أؤمن تماماً بأن الشعر ممكن أن يكون أيَّ شيء, قوقعة رمتها الأمواج في جزيرةٍ نائية , دمعة  تشكلت في محجرِ فقير ٍ بائس, رسالة كتبها طفلٌ على سرير أمه أثناء نومها, أو حتى فراشة وافتها المنية على بتلاتِ زهرة!  

أؤمن كذلك بأنه قد يكون مسرحية هزلية , أو رواية غامضة, أو أقصوصة ً قصيرة, أو حتى خربشات مراهق على كتاب الفيزياء المُضجر ...

 

أيضًا أؤمن بأنه قد يكون نثرًا, أو أغنية, أو تغريدًا صباحيًا على فنن الأشجار, أو حتى منهجًا فلسفيا !!

 

لست من ألئك الذين يأطّرون الشعر ببرواز القصيدة العامودية التقليدية, أو الذين يفسحون له المجال قليلا ليشتمل قصائد التفعيلة والقصيدة النثرية الحديثة, أو ممن يرجمون كل شعر لمجرد أنه لا يلجم كلماته بقافية, ولا يراقصها على وزنٍ ثابت.

 

فالشعر, تجربة إنسانية عميقة, ذات أبحارٍ عديدة, لا يمكن حصرها وعدها وإحصائها, الشعر فنً تشكيلي, رقصة ٌ متناغمة, مشهدٌ مُبتكر, لوحة ٌ فنية, وصوتٌ شجي, لا لغة َ له إلا لغة الشعر المشتقة من المشاعر الإنسانية السامية, يمكن له أن يكون هنديًا, فارسيًا, إيطاليًا, عربيًا, أو أعجميا.

 

لا أريد من أحد أن يحاول تغيير اعتقادي الراسخ هذا , وبالطبع لا أجبر أحدًا على اعتناقه! وكذلك, لا أريد من أحد أن يفسر كلامي هذا على أنه تمرد على الموروث الثقافي الراسخ في لغتنا, أو تطاول على المسّلمات اللغوية في أدبنا, فأنا أرى أن التراثَ جديرٌ بالاهتمام والعناية, وله منزلة ٌ تليق به في نفوسنا.

 

فمن أراد أن يتقفى آثار الأقدمين, ويتمرّس في نسج القصائد والمعلقات فله ذلك, ومن أراد أن يكتب شعرًا بالطريقة التي يريد فله ذلك.

 

المعيار الأهم, والهدف الأجمل, هو أن نشعر, أن نعبر, أن نتواصل.

 

أكتب مقالي هذا وأنا أتعرّف على نزار قباني الشاعر من خلال نثره, وكم منا يطرب لقصائده ويتغنى بكلماته, ويقتني دواوينه دون أن يطلع على الوجه الآخر لشعوره – شعره – .

 

بالرغم من اختلافي مع كثير من أفكاره, وتحفظي على العديد من عباراته, إلا أن ذلك لا يعني أن لا أقرأ له, فاللذة ومتعة الاستكشاف تكون في قراءة من نختلف معهم, لا في قراءة أفكار من نتفق معهم 100 % , نقرأ ونهز رؤوسنا مؤيدين ونتمتم بصمت: أممم صحيح صحيح.

 

بيّن يديّ الآن كتاب بعنوان (ما هو الشعر) من تأليف نزار قباني, لن ألخص لكم الكتاب, ولن أستعرض فصوله أو أعلق على بعض عباراته, ولكن سأترككم تحلقون في فضاء العبارات, تلك التي جنيتها لكم من هذا البستان الأدبي الزاهر, كتابٌ لا تستطيع أن تقرأه , كل ما تملكه بين دفتيه هو أن تنغمس, وتنغمس, في بحرٍ من الشعر لا قرار له ولا مستقر!

 

وأستطيع أن أعترف لكم باعتراف صغير قبل أن أضع لكم مختارات من الكتاب وهو أنني لا أستطيع أن أقرأ كتاب دون أن أمسك بقلم رصاص أحدد فيه العبارات التي أعجبتني وأدوّن الملاحظات التي خالجتني , ولكن مع الكتاب بالذات, ولأول مرةٍ في مسيرتي القرائية, أمسكُ أثناء القراءة قلمًا خشبيًا باللون الزهري! بالفعل, كان هذا الكتاب يشبه حديقة.

 

ولكم منه بعض الأزهار ...

 

يقولُ واصفًا الشعر:

 

(المعمرون يقولون أنه هبط من مغارة في رأس الجبل واشتر خبزًا وقهوةً وكتبـًا وجرائد من المدينة ثم اختفى .

وسكان الشواطئ يقولون ,أنه خرج من أعماق البحر , وأنه لعب طول النهار مع الأطفال والأمواج والأسماك الذهبية , ثم عاد إلى بيته البحري .

 

ونساء المدينة يقلن أنه دخل عليهن كعصفور ربيعي , فنقر من شفاههن , وعربش على ظفائرهن , ولعب بأسوارهن وعواطفهن ,وترك ريشه على شراشفهن ,وهز جناحيه وطار).

 

( ليس هناك نظرية للشعر,

كل شاعر يحمل نظريته معه).

 

(ما أسهل كتابة الشعر وما أصعب الحديث عنه,

الشعر هو الرقص, والكلام عنه هو علم مراقبة الخطوات!).

 

(الشعر هو الجنسية الواحدة التي يأخذها جميع شعراء العالم تلقائيًا , وكل محاولة لربط الشعر بالعرقية أو المذهبية أو بالسلالات أو بالتقسيمات الجغرافية أو بالطبقات الاجتماعية , هي لون من ألوان التمييز العنصري الذي لا يتفق مع أممية الشعر)

 

وعن القصيدة يقول:

 

(أنا ضد سيرك مدرانو في الأدب, حيث يرقص الأدباء رقصة الأفيال, ويمدون خراطيمهم إلى مقصورة الحاكم ليضع فيها موزة أو تفاحة!).

 

(نحن بحاجة إلى شاعر لا ينحني في حضرة الخليفة, وإنما ينحني الخليفة في حضرة شعره).

 

 

يعرّف نفسه فيقول:

 

(أنا شاعر لا يزال يفتش عن الحرف التاسع والعشرين في الأبجدية العربية ,

الحرف التاسع والعشرون هو الكنز المسحور الذي مات ألوف الشعراء قبل أن يكتشفوه , وسيموت ألوف الشعراء على أمل اكتشافه).

 

(أنا رجل يصحو وينام ويكتب على ضفاف الجرح العربي المتقيّح منذ سقوط الدولة العباسية حتى اليوم).

 

(من أراد الحصول على معلومات أكثر سريّة عني فسيخيب ظنه , لأنني مكشوف كالكف وليس عندي بضاعة للعرض وأخرى للتهريب,

كسماء البحر الأبيض المتوسط أنا, أمارس الشعر كما أمارس الحب في الهواء الطلق).

 

يسأل نفسه لماذا أكتب, ثم يجيب:

 

(إنني أكتب لتصبح مساحة الفرح في العالم أكبر , ومساحة الحزن أقل ,

أكتب لأغير طقس العالم وأجعل الشمس أكثر حنانًا , والسماء أكثر زرقة والبحر أقلُ ملوحة ً

 

أكثر ما أعجبني:

 

(مادامت هناك سنبلة قمح تجد صعوبة في فهم الشعر , فسأذهب إليها في الحقل , وأقرأ لها الشعر قبل أن تنام ,

ومادام هناك قطة واحدة في شوارع الوطن العربي  لا تهتم بالشعر , فسوف أضعها على حضني , وأطعمها اللوز والفستق , وأسمعها قصائد الغزل حتى تستيقظ أنوثتها ,

 

ومادام هناك تلميذ واحد في المدارس العربية , يخوّفونه بالشعر الجاهلي , ويعاقبونه بحفظ بعض النماذج التي لا تُعْصر ولا تُكْسر , فسأبدد مخاوفه وأمسح دموعه , وأجعله صديقي وصديق الشعر

 

وأخيرًا , مادام هناك مواطن عربي واحد لم يستطيع أن يحضر أمسية شعرية لي , لأنه لا يملك أجرة أوتوبيس , فسوف أحمله على كتفي , لأنني لا أستطيع أن أبدأ الشعر إلا به , ولا أستطيع أن أنتهي إلا به)

 

(إن الشعر هو السفر داخل الإنسان , والشاعر هو ذلك المسافر الأبدي في النفس الإنسانية)

 

(أبحث عندما أكتب عن لغة تكون القاسم المشترك  بيني وبين جيل عربي لا أعرفه , وعن ملايين العقول التي لم تتشكل بعد , ولكنها سوف تتشكل بصورة حتمية , داخل الشعر ... وداخل الثورة)

 

يكشف لنا بعض أسراره بقوله:

 

(لكي تكون مدهشًا – شعريًا على الأقل – لابد أن تحدث خللاً في ترتيب الأشياء والكلمات, لابد أن ترمي حجرًا في بئر الكلام العادي , وتحدث اضطرابًا في الأبجدية, وتبعثر أوراق الروزنامة ,

القصيدة الجميلة هي انتظار مالا يُنتظر!)

 

يترجم حبه لجمهوره عندما يقول:

 

(في أعقاب كل أمسية شعرية ناجحة أذهب إلى سريري وأبكي ,وربما كانت دموعي هي الرسائل السرية التي أبعث بها إلى تلك العيون الطيبة , التي لا أعرف أصحابها ولكنني أعرف أنهم صنعوا من أهدابهم عباءة الشعر التي ألبسها,

 

في نهاية كل أمسية شعرية لا أنفش جناحي كديك, وإنما أسأل الله أن يقويني ويشرح لي صدري ويحلّ عقدة من لساني, لأكون في المرة القادمة أكثر اقترابًا من هموم الناس)

 

(الجمهور ليس سجنًا, ولا مشنقة, ولا معسكر اعتقال,

إنه حصان عربي ذكي, إذا عرفنا كيف نتعامل معه ربحنا السباق, وإذا لم نعرف طباعه رمانا على الأرض وداس علينا)

 

(هناك شاعر يعجبه التوالد, وشاعر يفضل العقم على كثرة الإنجاب, والجمهور في معناه الحقيقي ليس سوى مجموعة من الأولاد الذين يأتوننا عن طريق الشعر, فيحملون أسمنا ويضمنون استمرارنا في الزمان والمكان).

 

كالطائر, يهوى أن يكونَ طليقا:

 

(في العمل الإبداعي لا أسمح لأي سلطة أن تجلس على أصابعي وتملي علي ماذا أكتب, وكيف أكتب, فالقصيدة التي لا تستطيع أن تتجول في كل الاتجاهات هي فأرة في مصيدة)

 

(أريد أن أذهب إلى حيث يذهب المطر, أريد أن أفتح مدرسة ً للحب, في كل المناطق العربية التي مازالت تعيش أمية العواطف,

أريد أن لا يبقى على أرض الوطن العربي نهر تحت القمع, أو شجرة تحت القمع, أو عصفورة تحت القمع أو كتاب تحت القمع)

 

يغضب:

 

(صعب أن أحدد لك حدود غضبي , فطالما أن مقص إسرائيل يقص كل يوم جزءًا من تاريخي, وجزءًا من جغرافيتي , وجزءًا من كتب ودفاتر وأوراق أولادي,

وطالما أن جثث الأطفال العرب الذين تحصدهم طائرات ف 16 تطفوا كل صباح على وجه فنجان قهوتي , فإن غضبي بحرٌ لا ساحل له)

 

ينحني ويقول في الوريّقات الأخيرة:

 

(كلمة الخلود كلمة دراماتيكية جدًا, وأنا لا أشغل بالي بالخلود بقدر ما أهتم بالوجود,

 مادمت قادرًا على تغطية المساحة العاطفية للعصر الذي وجدت فيه فهذا أمر جيد, أما العصور القادمة فلها شعراؤها !)

 

 

شكرًا نزار : )

أتحت لي إبحارًا زاخرًا في فلسفاتك ...

 

تلك بعض الاقتباسات لأهم ما أعجبني ووافق أفكاري, على العلم بأنني قمت بالتصرّف في بعضها بشكل يسير جدًا , لوجود بعض الكلمات التي لا أحبذ استخدامها , أو لوجود بعض العبارات التي لن تغيّر المعنى الذي أود إيصاله أو تضيف له.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية