ويزعم للناس أنها ماتت؟ وكم في ظلام القصور من جرائم ترتكب ونفوس تزهق وأعناق تقطع دون أن يعلم الناس عنها شيئاً. ثم ماذا يدفعه إلى أن يدخل كل ليلة بعذراء حتى إذا أدركها الصباح قتلها؟ القصة تقول إنه ينتقم من جنس النساء. ولكن أكان شهريار قاسي القلب إلى هذه الدرجة؟ ألم يبرد غليل انتقامه بعدما قتل عشرات منهن؟
ألم يجد بينهن واحدة تملك قلبه أو تأسر لبه أو تثير في نفسه الرقة والعطف؟ أكان من اليسير عليه أن يفضي إلى إحداهن ثم يسلمها إلى سيف الجلاد؟ وهبوا أن شهريار بهذه الصورة الشاذة المنكرة من القسوة وتبلد الحس وموت الشعور فكيف استطاعت شهرزاد أن تحمي نفسها من هذا المصير التعس؟ أبتلك القصص والحكايات التي ترويها له ليلة بعد ليلة؟ هكذا تزعم القصة. ولكن هل يعقل أن ملكاً بهذا الوصف وفي سورة غضب كهذا الغضب المزعوم يمكن أن يرده عن دأبه سماع هذه الحكايات كأنما هو طفل صغير في غاية السذاجة والبراءة؟ وإذا كان يبقى عليها ليسمع بقية قصة أو حكاية أعجبته منها فما الذي يمنعه أن يحملها على المضي في قصتها تلك حتى بعد أن يطلع الصباح؟"([2]).
وهكذا انتهت به هذه التساؤلات إلى أن يكتب مسرحية "سر شهرزاد" ويصل فيها إلى تفسير منطقي لعقدة الملك شهريار وهي أنه أصيب بالعنَّة نتيجة إفراطه في الخمر والنساء، فكان كل ليلة يتزوج بعذراء وحين يفشل في مواصلتها يقتلها لكي لا يفتضح أمره. وقد علمت شهرزاد بسره من طبيبه رضوان وتعاونت مع الطبيب على شفائه من علته فنالت بذلك حبه وعطفه فأبقى على حياتها.أما زوجة شهريار الأولى فإنها لاحظت انصرافه عنها ولكنها لم تكن تعلم بعلته، وظنت أنه زهد فيها ولم يعد يحبها. فدبرت حيلة بريئة لتثير غيرته عليها، فاتفقت مع قهرمان القصر على أن يحضر لها عبداً خصياً ليضبطه زوجها الملك عندها في مخدعها، حتى إذا ثار وغضب أعلنت له حقيقة تدبيرها وأنها فعلت ذلك لتثير غيرته فتجد سبيلاً لمعاتبته على هجرانه وظلمه لها. واستجاب القهرمان لطلبها ولكنه في اللحظة الأخيرة خاف من غضب الملك إذا علم باشتراكه في الأمر فأعلن له حقيقة التدبير الذي دبرته زوجته وأخبره أن العبد خصي لا أرب له في النساء. ولكن شهريار استغل هذه الفرصة ليجد له عذراً لقتل زوجته ظناً منه أنها تعلم بعجزه. وهكذا نجد باكثير يبرئ المرأة من تهمة لصقت بها لأكثر من ألف عام، ولا يبالي أنه إذ يبرئ المرأة فإنه إنما يلصق بالرجل أحط الصفات وأبشعها. ففي الأسطورة بشكلها القديم قد يجد المرء عذراً لشهريار فيما يقترفه من جرائم بحق فتيات بريئات لا ذنب لهن إلا أنهن من جنس المرأة التي خانته فكرَّهته في جنس النساء. أقول قد يجد المرء عذراً أو على الأقل دافعاً لجرائم شهريار تلك وإن كان انتقامه أكبر من الجريمة نفسها.
أما في الشكل الجديد للأسطورة من وجهة نظر باكثير، فنجد شهريار شريراً مجرماً يقتل زوجته الأولى مع علمه بطهرها وبراءتها، ولا يكتفي بذلك بل يشيع عنها أنها خانته مع عبده فيلوث سمعتها بعد أن لقيت ربها، لا لشيء إلا ليجد لنفسه مبرراً أمام الناس لقتل مئات العذارى البريئات لمجرد أنه فشل في مواصلتهن حتى لا ينفضح سر عجزه. أي إنسان يمكن أن يصل إلى هذا الدرك من الوحشية والانحطاط الأخلاقي؟ بل أي حيوان متوحش يمكن أن يفعل كل هذه الجرائم بكل برودة أعصاب؟ إن باكثير لا يبالي –كما قلنا- أن يلصق بالرجل كل تلك الوحشية والانحطاط في سبيل أن يبرئ المرأة وينقي ساحتها من تهمة ظلت تلاحقها مئات السنين.ولا يقف تقديس باكثير للمرأة عند هذا الحد، بل نجده يجعل شهرزاد تلك الفتاة الجميلة الناعمة تفلح في ترويض هذا الوحش الإنساني –شهريار- فتعالج مرضه وتشفي عقدته، وترَّوض وحشيته وتخلق منه إنساناً سوياً محباً للخير والجمال. فجعلته يكفِّر عن جرائمه بأن يدفع ديات العذارى اللائي اخترم شبابهن، بل وأن يعلن في الناس أن من لديه عذراء فليزوجها وعلى شهريار مهرها([3]).
وأخيراً فقد جعلته يتنازل عن الملك ويعتزم السياحة في الأرض اقتفاء لآثار السندباد الذي كانت شهرزاد تحدثه عنه:شهريار: خذيني معك بعيداً عن هذا القصر.شهرزاد: إلى أين يا مولاي؟شهريار: إلى حيث نقتفي آثار سندبادك البحري في مناكب الأرض !شهرزاد: (يغلبها الفرح) أحقاً يا حبيبي اعتزمت ذلك؟شهريار: إذا شئتِ يا حبيبتي ورضيتِ.شهرزاد: كيف لا أرضى وهذه أمنيتي الكبرى!([4]) دلالة العنوان:من اللافت للنظر أن باكثير قد اختار لمسرحيته عنوان: "سر شهرزاد". وقد أشكل ذلك على بعض الباحثين الذين تناولوا هذه المسرحية بالدراسة إذ رأوا أن الأولى بباكثير أن يسمي تلك المسرحية "سر شهريار" لا "سر شهرزاد" إذ إنه استطاع في تلك المسرحية أن يكشف السر الذي كان يحدو بشهريار إلى قتل العذارى في صبيحة ليلة بنائه بهن([5]).
والذي أراه أن باكثير اختار هذا العنوان لسببين، أحدهما أنه أراد أن يجعل اسم شهرزاد على العنوان لأنها هي محور القصة وهي التي أراد أن يبرئها من تهمة معيبة لصقت بها، وثانيهما أنه أراد أن يقول أن سر شهرزاد أعظم من سر شهريار، ذلك أنه بغض النظر عن السر الذي كان يجعل شهريار يقتل في كل صباح فتاة بعد ليلة من بنائه بها، سواء كان ذلك انتقاماً من جنس النساء أو حفاظاً على سر عجزه أو لأي سبب آخر، فإن السر الأعظم هو كيف استطاعت شهرزاد أن تنجو من هذا المصير؟ ما هو هذا السر الذي جعل شهريار يتوقف عن ارتكاب هذه الجرائم بعد زواجه بشهرزاد؟ أهو حقاً حكاياتها الأسطورية؟ لا، إن باكثير يكشف عن سر شهرزاد الذي استطاعت به أن تشفي شهريار وتروض وحشيته، فاستحق هذا السر أن يحتل العنوان.وهكذا نفى باكثير عن المرأة تهمة لصقت بها لمئات السنين، فأعاد لها كرامتها، وأنزلها المنزلة التي تليق بها.
_______________________________________
[1] - قدمتها الفرقة المصرية الحديثة عام 1953م، أخرجها فتوح نشاطي ومثل البطولة فيها: أمينة رزق، أحمد علام، محمد الطوخي، ولاقت نجاحاً منقطع النظير، وترجمت إلى الفرنسية.
[2] - علي أحمد باكثير: فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية، مطبعة مصر، د. ت.، ص 53--54
[3] -علي أحمد باكثير: سر شهرزاد، مطبعة مصر، د.ت.، ص 122
[4] -السابق، ص 124
[5] -انظر: عبد الله الطنطاوي: دراسة في أدب باكثير، دار وبلد النشر غير مبين، 1397هـ/1977م، ص 22