إذا تدرجنا من إشكالية الرواية العربية المعاصرة، واستحقاقيتها لأن تكون الجنس الأدبي الأقدر على التعبير عن علاقات الإنسان الحديث المعقدة، سواءً على صعيد الذات أو على صعيد فهم الآخر والكون؛ يتوجب علينا الخوض في عدد من التساؤلات التي تتزاحم بذهن القارئ، من مثل: هل الأنا العربية تتناقض مع الآخر؟ هل الأنا تمثل الصديق، والآخر يمثل العدو؟ هل هناك صراع حتمي بين الأنا والآخر، أم تآخٍ وتكامل بينهما؟

 

    يبدو -من الوهلة الأولى  -أن الرؤية ما تزال تغشاها ضبابية حتمية، حيث الأنا لم يلبث يبحث له عن وجود في الآخر، سيما وأن "الأنا" لا تتجلى ذاتيته إلا بوجود الآخر، فالصراع أو –بالأحرى- اللقاء بين"الأنا" و"الآخر" يظل حتمية قائمة في ظل الـ"هنا" والـ"هناك"، حيث يبقى هذا اللقاء رهين إحساس مزدوج (الانجذاب/النفور)،(التوافق/الاختلاف).

 

      وإذا كانت العلاقة بين "الأنا" و"الآخر" هي الخيط الناسج للنص الإبداعي، "فبديهي أن صورة الآخر ليست هي الآخر، فصورة الآخر بناء في الخيال، وفي الخطاب الصورة ليست الواقع، حتى وإن كان الصراع حولها من رهانات الواقع"[1]. ومن ثمة فالأنا والآخر صورتان قابلتان للتغيير والتعديل، حيث"الأنا" هو نسق تصوّري تطوّره الكائنات البشرية، سواء أكانت أفرادًا أم جماعات، فيما هو الآخر عبارة عن مركب من السمات الاجتماعية، النفسية، الفكرية والسلوكية التي ينسبها فرد مّا، أو جماعة مّا إلى الآخرين، ويذهب جيمس آهو(James Aho) إلى أن "دنيا الحياة كالتحام أشياء ذات خصائص محددة، وهنالك بين هذه الأشياء وقبل كل شيء"أنا" وما هو"ليس أنا" ويتكون الأخير من أشياء طبيعية وأشخاص يدعون "أنت"[2].

 

       وإذا عدنا إلى جدلية الأنا والأخر في النص الروائي العربي، نلمس أن الآخر يبقى في معظم النصوص الروائية العربية عدوانيًّا بدرجة أولى، إذ لا توجد علاقة بالآخر إلا على قاعدة غالب ومغلوب، فمن الواضح أن "الآخر" هو "تعبير عام يغطي الحالات التي يعترف فيها بالاختلافات اللغوية والثقافية الأخرى، والتي تشكل الأساس لهوية "النّحن"، والاختلاف هنا هو في دائرة "التعريف" كعلاقة عداء وعنف بين "نحن"و"هم""[3]، حيث إن التمييز بين "نحن" و"هم" كان يجري التعبير عنه بمفاهيم من نوع "صور العدو"، "الآخر" و"العدو".

 

       وقد اقترن الحديث عن الآخر في النص الروائي العربي بالآخر الغربي إذ بدا حضور "الآخر" الغربي مع تنامي مشهد النهضة الحديثة، وما صاحبه من تبلور للوعي القومي الذي أخذ في مساءلة وتأويل معنى الاخر، وكانت "عودة الروح" لتوفيق الحكيم أول رواية عربية تتعرض لمشكل لقاء الحضارات، وتلاها عدد من الروايات من نحو"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، وغيرها كثير؛ حيث خضعت هذه الروايات إلى مبدأ التجنيس الحضاري حيث الآخر الغربي هو الأنثى الغربية.

 

     غير أن جدلية الأنا/الآخر لا تعني بالضرورة أن الأنا عربية، والآخر غربي، ففي "إبراهيم الكاتب" لإبراهيم عبد القادر المازني، نرى أن الآخر يمثّل الريف، وفي رواية "رامة والتنين" لإدوارد الخراط تتمثل الجدلية في الديانتين الإسلامية والمسيحية، ومن ثمة أضحت الجدلية تركز على الأنوات وأشكال الأنا المتصارعة مع ذاتها "فالآخر ليس بالضرورة البعيد جغرافيا أو صاحب العداء التاريخي أو التنافس الدائم، إذ يمكن للذات أن تنقسم على نفسها ويحارب بعضها البعض الآخر"[4]، فتبادل النظرة داخل المجتمع العربي الواحد، يكتسب مضمونًا اجتماعيًّا تتنوع فيه أشكال الصراع وآلياته، فتتضح التراتبية والانقساميّة، وحيث إن في كل ثقافة تاريخ عداوة، كان هناك "آخر النحن"، أو ما يدعى بـ"الآخر المحليّ" أو"الأخر القريب"، والذي امتد فيما اتخذه الآخر البعيد من صور مختلفة.

 

       ومن ثمة سنحاول تتبع صورة هذا الآخر التي تضمنها الحوار العلائقي بين شخوص رواية "نوار اللوز" لواسيني الاعرج، حيث ارتأينا أن نقرأ ثنائيات الاختلاف على مختلف مستوياتها محاولة منا لاستكناه جدلية (الأنا/الآخر)، التي وجدت عمقها وتوتّرها في النص الروائي العربي المعاصر؛ أين يمثل الآخر جزءًا من الذات، فهو ضروري لاكتشافها إذ إن تصور"الذات" لا ينفصل عن تصور الآخر، حيث يمتد الحوار بين الأنا والأخر في إطار الهُنا والهُناك، في ظل صراع جدلي تشتد حدته على عتبة النّفي/التماهي، الاختلاف/التوافق، التفتح/الانغلاق، فتمثّل بذلك جدلية الأنا والآخر؛ جدلية الجذب والتنافر، واستهواء الضد لنقيضه، ورغبته في الاستحواذ عليه والصراع معه، وأحيانا تدميره على حد تعبير صبري حافظ.

 

      إذن، رواية "نوّار اللوز" هي النموذج المعوّل عليه في هذه القراءة، حيث تعالج هذه الرواية مأساة متأصلة بعمق الهوية العربية؛ من سوء تدبير الزعماء والحكام، وغفلتهم عن مصالح العباد، إذ ما يزال العامة يرزحون تحت قيد العبودية، فمن عبودية الرق، إلى عبودية الاستعمار، إلى عبودية المصلحة. فتلك مأساة تجذّرت من سالف الأزمان تدعمها ثنائية (القوة/الضعف) ولا حل غير الحرب، مما قد يتوافق مع رأي واسيني الأعرج، إذ يرى أنه" منذ وجدنا على هذه الأرض، وإلى يومنا هذا، والسيف لغتنا الوحيدة لحل مشاكلنا المعقدة"[5].

 

     وكان "صالح بن عامر الزوفري" رمز "الأنا العربية" المثقلة بالهمّ، الغربة والحزن حتى في عقر دارها، إذ لم تلبث هذه الأنا تبحث لها عن وجودٍ بصراعها مع الآخر، سواء أكان هذا الآخر؛ ذاته المثقلة بهمّ الوحدة والغربة، أو واقعه المزري وفقره، وأولاد لاليجو...إلخ

 

ومن ثمة تتحدد لدينا ثلاث مستويات :

 

أ – المستوى النفسي:

 

-         انغلاقه على ذاته بوُلوجِه في غيبوبة بأعماق ذاته يستذكر ماضيه ومآثر بني هلال.

 

-         انفتاحه على الآخر-أو بالأحرى الأخرى- بلجوئه إلى المرأة طمعا في الامتداد.

 

ب- المستوى الاجتماعيّ:

 

     لجوءه إلى التهريب طلبا للقمة العيش بعد أن كان له أن يختار بين ثلاث:

 

1)    انتظار الموت إذا فتح محلاًّ، مثل: رومل القهواجي.

 

2)    الموت الحتمي؛ الانتحار، مثل: الخياري.

 

3)    صراع مع الموت؛ بامتهان التهريب.

 

جـ - المستوى العلاقاتي:

 

     ويتبدى ذلك في تحدي الآخر، ورحلة فرض الوجود، وكان لهذا التحدي ثلاث تمثّلات:

 

-         تمرده على السبايبي؛ برفضه إغراءاته، إذ أغراه هذا الأخير بالربح السريع، من خلال تهريب أغنامه، لكنه رفض؛ واختار مهنة الموت على أن يبيع كبرياءه لسليل القياد.

 

-         تهكمه على الخونة؛ (من نحو الميلود ولد سي لخضر) برفضه بيع دم الشهداء؛ إذ آثر أن يستفيد من الثورة الزراعية، على أن يبيع دمه وعرقه مقابل الحمامات والفيلات والعمارات.

 

-         إهانته لسلالة القياد الجديدة؛ بكسره شوكة ياسين ذليل السبايبي.

 

لكن رغم روح التحدي، والرجولة، بل وروح الصراع المتأصلة في أعماقه، ورغم شطحاته الثائرة ضد الذل والخيانة، إلا أنه كان في كل مرة ينزع إلى الهروب من أحزانه ومرارة واقعه بواحدة من ثلاث:

 

     -   إما أن يضع أصبعه في فمه ليتقيا مرارة أحشائه.

 

-         أو يشرب "الروج" حتى يثمل فتترائى له الجازية خارجة من شق الحائط، تجتر أحزان اليتامى بأذيال خيبة بني هلال، الذين بعد أن خاضوا حروبا طاحنة حتى يتملكوا بلاد الغرب، انقلبوا على بعضهم بعضا يتصارعون على الملك.

 

-         أو يغيب بأحضان أنثاه ، وكانت "لونحا"هي جازيته التي ملأت خواءه ، وعوضته الحرمان.

 

ومع ذلك استمرت رحلاته، بل "تغريبته"، إلا أن آخرها كانت اعترافا منه بهزيمته أمام الآخر القريب (أولاد لاليجو)؛ إذ أقر بصريح العبارة، أن لصراعه مع الآخر نهاية حتمية وحيدة؛ هي الموت على يده "هكذا نحن دائما، من لم يسقط في الخلاء، مات في قفر السجون"[6]. فاعتزم الارتحال إلى الآخر البعيد (ما وراء الحدود)، فر إلى الغرب مرتميا بأحضان أخته المغتربة -في بلاد المغرب- فهو لم يستطع تحمل الخيانة من طرف الآخر (أولاد لاليجو...)، بوصفه عنصرًا خطيرًا"élément dangereux" كما جاء في الملف الذي تركه الفرنسيون "شوفوا يا ناس، تحولت الى عنصر خطير على هذا البلد الذي أعطيته دم قلبي، يستنجدون بالملفات التي خلفها ديغول وبيجار والقتلة"[7]. اختار الاختفاء ليتقيأ همومه وراء الحدود، فذلك لم يختلف عن عادته التي ألفها حين يثقله الهم والحزن، إذ يضع إصبعه في فمه ليتقيأ المرارة التي أثقلت قلبه وكاهله.

 

وفي الوقت ذاته، كانت رحلته إلى الغرب -تغريبته- تحديا للآخر(أولاد لاليجو)، ومع ذلك كان مآله السجن على يد النمس (سليل القياد)، وليس السجن هنا إلا أحد معاني النهاية الكلاسيكية التي علقت بالأنا العربية، إذ ظلت الانهزامية نموذجًا سليقًا علق بالأنا العربيّة في صراعها مع الآخر، أو بالأحرى في رحلتها للبحث عن وجودها، ولأن الرحلة ما تزال مستمرة استمرارية نجله، فبذرته التي زرعها بوطنه (لونجا)، الذي لم يكن بكرا، بل سبقه إليه اغتصابٌ باسم القوة والعرف، إلا أنه كان عقيما لم يثمر عن خليفة، ولم يخلفه إلا لقطاء الاستعمار (أولاد لاليجو، السبايبي، النمس، ياسين،...)، ومع ذلك تحرّر على يده، وقاوم وتجلّد "سأكون الجازية التي يحلم بوجودها دائما، وسأعيد نبتة فقراء بني هلال الى الحياة"[8]، وغدًا تشرق أنوار ثمرته كما "أشجار اللوز التي بدأ نوارها يخترق نتف الثلج العالقة بالأشجار"[9]، فتواصل رحلة صراعها مع الآخر، بل مع ورثة الخيانة وسلالة لاليجو، والصراع لم يتوقف على الجيل الجديد فحسب؛ بل امتد إلى سلالة القياد بكشف أوراقهم، وفضح خياناتهم لعلّ وعسى، ويبقى الصراع قائمًا، ما دام الزمن يسابق عجلته لتبقى الدنيا سائرة دائرة.

 

فـ"نوار اللوز" نقلٌ لواقع مزري، خفتتْ شمعتُه، لكنه ظهر مؤخرًا، بحلة جديدة ، وزيّ أكثر رونقا، إذ "الأنا" (صالح) تستمد حضورها من الـ"نحن"؛ الذي يحيل على الطبقة الشعبية البسيطة، التي تعاني ويلات تعنت "الآخر القريب" الذي يمثله أولاد لاليجو، أو بالأحرى الطبقة السلطوية، فمن سلطة الاستعمار العسكري (الآخر-الفرنسي)، إلى سلطة الاستعمار الإداري (الأخر-سلالة القياد)، "آه ، يا لونجا القبايلية؛ نحب بلادنا لكنها ليست لنا"[10].

 

 

 

 مستويات تجلّي صورة الآخر القريب:

 

      تتنوع أشكال الصراع وآلياته، فكما تواجد الآخر"البعيد" يتواجد أيضا الآخر"المحلّي"، إذ يتوسط الآخر البعيد انقسام الذات الجماعية، سواء أكان توسطه ظاهرًا أو مضمرًا، مما يُكسب تبادل النظرة داخل المجتمع الواحد مضمونًا اجتماعيًّا أكثر تحديدًا، تتضح فيه التراتبية والانقسامية. ومادامت صورة هذا الأخر تصنف على أنها بناء في المخيال وفي الخطاب، نجدها -في روايتنا- تختلف من موقع لآخر، باختلاف نوع العلاقة التي تربطه بالأنا، حيث تتأسس تلك العلاقات حسب صدام هذا الأنا بعالمه الخارجي.

 

        فتتحدد هوية الصراع مع كل تفاعل، أو احتكاك بغريب. ومن ثمة تتوافر بين أيدينا الصور التالية: الآخر- العدو، الآخر-المرأة، الآخر- المكان.

 

أ‌-       الاخر-العدو:

 

    لقد جرى تعريف "صورة العدو" بأنها: "الصور الشائعة الاعتقاد والنمطية المجردة من الصفات الإنسانية للجماعة الخارجية"[11]، حيث إن أول ما يوحي به مفهوم "العدو" هو العنف والسلبية. فإذا أتينا إلى نموذجنا الروائي، نجد أن هذه الصورة العدائية، لصيقة بفئة معينة مثّلها "أولاد لاليجو" من نحو السبايبي، النمس، ياسين،... حيث كان تفاعلها الحدثيّ مع الأنا تفاعلًا مباشرًا، ينضوي في إطار صراع جدليّ أساسه ترسبات الماضي:

 

الأنا (صالح، سلالة الشهداء) _________ الآخر (أولاد لاليجو، سلالة القياد)

 

        ومن خلال هذه الترسيمة نلمس اختلافا جذريًّا بين طرفي الصراع، وهذا ما يؤكده فيليهو هارلي حيث يرى "أن العدو يظهر -فقط- إذا ما خلد أن"نحن"و "هم" مختلفون جذريًّا، أي عندما يفهم التمييز بينهما على أنه انعكاس لصراع بين الخير والشر، وعندما يرتبط الخير مع "نحن" والشر مع "هُم"[12]؛ فصورة الآخر-العدو تنبثق من تشابك علاقات معقدة، تتداخل في طياتها ترسبات الماضي، فكلا الفئتين تشتركان في الهوية الوطنية،الدين والأرض، لكن ما فرق بينهما هو مبدأ التعامل مع الاستعمار المبني على التضاد، فالطرف الأول هو من قدامى المجاهدين؛ فيما الطرف الآخر كان عميلاً لدى الاستعمار. مما يفرض صياغة صورة عن الآخر تكون في منتهى الآخرية والضدية.

 

    وأول صدام مع الأخر يظهر مع الصدام الإداري؛ الذي راح ضحيته رئيس البلدية "حتى رئيس البلدية بودلخة يا صالح، وجد ذات فجر يعوم منتفخًا على سطح مياه الوادي، مطعونًا عشر طعنات قاتلة، حارَبُوه حتى الموت، حين بدأ يفلت بلزوجة من أكفهم، هددهم بإخراج ملف سرقة إسمنت المدار وبناء الفلات، ولوح السبايبي (رأس الغول) بمعارفه في العاصمة"[13].

 

        إذن، أول ضحية لهذا الصراع العدائي، تعلن عنها سطور الرواية هي رئيس البلدية "بودلخة"؛ لأنه انتفض ضد الفساد الإداري، أما الخياري فقد انتحر سخرية من هذا الواقع، الذي انقلب يمشي على منابت شعر رأسه "مسكين الخياري، اغتاظ حتى كاد يموت حين فوجئ بقبور الشهداء تباع لغير الشهداء والأنبياء، وجد ذات فجر بارد مشنوقا مثل بلوطة يابسة في غابة متوحشة، كأنه يسخر من هذه الخلائق الحشرية التي يتوقف الزمن عند دروته ولا تقف"[14]. فيما قتل لخضر لأنه اضطر لامتهان التهريب لتوفير لقمة العيش "البارح فقط قتلوه، السي لخضر! وجدوه عند حائط عتيق تنام داخل رأسه ثلاث عيارات نارية انتزعنَ طفولته وأحلامه"[15]مما قوقع الأنا في دائرة الموت، فلم يبق لها أي حل آخر على رأي صالح "يا تخرج من الدائرة، يا تموت داخل عفن الدائرة، أنت وقدرة عودك الذي تركبه"[16]. وهكذا تبقى حلبة الصراع مفتوحة لمسلسل موت مجهول النهاية "صدقني يا لخضر إني لا أعرف من منّا نحن الباقون سيلتحق بك! أنا؟ العربيّ؟ أطفال حي البراريك؟ المسألة تعقدت يا وليد البلاد"[17].

 

    وكما سبق، أن نوّهنا إلى أن ماهية العلاقة بين الأنا والآخر، تتحد مع كل تفاعل أو احتكاك بغريب، حيث إن صورة الذات تبقى ثابتة، ممثلة في صالح الزوفري في حين صورة الآخر-العدو "تبقى ملتبّسة وخاضعة أكثر لتأثير العوامل والظروف"[18]، وبالتالي تتوافر لدينا العلاقات التالية:

 

                               علاقة عداء

 

الأنا(صالح)                                             الآخر(السبايبي)

 

 

 

ويمثل هذا الآخر(السبايبي) سلالة القياد، أولاد لاليجو إذ "يطمح في تركيع القرية بكاملها مثلما كان يفعل أبوه، يتصور العالم كله تحت خاتمه الذي يكفي أن يدوره حتى يتجارى الناس حفاة عراة يطلبون مغفرته ومحبته"[19].

 

وعليه يمكن تحديد علاقة هذا الآخر على صعيدين:

 

الصعيد العام: (علاقات عامة)، بالإمكان تحديد مفارقتين:

 

·        الموت/العرس: ففي الوقت الذي جاء يعزي فيه ناس البلدة في مصابهم "- صباح الخير على جماعة الخير، الله يعظم الاجر يا القهواجي"[20].. راح يعزم جموع المعزين لعرس ابن أخيه "يا جماعة، لن آخذ من وقتكم كثيرًا، السي إبراهيم، صالح، بُوجمعة، قويدر، تعالوا في العشوة  بأعوادكم!"[21].

 

·        العمالة أيام الاستعمار/ طلب رد الاعتبار بعد الاستقلال: فـ"في الزمن الصعب الذي مضى، كانت تبيع الله والأرض، وتنام ذليلة عند أقدام (الكولون). وهاهي الآن تنفش ريشها في وجوهنا بقوة كالديكة المريضة، غير واثقة من شجاعتها، وتستغل الظرف القاسي لتجيره لمصالحها، إنها الوجوه الشرسة التي أرزاتنا في أعز أحبابنا"[22]،، سواءً قبل الاستقلال أو بعده. و"سهرة صيفية في أحد كابانوهات المتوسط، كفيلة بجعله مستفيدًا من حكاية إعادة الاعتبار للمجاهدين القدامى"[23]، وهذا ما يؤكده قول رجل البلدية "فيما يخص إعادة الاعتبار لجهادك فأنت على رأس قائمة المسجلين، ملفك محفوظ في ممو العين"[24].

 

·        الصعيد الخاص (علاقات خاصة)، ويحددها عرض الإغراء الذي قدمه السبايبي لصالح "شوف، أنا أوفر لك طريقة تربح بها أكثر، وأخطيك من خدمة الحكومة
-.............
-........ ستأخذ الأغنام، تهرّبها، تقطع بها الحدود وتأتيني بالدراهم، وحصتك مضمونة"[25]
لكن عرضه قوبل بالرفض: "أنا صحيح فقير وجائع، لكن بكل تأكيد لن أتحول إلى جرو في يديك"
[26]، مما جعل الآخر يضمر العداوة لهذا الأنا (صالح) إذ يأتيه متشفيًّا يوم ألقي عليه القبض" ... تأملَ صالح بن عامر الزوفري من أخمص قدميه حتى قمة رأسه، ابتسم ابتسامة صفراء ثم لكز عوده وتوجه الى السوق"[27].

 

              علاقة عداء

 

الأنا (صالح)                   الآخر(النمس)

 

 

 

لذة كبيرة في إيذاء الناس"[28]، ويربطه بالأنا عداء شخصي حيث الأنا "صالح" يرى أن النمس هو السبب في حرمانه من الأبوة: "لولاه، لكان ابني الآن صديقا لي"[29]..."آه يا ابن الزانية، إني أحملك وفاة ابني الوحيد يا النمس، يا كلب الخلاء"[30]، ومن ثمة نلمس أن وفاة هذا الطفل ليست إلا رمزًا للآخرية الاستئصالية؛ حيث يعمل هذا الآخر (أولاد لاليجو) لقطع سلالة الضمير الحي، فعلى حد قول صالح: "لقد دخلنا الحرب الضروس مع الأعاجم الذين لا يفهمون إلا لغة السيف وذبح الرقاب"[31]، وتتجلى هذه الآخريّة الاستئصالية في سياسة الموت؛ التي يفرضها النمس على أولاد البراريك ممن يمتهنون التهريب "نحن ما زلنا بين حد الصقيع والنار، نذوب على أطراف الحدود، نقتل من أجل قرص بندورة نهربه"[32]، فـ"نحن صغار وسط هذه الأنساق المعقدة"[33]..."نحن نسقط ، وهم آخر من يمكن أن تلصق به التهمة، أنا متأكد أنهم كبار، وراءهم من يحميهم بجنون أرباحا مفزعة"[34]،وهكذا هي النهاية الحتمية، فإما الموت في الخلاء أو في قفر السجون. وبعد أن كانت النهاية الأولى من نصيب لخضر ولد يامنة، والعربي وغيرهم كثير؛ آل مصير صالح إلى السجن.

 

 

                           علاقة عداء

 

الأنا (صالح)                                     الآخر (ياسين)

 

 

 

   ويمثل هذا الآخر أحد أتباع السبايبي، إذ بعد فشل هذا الأخير في تسخير(صالح) لخدمته بـ"تهريب الأغنام، وتوفير"الويسكي" و"الباستيس" للمسؤولين"[35]،"وجد ضالته في ياسين أحمر العينين، فقاده من أنفه كالنعجة، فياسين من أجل الدراهم يبيع أمه"[36]. مما ولد عداءً بين الطرفين (الأنا/الآخر) كانت نتيجته صراع جسدي عنيف، كاد يردي بياسين قتيلاً لولا أن...حيث عمد ياسين إلى التهكم من حميدا القهواجي، بحضور صالح

 

"العمى،هذه قهوة وإلا مزبلة؟ صاح ياسين، ثم ضرب الكرسي برجله اليمنى..

 

-         مزبلة يا ياسين؟ لو كان العربي هنا،ما قلت هذا" [37]

 

   مما جعل صالح يستاء من الموقف، ويتدخل محاولا تهدئة الوضع، لكن ياسين لم يأبه له؛ سيما بعد أن أحضر له حميد القهوجي القهوة التي طلبها، إذ "شعر بأنه الأقوى، ضرب كف العجوز بقدمه"[38].مما دفع بصالح للتدخل كاسرًا شوكته كما يؤكد ذلك صالح: "فالإهانة التي لقيها مني كانت قاتلة، هزمته، وهزمت بطشه في عيون كل أهل البلدة.. هو الذي ظلم شيخوختي، والبادي أظلم"[39]، ولكنه مع ذلك فكر في الاعتذار من ياسين، فهو"لم يلعن ياسين كما تعود، ولكنه حاول أن يجد له مختلف الأعذار.. مع علمه مسبقا أن ياسين حين يهزم يتحول الى كلب غادر، يتحين كل الفرص للانتقام، ولو دفعه ذلك إلى المرور على جثة خصمه"[40].

 

 

 

                  علاقة عداء

 

الأنا (صالح)                         الآخر(الميلود)

 

 

 

           ويمثل هذا الآخر احد أولاد لاليجو، وهو موظف بالبلدية، ومكلف بملفات قدماء المجاهدين، والمستفدين من الثورة الزراعية، مما أفزع (صالح) فيتساءل مندهشا "دنيا والله، أنت تقيم الناس؟ آه يا الميلود، (إش) من زمن هذا يا ولد السي الخضر! البارح تذبحني وتذبح والديك، واليوم تقيم مقدار قدرتي على التضحية من أجل هذه التربة التي سحقتنا"[41]، لكن الميلود يرد قائلا "والله يا عمي صالح الذنب ليس ذنبي، هم أمروا بذلك"[42].

 

        ومع ذلك لم تجمعه بالأنا عداوة شخصية، لكنه انقلاب الموازين، حيث حرم صالح من الاستفادة من الثورة الزراعية، فحسب الميلود "الثورة الزراعية تحتاج الى إثباتات رسمية، في العاصمة لا تنفع معهم العواطف، لا يعترفون إلا بالأوراق و الوثائق"[43]. مما يستفز الأنا، فيرد عليه صالح ثائرا "لو كنت أريد إثبات نضالي بورقة، ونزاهتي، كنت فعلت ذلك يوم نزلت من الغابة أول مرة، وكانت الفوضى ما تزال تعم البلد"[44].

 

      وهكذا لم يتمكن "الأنا"من فرض وجوده أمام الآخر، فلم يجد حلا غير الهروب "هربت لأني كرهت، مللت.. بلدة يباع فيها الشهداء، كما تباع الخردة في الأسواق الرخيصة، وبقدر ما حاولنا أن نكون طيبين وجدنا أنفسنا  نئن تحت الجوع وتحت الكلام المؤلم الذي يقتل من الداخل ويفعل أكثر مما تفعله رصاصة"[45].

 

      وإذا حاولنا إخضاع هذه العلاقات الأربع الى إستراتيجيات النزاع[46]التي حددها فيكتور يوكوتاستا في صور ثلاث:

 

الاولى: سلبية، يبدو فيها الآخر خطرا على المجتمع وثقافته وتناسبها استراتيجية الرفض والطرد:                            

صالح   <__________> أولاد لاليجو

 

الثانية : وهي أقرب إلى الحيادية المؤقتة، إذ لا يبدو فيها الآخر مقبولا او مرفوضا، بقدر ما يبدو قابلا لأن يكون هذا أو ذاك، وهذه الصورة تناسبها إستراتيجية الاحتواء بالتبعية:

 

ياسين__________>  السبايبي  __________> المعمّر سابقا

 

الثالثة: فتمثل صورة "الأخ" الحامل لقيم إنسانية، والذي يمكن أن يكون اختلافه مصدر ثراء، وهذه الصورة تناسبها إستراتيجية التعاون والمواطنة والتي قد توافق العلاقة التالية:

 

صالح _________ موح الكتاتبي

 

حيث إن "موح" وبعد صمت طويل، قرر أن يساند "الأنا" صالح، ويفضح الآخر (أولاد لاليجو):

 

"عمي صالح أنا معك حتى الموت ،اطلبني ستجدني

 

-.................

 

-...................

 

-حكاية الغولة-تعرفها-سأفرقعها في أول فرصة، كل التفاصيل معه"[47].

 

   إالى هنا، ليس لنا أن نضيف إلا كلمة صالح التي فحواها "نحن الرؤساء. نحن الحكومة. ونحن الضحايا. وكما يقول سيد علي التوناني، فإذا اختلط الحاكم بالمحكوم، والمحكوم بالحاكم، فاذن لهذه البلاد بالدمار"[48]...

 

ب-الآخر-المرأة:

 

   يعتبر" الجنس (رجل/مرأة) أحد مرتكزات الإنسانية، التي يتم على ضوئها توزيع العمل، الأدوار، والوظائف بين الجنسين في المجتمعات الإنسانية كافة"[49]، ولعل صورة المرأة الطاغية هاهنا، قد تجسدت في أنوثتها على اختلاف نماذجها (المسيردية، الجازية، طيطما، لونجا...) ، ومع ذلك اختلفت ماهية علاقتها بالرجل بين طرف مكمل، وطرف ملغى.

 

*فصورة المرأة الملغاة الفاعلية: ظهرت في علاقة لونجا بالإمام، وإرغامها على الزواج منه رغما عنها، مما عقد نفسيتها؛ أضحت تخاف من لا شيء" عقدة الخوف ركبتها  من يوم سرقوها من الأحراش وهي وراء أغنامها، ألصقوا صدرها البدوي، بصدر الإمام المترهل، عيونها مغمضة، معصوبة من كثرة البكاء. وضعوها في حجر الإمام الملتهب، والعاجز عن الإتيان بأي فعل مثمر"[50]، فيوم رفضت الزواج منه، وأعلنت رفضها، استنكروا الأمر، واعتبروه "عملة شيطانية، وذبحوا عنزة سوداء، وأفرغوا دمها على راسي، أوثقوني، بكيت حتى أغمي علي، وضعوني داخل فراش حريري ورثه الإمام عن عائلة فرنسية"[51]؛ فكما ورث الإمام فراشه الحريري عن الاستعمار، ورث الوسط الشعبي أيضا، تلك العقلية الخرافية التي رسخت في الوجدان الشعبي؛ فأضحت دستورا يسير أموره، مما جعلهم يعتقدون أن كل خارج عن المألوف ممسوس، فليس من العرف أن ترفض المرأة الرجل، وليس من حقها أن تعلن رفضها، وإن فعلت فليس ذاك فعلها، بل هو من فعل الجن والشيطان. وهذا ما تؤكده الكلمات التي تتذكرها لونجا بعد إرغامها على الزواج من الإمام "لقد خرج بلحمر، خرج بلحمر"[52].

 

ومقابل هذه الذات المطموسة للمرأة، نلمس الصورة الإيجابية التي تمثلت في حضور المرأة كامتداد للرجل، حيث يرى فيها الرجل نصفه الآخر الذي بإمكانه أن يملأ خواءه ويحقق امتداده، وقد مثل هذه الصورة العلاقة التي ربطت صالح (الأنا) بأنثاه التي رأى فيها امتداده، لكن لقاء الأنا (صالح) بالآخر-المرأة، كان يؤول دوما إلى الانفصال كما أفصحت سطور الرواية في بدايتها:

 

انفصاله عن الجازية : "تمنيت بيأس العشاق لو بقيت، لكنها يا الله، كالنور تشق الحيطان، وكالومض تروح وكأنها لم تكن"[53].                                             

 

انفصاله  عن المسيردية :"حتى المسيردية التي لا تمتلك إلا طيبوبتها، ذبحتني من القلب، ذهبت، ورغوة الأمومة ما تزال تملا ثدييها وفمها"[54].                        

 

انفصاله عن لونجا :"ولونجا خاتمة الانبياء، من حادثة التبن لم اعد أراها أبدا، وحق محمد اشتقت إلى وجهها النبوي الذي لا يمل"[55].                       

 

    فأول انفصال اخترق حياته كان وفاة المسيردية، مما ولد عنده وحدة مريرة لحرمانه من الولد ودفء الفراش "عندما كانت المسيردية على قيد الحياة، كانت الدار أكثر تنظيما. كانت حبلى، وكنا نحلم بالأشياء الجميلة التي لم نرها أبدا في حياتنا، حين أفتح عيني مع نجمة الفجر، أفاجأ بالقهوة جاهزة، وبوجهها المبتسم دوما: صالح بن عامر الزوفري، يكفي من النوم لم تعد ولد البراريك الزوفري"[56].. لكن بعد فقدانه خليلته عاد زوفريا وحيدا كما كان، لا ونيس له غير الهم والغربة "آه يا بنت الناس، انتهكتك مصائب هذا العالم التعيس، الزوفرية عادت ببرودتها وقساوتها، ووحشيتها، لم تنته أبدا، أنت التي انتهيت وانتهى معك الطفل الذي اشتهيته وحلمت برؤية عينيه الطيبتين، واستعادة الذرية المفقودة"[57]، فحرمانه من المرأة جعله يحرم من الأبوة، وليس من أمل لتحقيق الامتداد من دون المرأة "فصالح الزوفري يظل زوفريا حتى يسقط كالحشرة"[58]، فــ"وسط متاعب الوحدة، أتذكرك، صدقيني يا المسيردية إني حين أجوع أتذكرك بعمق وحنان، مثلما أتذكر طفولتي، في كل لحظة تفاجئني عيونك الجميلة وقدرتك الخارقة على إشباع بداوتي النهمة"[59].

 

    وكما كانت المرأة مصدرا للامتداد والمتعة معا، قد تتوقف الحاجة إليها على تبادل المنفعة فحسب، سواء أكانت مادية او جسدية، فعلاقة صالح بـ"طيطما العباسية"هي علاقة تجارية من جهة "أبيعها البضاعة وبدورها تبيعها وتدفع لي حق تعبي"[60]، وبذات الوقت ملجأ للرغبة الجامحة "فقد كانت عيون هذه المخلوقة على شيخوختها تأسرني، واضطر في النهاية إلى قضاء الليل معها على الرغم من وجود ابنتيها الهجالتين المزعجتين"[61]، فهذه المرأة بعد أن أغرقتها الظروف في عفن الماخور، قررت يوما أن تتطهر.. فلم تجد منتشلا غير الرجل فاختارت–كما تصورت-"عسكري متقاعد، طيب"[62]، وقررت أن تكون له سندا ومكملا "سأتزوج منه، أنا وهو نتغلب على قساوة الحياة، تعبت وحدي"[63]. فحتى هي الأخرى لم يكن فقدان الرجل عليها بالشيء السهل، إذ تشكو وحدتها لصالح "تعبت يا صويلح، كرهت، زوجي تركني مبكرا، كان من الجيل الأول الذي أكلته الغربة"[64]. وهي تأمل بانطلاقة جديدة "سأخدمه بقية عمري، إذ كان طيبا معي، أتمنى قبل أن أغمض عيني، أن أشعر بالأمومة، ولو لمرة واحدة في حياتي"[65]، ولكنها لم تجاز منه غير الخديعة؛ فــ"رغبتها في الحياة، كلفتها رأسها"[66]، و"لا يمتلك المرء إلا أن يحترم رغبتها في الخروج من دوائر العفنة، وفي تنفس ولو كمشة من الهواء الصافي"[67]، لكن هذا هو حال البلد الذي تأكسد فيه كل شيء، فليس ببعيد "إن الذين دفعوا بها إلى الماخور، هم أنفسهم الذين أقدموا على قتلها"[68].

 

      أما عن علاقة صالح بالجازية، فقد كانت علاقة حنين وتوق إلى الماضي؛ فحرمانه من المسيردية، ومن الولد جعله أسير وحدة مريرة، مما دفع به إلى الإبحار في أعماق ذاكرته، ليعيش في أحضان جازيته، التي عشقها منذ طفولته في حكايات قوال المدينة، والتي أضحى يطارد طيفها في خياله مذ فقد المسيردية ووليدها "تمنيت...لم يكن"[69]، وظل على هذه الحال مثقلا بالهم والغربة، إلى أن عثر على جازية حقيقية، جازية من لحم ودم، كانت هي"لونجا" التي عوضته سنين الحرمان، وملأت خواءه ببراءتها وقلبها الكبير، الذي وسع كل تفاهاته وغفر حماقاته، ومع ذلك كان يساوره دوما هاجس فقدانها "وشحال تخرف يا بابا صالح،  تنسى نفسك بسرعة لونجا وين، وأنت وين،عليك أن تتحول إلى ابن العشرين"[70].

 

ولأن فقدانه للمرآة كان أصل معاناته وغربته، فلم يملأ خواءه إلا عيون لونجا "لو لم أكن مضطرا للسفر إلى سيدي بلعباس، كنت طلبت منها أن تعانقني حتى تتلون هذه الأمطار، وحتى تجف دموع الأيتام، وتقتل مع هذه الوحدة التي ترهقني، لا طيطما ولا بناتها قادرات على ملء هذا الخواء الذي خلفته المسيردية في سبيطار الغزوات"[71].

 

وقد كان يرى فيها نفسه، فهي تشبهه "أنت مثلي يا بنتي،مقطوعة من شجرة،والأكثر من هذا شجرة يابسة لن تنجب إلا البؤس وحرارة الشمس التي أحرقتها"[72]، والتي بعد أن اندفع إلى أحضانها غصبا في رحبة التبن، أتته براكته تقاسمه عشاءها وذاتها، وتملكه نفسها عن رضى، فأثمرت هذه الرغبة عن الوليد الذي طمح إليه مذ عرف دفء الفراش "في آخر العمر يا صالح، يا السارح، تستعاد الأبوة المفقودة، تعالي يا لونجا، تعالي يا ابنتي تعالي، لن أرفض هذا الرحم الذي استقبل نطفتي المتعبة بسخاء البدو الطيبين"[73].

 

وقد تجلت صورة المرأة المساندة للرجل في تقرير صالح ولونجا للتعاون مع بعض لتحصيل لقمة العيش "ندرك كم أن الحياة جميلة وتعاش لمرة واحدة ووحيدة، سنتزوج أمام القاضي وجميع الخلق الطيبين.. ستعملين أنت كذلك، فالأشغال في البراج كثيرة"[74]. "سأعمل بجانبك حتى إذا تعبت، ارتحت، وارتحت أنت معي"[75]. فــ "المسؤولية نتحملها مع بعض"[76].

 

 

 

جـ- الآخر-المكان:

 

   ولأن الحدث يجب أن يرتبط بحيز داخل النص الروائي، لا بد له أن يرتبط بالمكان، فبديهي أن يرتبط هذا المكان بشيء من الآخرية، من نحو مسيردا، بلعباس، ما وراء الحدود، وحتى البراكة.

 

   وقد ظهرت "مسيردا" وكأنها ملجأ للغرباء "خلق البراريك غير متجانسين، كل واحد جاء من منطقة، سمعوا بحكاية سد بمسيردا فجاءوا من كل فج عميق، ومع كثرة الانتظار تحول أكثرهم إلى تعاطي الحشيش، والتراباندو، والحياة الرخيصة"[77]. فحكاية السد "بدأت تتحول إلى أسطورة تافهة، نسمعها ونشك في تصديقها، يبدو أنه خبر عادي، كأي خبر عادي، الحكومة دائما هكذا، تثرثر أكثر مما تفعل، في كل شهر يقولون الشهر القادم، وهكذا..."[78]. وقد أضحت "القرية متعبة، الناس متعبون، الجميع يفتح عينيه على البؤس"[79]، مما دفع عددا من أولاد البراريك لامتهان التهريب، منهم صالح "في هذا الشتاء القاسي، سنضطر تحت ضغط الجوع، أن نقطع الثلوج، والبرد والوحل، ونغمض أعيننا ونهاجر إلى الحدود البعيدة"[80]، فلو "وجدنا شغلا بسيطا في حي البراريك ما أكلتنا مخاوف الحدود، حين نفقد طعم الحياة، نعود إلى أكل بعضنا البعض"[81].

 

    وهكذا تتحول تغريبة صالح لما وراء الحدود، إلى صراع مع الموت "الموت والحياة وجهان لنمط واحد من الخلق، إنها البلدة التي تنام على أطراف الحدود"[82]، مما جعل صالح يسأم حياته ويفكرأكثر من مرة في النزوح بعيدا "أقسم بالله يا المسيردية، هذه البلاد التي أحرقتنا في القلب، إما أن تتحول إلى امرأة وديعة وطيبة، أو سأقدم على ارتكاب حماقة في حقها قبل أن أسقط محترقا عند أقدامها المحنّاة دائما، المهنة القذرة يا المسيردية، داخلها مفقود، والخارج منها مولود"[83]، ويختفي بعد أن أثقلت كاهله الهموم، فارّا إلى ما وراء الحدود، مرتميا بأحضان أخته المغتربة "هربت لأني كرهت.. رفضت السبايبي.. رفضت الوجوه المتسخة، التي تشكك في محبتي لهذه التربة التي أحرقت طفولتي، وامتصت نسغ شبابي"[84] . وهروبه هذا يوحي بأن الأنا حين يفقد الأمان ببلده، يبحث عنه خارجه، ولو كان بعقر دار عدوه.

 

*تغريبة صالح إلى بلعباس: "سفرة سيدي بلعباس، هي السفرة المتعبة التي يضطر المرء إلى قطعه .من أراضي الموت والجفاف والقحط إلى مدن ووديان بلاد الغرب"[85]، من مسيردا إلى فلاج اللفت، مسيرة شاقة تنضوي على رغبة اللجوء إلى الآخر، لكن ليس هروبا، وإنما هو مواصلة للمسيرة التي بدأها وراء الحدود "وفجأة استيقظ من غفلته ليدرك أن عليه أن يبيع هذه البضائع، وإلا اضطر إلى أخذها إلى سيدي بلعباس"[86]، إذ يقصد بلعباس لبيع ما يكسد من بضاعة لكن "الدراهم التي أربحها من بيع الكتان، تأكلها في ثانية، طرقات سيدي بلعباس، و فلاج اللفت والحاجة طيطما"[87].

 

فكما أن الهدف في التغريبتين (لما وراء الحدود/لسيدي بلعباس) هو مادي محض، لتوفير لقمة العيش، فهذا لا ينفي أن الأنا يتغرب ليتقيأ همومه الداخلية خارجا، وذاك بطريقتين:

 

إما بالارتماء في أحضان طيطما، فتحرق همومه تلك الرغبة الجامحة.

 

أو بالارتماء في أحضان أخته المغتربة، لقتل الهم باستذكار عظمة الشهداء.

 

* أما البراكة: فيمكن أن نقرن دلالتها بالوطن:

 

 

      وإذا أردنا العودة من حيث بدأنا، فسنجد أنفسنا نكشف اللثام عن نتيجة يفرضها مسار القراءة، وقد تكون بديهية مسلم بها، حيث نخلص إلى أن طبيعة الآخر تحددها طبيعة اللقاء به، وماهية الحاجة إليه. فالأنا أضحى يتعلق بوجهة نظر، ومن ثم يمكن تحديده في المطلق فيكون الآخر بالمناوبة شريكا، رفيقا، عدوا، فردا، جماعة، مما يفرض علينا التساؤل مرة أخرى "عما يبحث الكاتب في إثارته لجدلية الأنا والآخر في كتاباته؟ هل يحاول صياغة رؤيا جديدة تستسيغ التعامل مع الأخر؟ أم يقصد تجريد "الأنا" وتعريته أمام ذاته في مدار يسيّجه الآخر؟"

 

 

 

التدقيق اللغوي لهذه المقالة: أفنان الصالح.

 

           

 


الهوامش:

الطاهر لبيب وآخرون،صورة الاخر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،1999.ص21[1]

 

فيلهو هارلي، مفهوم ومواريث"العدو"في ضوء عملية التوحيد والسياسات الاوربية، في:صورة الاخر...,مرجع سابق،ص54[1]

المرجع السابق،ص55[1]

حيدر ابراهيم علي،صورة الاخر المختلفة فكريا،سوسيولوجيا الاختلاف والتعصب،صورة الاخر..مرجع سابق.ص11[1]

واسيني الاعرج،نوار اللوز، دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت،1982،ص5[1]

الرواية،ص6[1]

 

الرواية،ص153[1]

الرواية،ص177[1]

الرواية،ص222[1]

الرواية،ص153[1]

فيلهو هارلي،مرجع سابق،ص54[1]

نفس المرجع،ص55[1]

الرواية،ص11[1]

الرواية،ص28[1]

الرواية،ص17[1]

الرواية،ص12[1]

الرواية،ص17[1]

الطاهر لبيب،مرجع سابق،ص23[1]

الرواية،ص39-40[1]

الرواية،ص95[1]

الرواية،ص96[1]

الرواية،ص148[1]

الرواية,ص148[1]

الرواية،ص147[1]

الرواية،ص102[1]

الرواية،ص102[1]

الرواية،ص219[1]

الرواية،ص41[1]

الرواية،ص43[1]

الرواية،ص84[1]

الرواية،ص191[1]

الرواية،ص20[1]

الرواية،ص84[1]

الرواية،ص18[1]

الرواية،ص148[1]

الرواية،ص147-148[1]

الرواية،ص111[1]

الرواية،ص112[1]

الرواية،ص189[1]

الرواية،ص127[1]

الرواية،ص149[1]

الرواية،ص150[1]

الرواية،ص151[1]

الرواية،ص151[1]

الرواية،ص184[1]

الطاهر لبيب،مرجع سابق،ص32[1]

الرواية،ص221[1]

الرواية،ص143[1]

[1]حلمي خضر ساري،المرأة كآخر،دراسة في هيمنة التنميط الجنساني على مكانة المرأة في المجتمع الأردني،صورة الاخر..،مرجع سابق،ص770

الرواية،ص188[1]

الرواية،ص206[1]

الرواية،ص206[1]

الرواية،ص8[1]

الرواية،ص8[1]

الرواية،ص8[1]

الرواية،ص16[1]

الرواية،ص16[1]

الرواية،ص17[1]

الرواية،ص16[1]

الرواية،ص51[1]

الرواية،ص50[1]

الرواية،ص70[1]

الرواية،ص70[1]

الرواية،ص70[1]

الرواية،ص70[1]

الرواية،ص202[1]

الرواية،ص202[1]

الرواية،ص202[1]

الرواية،ص8[1]

الرواية،ص52[1]

الرواية،ص53[1]

الرواية،ص23[1]

الرواية،ص209[1]

الرواية،ص211[1]

الرواية،ص211[1]

الرواية،ص211[1]

الرواية،ص118[1]

الرواية،ص19[1]

الرواية،ص27[1]

الرواية،ص26[1]

الرواية،ص19[1]

الرواية،ص19[1]

الرواية،ص184[1]

الرواية،ص47[1]

الرواية،ص28[1]

الرواية، ص29[1]

 الرواية،ص29[1]

 

 

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية