الإنسانية،ومن ثم لا يجب تجاهل الفاعلية الأيديولوجية للنص،من منطلق أن هذه الأخيرة ليست مسألة نظرية وحسب،بل هي تخضع لفعل قوانين أكثر شمولية من حيث طابعها الاجتماعي([1])وقد أهتم اليونانيون القدامى بتحديد وظيفة الشعر،أو شعريته من خلال الشكل الأرقى (لنظرية المحاكاة)،ثم ما لبثت أن تطورت هذه الوظيفة وفق كل النظريات التي تلت،في قالب أقرب ما يكون إلى الأيديولوجية بطابعها الاجتماعي والفلسفي.
1- الأدبية ونظرية المحاكاة.لقد كان اهتمام (نظرية المحاكاة) قد انصب حول ما يتركه الشعر من أثر في المتلقين -والذين هم فئة مقصودة في المجتمع اليوناني-من خلال الملحمة والكوميديا أو التراجيديا، ومن ثم ركزوا اهتمامهم على هذه الأخيرة (التراجيديا)،ورسموا طريقة جيدة لكتابتها باعتبارها وسيلة مثلى لبلوغ الغاية التي تصورتها الفلسفة اليونانية،والتي تكمن في المجتمع المثالي،حيث إن "التمثيل لا يقصد إلى محاكاة الأخلاق ،ولكنه يتناول الأخلاق عن طريق محاكاة الأفعال،ومن ثم فإن الأفعال والقصة هي غاية التراجيديات والغاية هي أعظم كل شيء،ثم إنك لا تجد تراجيديا قد خلت من محاكاة فعل، ولكنك قد تجد تراجيديا خالية من محاكاة الأخلاق"([2])أي أن التراجيديا تحاكي الحركة وليس الشخص،حيث أن حركته هي سعادته وشقاؤه..ومن خلال ذلك نتبين أن الأدب اليوناني كان يتبنى (شعرية المثل)،ويهتم بالمجتمع بالدرجة الأولى وأخلاقياته، ولم يعر أي اهتمام لذاتية الشاعر أو المبدع وعواطفه وانفعالاته، وخيالاته، أو إيمانه وانتمائه الاجتماعي، وتعامل مع الأدب على أنه في أرقى أوجهه هو ذلك الشكل أو القالب ذو المهمة الدائمة ، وعلى الأمم أن تصب في ذلك القالب ما تشاء في أي زمان أو مكان ،ومن ثم كانت (شعرية النص) الشعري التراجيدي، تعتمد على الشكل، إذ يشترط فيها أن تتكون من مقاطع متنوعة، محدودة الطول، أكثر تعقيدا من الملحمة، تلقى أمام المشاهدين، وتستعين بالتمثيل وبالجوقة،في محاكاتها لأفعال العظماء،([3]) . ولا تقيم اعتبارا للفردانية مع أن الملكة للأفراد ولكن عليهم تسخيرها لخدمة المجتمع ، معتمدين في ذلك على الصنعة، للتوصل إلى تأليف أدبي ممتاز وفعال، لا يتجاوز الحدود النظرية الصارمة، ويلبى ما تتطلع إليه الغاية الكبرى من الأدب (التطهير)،الذي يعني التخلص من عاطفتي الشفة والخوف،اللتان تفسران بكونهما عاطفة الإنسان تجاه غيره(الشفقة)،وعاطفة الإنسان تجاه ذاته(الخوف)وهما العاطفتان المتأصلتان والأصليتان لدى الإنسان،أراد المنطق الأرسطي أن يمنحهما نماء متوازنا من خلال نظرية المحاكاة([4]). ولكن مع كل ذلك فإن شعرية النص اليوناني القديم ،والكلاسيكي عموما، تكمن في الجوهر الفني، والجمالي للعمل الأدبي، والإغراءات التي يستطيع المؤلف المبدع تمريرها، من خلال عمله ليتلقفها المتلقي، مدعوا للتلذذ بها وبالنص أو الخطاب من خلال بناه المنظومة، وانزياحاته التي تذهب بخياله في كل اتجاه، ويعود ذلك إلى حذق المؤلف ومهارته وجدارته ومدى تحكمه في خامة الإبداع الشعري ألا وهي اللغة.
هكذا أرسى المنطق الأرسطي شعرية المحاكاة، جاعلا للعمل الأدبي -لا سيما الترجيديا- وظيفة قدسية،"من خلال تنمية عاطفتي الشفقة والخوف،(……)ولكي تؤدي التراجيديا، وظيفتها على أكمل وجه، فمن الضروري بأن تكون الحبكة التراجيدية معقدة وفيها تغير على نحو غير متوقع(المفاجأة) وأن يكون لها بداية ووسط ونهاية."([5]) إلا أن الفلسفة الأرسطية التي رسمت قواعد شعرية المحاكاة والتطهير منذ القرن الرابع قبل الميلاد، والتي ظلت مسيطرة على الحركة الأدبية والنقدية الأوربية حتى أواسط القرن الثامن عشر، ما لبثت أن هبت عليها رياح التغيير التي هزت البنية الاجتماعية، والثقافية والاقتصادية إثر النهضة الصناعية التي شهدتها أوربا تحت عوامل تاريخية معروفة.
2- الأدبية ونظرية التعبير لقد خرجت إلى الوجود نظرية بديلة، بثتها فلسفة تؤمن بالفردانية، وتجعل من الفرد عالما قائما بذاته، له جوهر قوامه الشعور والوجدان والعاطفة، وله كامل الحرية للتعبير عن ذاته،وله الحرية في التفكير والعمل،حيث"نجد أرسطو حريصا على أن ينص أن الشاعر حرّ في انتخاب موضوع المأساة"([6])إلا أن هذه الحرية المقصودة مآلها إلى الموضوع الأساس وهو المحاكاة،لكن النظرية التي قامت على أنقاض المحاكاة الإغريقيةهي (نظرية التعبير) التعبير عن الذات التي طالما سلبته إياها النظرية الكلاسيكية، حيث كان شعار هذه النظرية " دعه يعبر عن ذاته "([7])كما كانت الليبرالية الاقتصادية تقول:دعه يعمل دعه يمر.
وبالتالي سقطت شروط الفردانية الكلاسيكية المتمثلة في(العائلة،والملكية والنسب،والجاه والسلطان)التي من دونها لا يعترف بالفرد مهما أوتي من قوة جسديةأو عقلية،وحل محلها الكفاءة الفردية بغض النظر عمن يكون صاحبها في إطار فلسفةالمثالية الذاتية، التي رأت أن الوجود الأولي كان للذات الإنسانية، أما العالم الموضوعي فهو من خلق هذه الذات، وما دامت الذوات تتغير، فإن كل منها قادر على أن يخلق العالم الموضوعي على صورة خاصة، وهذا يعني أن الذاتي يخلق ويبدع الموضوعي، وأن العالم الداخلي للذات العارفة هو أساس ومرجع صورة العالم الخارجي لديها،وبما أن الأمر كذلك فلا بد من تقديم الوجدان والعاطفة و الأحاسيس على العقل والخبرة والتجربة. والفن في هذا السياق ما هو سوى تعبير عن الصورة الخاصة للعالم، أي الصورة التي ابتدعتها الذات معتمدة الشعور والوعي العاطفي وكمال التعبير([8]) ومن ثم تكتمل شاعرية الذات وقدرة التصوير الخاص دون عائق شكلي أو معياري في ظل الفلسفة الهيجلية ، التي فصلت بين المعرفة العقلية، والمعرفة الحسية،والفلسفة الكانتية التي فسرت الفن من زاوية الفنان.
وقد اهتمت (نظرية التعبير) بالفرد المبدع وأهملت الأسلوب والشكل الفني ، أو بتعبير آخر، تراجعت شعرية العمل الفني الأدبي من حيث بنيته اللغوية ،والعلاقات الداخلية المابينية،والأسلوب البلاغي في الخطاب، في حين قدست الذات وبجلت حتى صار الإنتاج الأدبي مجرد مرآة عاكسة، أو كف تقرأ لرصد العلامات الدالة على حال المؤلف أو المبدع الداخلية(النفسية) وإسقاطها على البيئة الخارجية (العالم الموضوعي) أو كما يقول شكسبير في مقدمة أحد دواوينه:" إن كل شعر جيد هو فيض تلقائي لمشاعر قوية"([9]).وفي آخر المطاف بين نظريتي المحاكاة والتعبير، نتوصل إلى أن كلاهما كانت تبحث عن شعرية راقية، ولكن بطرق مختلفة، فبينما تضع نظرية المحاكاة قواعد وقوانين وتعليمات لابد للمبدع من اتباعها، فإن نظرية التعبير تمثل التمرد على كل القوانين والقواعد والنظم ،وقدمت "النص الأدبي أو الكتابة على أنها تعاقد حرّ كريم بين الكاتب والقارئ،أساسه المواجهة بين حريتيهما،وبالتالي ليس أمام الكاتب بوصفه حرا يتوجّه إلى أحرار إلا موضوع واحد:هو الحرية،...وعليه فالمجتمع الذي على الكتابة أن تحقق فيه ماهيتها ،هو المجتمع اللاطبقي"([10])واهتمت بالذات والفردانية والعواطف والانفعالات ،فمن شعرية الشكل إلى شعرية المضمون، ومن شعرية المجتمع المثالي إلى حرية الفرد.
3- الأدبية ونظرية الخلق.وعلى إثر الانحطاط الفكري والسياسي والثقافي، في ظل (نظرية التعبير ) ،حيث صيرت الإبداع والفن سلعة رخيصة، ظهرت إلى الوجود (نظرية الخلق) كردة فعل طبيعية ، تنادي بالفن الخالص ، الذي يرفض أن يوظف لصالح (العلم والدين والأخلاق ،والمجتمع) وهي لا تخرج عن الفلسفة المثالية، الذاتية، ولكنها تبنت شعرية خاصة بها ، تعتبر أن العمل الأدبي"كائن خلقه الأديب من ذاته، ووسيلة الخلق هي اللغة، فعملية الإبداع الأدبي، عملية خلق حر، وجوهر الأدب هو الصياغة والتشكيل"([11]) والجوهر هنا هو ما نصر على تسميته (شعرية النص) أو (شعرية الخطاب ). التي تفترض تجربة شعرية ،لها قوانينها ، ترضي الخيال ،ليس بالضرورة أن تمتلك الحقيقة، أو كما يرى أ. س برادلي:"الحياة تمتلك الحقيقة، ولا ترضي الخيال، أما الشعر فإنه يرضي الخيال ولا يمتلك الحقيقة الكاملة ، لذا فالشعر ليس هو الحياة ، بل هما ظاهرتان متوازيتان لا تلتقيان"([12])ثم إن نظرية الخلق لاترى شعرية الشعر في الموضوع الذي يتناوله الأديب إنما ترى أنها تعود بالدرجة الأولى إلى الأديب نفسه، وقدراته الفنية والإبداعية، ومدى سيطرته على تجربته وتمكنه من عناصر اللغة، كما أن الشعور والمشاعر والعواطف ليست هي سر شعرية العمل الفني أو جودته، بحيث إن "الشعر ليس انفجارا للانفعال وإنما هو فرار من الانفعال،وليس هو تعبير عن الشخصية ،إنه فرار من الشخصية،ولكن هؤلاء الذين ينفعلون حقا ولهم شخصية هم وحدهم الذين يقدرون ما هي الرغبة في الفرار من كل هذا"([13])ذلك لأن هناك أعمال تكتب في موضوع واحد وتجربة واحدة، ومناسبة واحدة ، وتصدر عن عاطفة واحدة، لكنها تتفاوت في جودتها، والسبب يعود إلى قدرة الشاعر على الخلق الفني (الشاعرية) ،التي تأتي اللغة كمادة يتحكم فيها الشاعر باعتبارها وسيلة للخلق، مع ما يضفيه عليها من روحه وذاته.([14])
4- الأدبية والواقعية.مع ظهور الفلسفة الواقعية ،برزت إلى الوجود (شعرية الواقع)،المادي التى ثارت في وجه النظريات الفلسفية السابقة لها (المحاكاة ، التعبير ،الخلق) وفسرت أن أشكال الوجود الاجتماعي أسبق من أشكال الوعي،وأن الظاهرة الأدبية جزء من الظاهرة الثقافية والاجتماعية،وبالتالي فهي انعكاس للواقع ،وتعتبر المتلقي قارئ ومشارك في عملية الإبداع ،وليس متمتع وحسب ، وعلى عكس النظريات السابقة التي اهتمت بعنصر واحد من عناصر الظاهرة الأدبية - حيث نظرية المحاكاة كان همها الوحيد هو المتلقي ، أما نظرية التعبير فاهتمت بالمبدع وقدست مشاعره ،ونظرية الخلق هدفت إلى النص أو العمل الإبداعي فقط- فإن الواقعية لملمت كل الجوانب التي تعرفها الظاهرة الأدبية ، ولعل ذلك ما كتب لها النجاح والبقاء زمنا أطول وحشد لها أنصارا كثرا، وفلسفة الواقعية في المضمار الأدبي،رأت أن الأدب انعكاس للواقع الاجتماعي، أي أن الأعمال الأدبية دائما ذات صلة بالواقع،ولكنها ليست دوما واقعية ،ويمكن تسميتها (شعرية الانعكاس ) أيضا.ويذهب آخرون وعنهم (هيبوليب تين) إلى أن الفن جوهر التاريخ،وخلاصته وهو يعبر عن الحقيقة التاريخية،حقيقة الإنسان في زمن معين ومكان معين،وبذلك فالأعمال الفنية ومنها الأدب ما هي إلا وثائق تاريخية وآثار،والأدب عنده صورة للبيئة لكونه يعكس أثر العلاقات الاجتماعية،وبنية المجتمع([15]).
_____________________________________________
[1] -ينظر: إبراهيم علي،المجال الأدبي والمجال الأيديولوجي،مقال،دفاتر المركز،رقم 7-2004،منشورات (crasc) جامعة وهران،ص58.
[2] شكري عياد ،أرسطو طاليس في الشعر،دار الكتاب العربي،القاهرة،1967،ص52.
[3] - ينظر : شكري عزيز الماضي،في نظرية الأدب،ص 45.
[4] -ينظر:عبد المنعم تليمة،مقدمة في نظرية الأدب،ص157.
[5] -شكري عزيز الماضي، المرجع السابق،ص44.
[6] - سهير القلماوى،فن الأدب ،المحاكاة،مكتبة الحلبي،القاهرة،1953،ص105.
[7] - المرجع السابق ،ص 50.
[8] -ينظر: عبد المنعم تليمة ،مقدمة في نظرية الأدب،دار الثقافة،1976،القاهرة،ص194.
[9] - شكري عزيز الماضي،في نظرية الأدب ، ص55.
[10] إبراهيم علي،المجل الأدبي والمجال الأيديولوجي،مرجع سابق،ص56.نقلا عن :جون بول سارتر،ما الأدب،تر:محمد غنيمي هلال،دار نهضة مصر، القاهرة،ص63.
[11] - شكري عزيز الماضي،م،س ،ص69.
[12] المرجع نفسه ،ص 71.
[13] - سهير القلماوي،فن الأدب ،المحاكاة،ص139.
[14] - ينظر : المرجع السابق،ص 73.
[15] عن: محمد عبد السلام كفافي،في الأدب المقارن،دار النهضة العربية،بيروت،1972،ص52.