منذ البدايات، لجأ الشاعر العربي في نظمه إلى الشكل العمودي في العرض والتزم بالروي الموحد من مطلع القصيدة إلى نهايتها تكريسا لتقليد شعري شاع في العصر الذهبي للشعر العربي وخفت بعد ذلك.

I/- العنوان الذهبي من العصر الذهبي:


منذ البدايات، لجأ الشاعر العربي في نظمه إلى الشكل العمودي في العرض والتزم بالروي الموحد من مطلع القصيدة إلى نهايتها تكريسا لتقليد شعري شاع في العصر الذهبي للشعر العربي وخفت بعد ذلك. هذا التقليد كان بديلا عن اختيار عنوان للنص الشعري من قبل المبدع الذي كان يكتفي بقول الشعر فقط على أن يتدخل المتلقي بعد دلك لعنونة النص بالتركيز على إحالتين: الإحالة الأولى على حرف الروي الذي يميز قصيدة عن أخرى؛ أما الإحالة الثانية فإلى اسم الشاعر ناظم القصيدة. فباستثناء "المعلقات"، تعرف القراء عبر التاريخ على قصائد الشعراء، ومن ضمنهم القصائد "الأخرى" لشعراء "المعلقات"،  بربط روي القصيدة باسم شاعرها. وبهده الطريقة في صك العناوين، كانت"لامية" السموأل الأزدي ومطلعها:

 

إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ
    

فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَمــــــــيلُ

وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها
    

فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبــيلُ

 

و"تائية" الشنفرى التي اعتبرها الأصمعي أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن ومطلعها:

 

أَلاَ أُمُّ عَمْروٍ أَجْمَعَتْ فاسْتقَلَّتِ
    

وما وَدَّعَتْ جِيرانَها إِذْ تَوَلَّـتِ

وقد سَـبَقَتْنَا أُمُّ عَمْروٍ بـأَمـرِها
    

وكانت بأَعْناقِ المَطِيِّ أَظَلّـَتِ

 

و"رائية" الخنساء:

 

قـــذى بـعـينـك أم بـالعين عــــُوار
    

أم أقفرت إذ خلت من أهلها الـــــدار

كـأن عـيني لـذكـراه إذا خـطــرت
    

فيضٌ يســـيل على الخــدين مــدرار

تبكي خناس على صخر وحق لها
    

إذ رابها الدهر إن الـــدهر ضـــرار

لا بــد مـن ميتة في صرفـها عــبر
    

والدهر في في صرفه حول وأطوار

 

و"جيمية" جرير التي خص بها الحجاج بن يوسف الثقفي ومطلعها:

 

هاج الهوى بفؤادك المهتــاج
    

فانظر بتوضح باكر الأحداج

هذا هوىً شغف الفؤاد مبرح
    

ونوىً تقاذف غير ذات خلاج


وخاتمتها:

 

إني لمرتقبٌ لِمَا خوفتـــــني
    

ولفضل سيبك يا ابن يوسف راجي

ولقد كسرتَ سنان كل منافق
    

ولقد مــنعت حــقائب الحـــــــــجاج

 

و"ميمية" المتنبي:

 

وَاحــَرّ قــَلْباهُ مــمّنْ قــَلْبُهُ شَبِمُ  
    

وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ

ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدي  
    

وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ

 

و"سينية" البحتري:

 

صنت نفسي عما يدنس نفســي
    

وَتَرَفَّعتُ عَن جَدا كُلِّ جــِبسِ

وَتَماسَكتُ حينَ زَعزَعَني الدَهـ
    

ـرُ التِماسًا مِنهُ لِتَعسي وَنَكسي

 

و"نونية" ابن زيدون:

 

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا
    

وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا

ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا
    

حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا

 

كما ميزت العرب بين القصائد ذات نفس القافية، فكانت"لامية العرب" للشنفرى تمييزا لها عن "لامية العجم" للطغرائي:

 

أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُــــــــدُورَ مَطِيِّـكُمْ
    

فَإنِّـــي إلى قَــــوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْــيَـلُ

فَقَــدْ حُمَّـتِ الحَـاجـَاتُ وَاللَّيْــــلُ مُقْمِـرٌ
    

وَشُـدَّتْ لِطـــِيّـاتٍ مَطَايَـا وَأرْحــُلُ

وفـي الأَرْضِ مَنْــآَى لِلْكَرِيمِ عَنِ الأَذَى
    

وَفِيهَا لِـــمَنْ خَافَ القِلَـى مُتَــعَـزَّلُ

لَعَمْرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيقٌ على امْرِىءٍ
    

سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ يَعْقِـلُ

 

و"لامية العجم" للطغرائي، لانتسابه إلى أصبهان:

 

أصالةُ الرأي صانتني عن الخطلِ
    

وحلـــــيةُ الفضــلِ زانـتني لــدى العَطــَلِ

مــجدي أخيراً ومجدي أولاً شَرعٌ
   

والشمسُ رَأدَ الضحى كالشمس في الطفلِ



II/- إِغْرَاءُ ذَهَبِ شعر العَصْرِ الذَّهَبِي في الأدب العربي:

 

إزاء هدا التقليد الجميل الغابر، تملك المحدثين من الشعراء حنين قوي إلى ثقافة الماضي الشعري الذهبي في الأدب العربي. فقد نظم أحمد شوقي قصيدته الجميلة "الأندلس الفردوس المفقود" الذي يبقى العنوان الأصلي الذي اختاره الشاعر لقصيدته لكن قراءه أبوا إلا أن يضعوا القصيدة في مرتبة روائع الشعر العربي فغيروا عنوانها إلى "سينية شوقي":

 

اخـتلاف النهــار والليل ينســي
    

اذكرا لي الصبا وأيام أنســي

وصفــا لي مــلاوة من شبـــاب
    

صورت من تصورات ومس

عصفت كالصبا اللعوب ومرت
    

سنــــــة حلــوة ولــذة خلــس

 

أما محمد مهدي الجواهري  فقد ذهب قراؤه أبعد مما ذهب قراء أحمد شوقي. فقد لقب محمد مهدي الجواهري ب"شاعر العرب"، استلهاما للتقليد الشعري القديم. كما سميت قصيدته عن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ب "القصيدة العينية". ولأنها أفضل ما كتب في حق  الإمام الحسين، فقد كتبت بماء الذهب، على طريقة عشاق الشعر العربي في مرحلة ما قبل الإسلام،  في الرواق الحسيني ومطلعها:

 

فِداء  لِمثواكَ  مِنْ   مضجَعِ
    

تَنوّرَ     بالأبلَجِ     الأروعِ

بِأعبَقَ مِنْ  نَفحاتِ  الجِنانِ
    

رُوحاً وَمن  مسكها  أضوَعِ

 

أما محمود درويش فقد دهب أبعد من الجميع. لقد حافظ الرجل على شكل عرضه الشعري الحر لكنه سمى قصيدته ذات الألف ومائة وأربعة وتسعين بيتا (1194 بيتا)  "جدارية" استحضارا لدلالة "المعلقة" في التراث الشعري العربي الجميل.

 

IIّI/-  المَدْرَسَةُ "الحَائِيَةُ" ديوان الغد القصصي بِرَوِي "حَائِي":



في كل جنسيات العالم وعلى مر العصور، يندر العثور على كاتب في مجال السرد، مجال القصة القصيرة أو الرواية، جرب قرض الشعر ونجح في دلك. الشعراء وحدهم كان ولا يزال السرد يمثل لهم "إغراء لا يقاوَمُ": منهم من توفي وفي قلبه غُصّة كتابةِ عمل سردي كالشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومنهم من بدأ شاعرا ثم هاجر نهائيا إلى السرد كالروائي المغربي الطاهر بنجلون، ومنهم من راوح بين الكتابة الشعرية والكتابة السردية كالشاعر والروائي الفرنسي فيكتور هوغو.

 

لكن على الرغم من ضعف الهجرة من السرد إلى الشعر، يبقى الشعر بوصلة ثابتة في الكتابة السردية وفي المعجم السردي. فالكاتب، قاصا أو روائيا، لا زال يستقي "قوته" و"معجمه" من مجال الشعر ولا زال ينحث مفهوم "القصة القصيرة ديوان المغاربة" على وزن "الشعر ديوان العرب"؛ كما لا زال يزِنُ "المدرسة الحائية" على وزن "القصيدة اللامية" و"القصيدة الرائية" و"القصيدة الحائية".


إن الاحترام الكبير اتجاه  الأدب عموما وفن القصة القصيرة تحديدا، والنضال الجاري خوضه لإعلاء شأن الكلمة الحرة الكريمة كمضامين للقصة العربية الغدوية، تناسبه استعارة هده التقنية الجميلة المضيئة من غابر التراث الشعري العربي الجميل في عنونة النصوص والأعمال والمشاريع الإبداعية. ولأن هدا النضال بدأ قبل ثلاث سنوات مضت (2006-2007-2008) بالتعبئة العامة بين أعلى مراتب إنتاج الكلمة في الوطن العربي، الكُتّاب، بهدف تغيير طريقة التفكير والتعبير المكتوب في مجال الإبداع السردي العربي على الخصوص باقتحام الدوائر المعتمة الثلاث، الحرية والحلم والحب، التي عرفت مجتمعة تحت شعار "الحاءات الثلاث"؛ فقد صارت "الحاء" لازِمَة أو رَوِياً في التنظير القصصي الجديد كما في الكتابات القصصية الجديدة أكانت "حاء حرية" أو "حاء حلم" أو "حاء حب".

لقد صارت "الحاءات الثلاث" قافيةَ "المدرسة الحائية"، مدرسة القصة العربية الغدوية.

كاتب مغربي
محمد سعيد الريحاني كاتب مغربي، عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو هيئة تحرير «مجلة كتابات إفريقية» الأنغلوفونية. حاصل على شهادة الدكتوراه في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2021. وحاصل على شهادة الماجستير في الكتابة الإبداعية من كلية الفنون الجميلة بجامعة لانكستر بإنجلترا، 2017.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية