كانَ منظرُها يجْلِدُ بصيرتي كُلما تعثّرتْ بيَ الخُطوات على أرصفةِ تِلك المدينةِ المنْسيّة، مدينةٌ تعْتاشُ على الجوع وتَتَسربَلُ بالفاقَةِ وتعايش الحرمان، مدينةٌ تَشهقُ الذُلّ وتزفُر الضَنَك، أراني أنقادُ جبرًا إلى حيثُ الزاوية المُتربة القذرِة التي تحتويها مع طِفلها العليلِ الشاحِب.  ولستُ أدري سِرّ هذا الإقبال على تِلك المخلوقةِ البائِسة، ولا خفايا غَشَيانيَ الدائب لرُكنها التعِس، فالسلائِقُ جَرَتْ أنْ نَفِرُّ مِمّا يُنفّر، ونزوغُ عمّا يُؤثّر، وفي العادة نصُمّ آذاننا عن كلّ صُراخ يؤذي أسماعنا ونُغلق عيوننا دونَ كلّ مشهدٍ يجرَح أنفسنا.  

لكنَّ أقدامي تنسابُ بيَ مُكرهة إليها بدافع خفيٍ وهاجسٍ غامضٍ لمْ أستبنْ لهُ حتى اليوم تفسيرًا، أهيَ الرغبةُ في جَلْدِ الذاتِ وتعذيبها بمشهدٍ يختزل معاناةً انسانيةً مُجردة؟ أم فُضولُ الفُرجة الذي يطفو على سُطوح رغائِبنا مهما كان الموضوع مؤلِماً وناضحاً بالوجع الصامِت؟ أم وازعُ الضمير وتبْكيتِهِ ووخزهِ يدفعني لتلمُّس مصيرها والاطمِئنانِ عليها وعلى ذلك الصغيرِ الذي لا يكادُ ينمو وكأنَّ أعوامهُ الثلاثَ قدْ توقفتْ فلا يزيدُهُ شظَفُ العيشِ إلا ضُمورًا؟ ضميرٌ لا يجودُ إلا بالقليل من النقْد ألقيهِ بينَ يديْ من تحولتْ إلى مزاريَ الدائم لعلّها تَبعَثُ بعض السكينةِ في روعيَ القلق.  هنُاك مقصدي ومُبتغاي، وإليها الوِجهةُ والمهجر، حيث تفترشُ الأرضَ وتلتَحفُ السماء، بقايا امرأةٍ حطّمَ عَسْفُ السنين فيها نضارةَ النِساء، وأذهبتْ المِحنُ مُسحة حُسنٍ غابِر تاركةً بصمة حُزنٍ قاتِم، عليها أسمالٌ باليةٌ لا تُشبه من الثياب شيئًا، بل هيَ محضُ سِترٍ للجسد الذاوي النحيل، ثوبٌ أخْلَقَهُ حَرُّ الصيف وقَرُّ الشتاء وأيتمَهُ ضِيقُ ذاتِ اليَد فلم يظفر بشقيق، ولم أرَ عليها غيرهُ برغم تقادمِ الزمانِ وتواصلِ الأيام، ثوبٌ كرّتْ عليه السنين وأكلَ عليهِ الدهرُ وشربَ وماتَ فلمْ يعدْ له بينَ الألوان لون، فيا ويحَ الإنسان، ما أظلمه!  أرقُبُها من طرفٍ خفي، وأتأملها تسألُ الناس إلحافًَا وتستقبلهم بما يستقبلهم بهِ المتسولون من خَفيضِ الصوتِ وخُنوع النَبرةِ وانكسار النظرة، فلربما ألحتْ في بعض الأحايينِ اذ لمْ تجِدْ قُوتَ يومِها فخشيتْ أنْ تَباتَ والصَغيرُ طاويةً على مَخمَصة، ولربما ظفرتْ ببعض المال مما تُعينُ بهِ نفسها ووليدَها على نابِ الأيّام وشراسة الزمن، أو لعلّها خرجتْ بدُعاء بخيلٍ أو مُمسِكٍ مُقْتِرٍ أو بما دون ذلك ممن يمرّونَ عليها مرورَ الكِرام فلا يختلِجُ فيهم عِرقٌ أو يَرُفّ لهم جَفن، يجاوزونها غير آبهينَ أو مبالينَ كأنهم اجتازوا خيطَ دُخانٍ أو جُثّة كلبٍ نافِق، أما أسوأ صنوف العابرين فهم أولئكَ النوعُ الذي لا يخفي تقزّزَهُ واشمئزازَهُ من منظرها الرَثْ، فيحِثّ الخُطى مُسرعًا كمن يَفُرُّ من مَجذوم. متسولةٌ تقِف وولدها عند بوابةِ حيواتنا اللئيمة فلا يُفتحُ لها أو تُستعتَب، تَقْعي عند بُقعتها المُعتادة تُهدهِد الصغير البَكّاءَ بترنيمةٍ حنونٍ حَزنى تحفظها كُلّ الأمّهاتُ عنْ ظهرِ قلب، لكنّها تُسلِيهِ بها شطرًا من النهار، حتى إذا ما هبطَ المغيبُ وكَلكلَ الليلُ طوتْ فراشها البالي واحتضنتْ الطفلَ النائم واختفتْ، فلكأنها انبَجَسَتْ عن فراغٍ ونحوهِ ذهبتْ، أو أتتْ من العدمِ وإليه رحلتْ، وهي كذلك. فمن كان منا مُتسوّلاً؟ هي التي تبغي أنْ تُقيمَ أودَها وتُسكِتَ جوعها وصغيرها وتَسُدّ رَمْقَها بدراهمٍ بَخِساتٍ نقذِفُهُنَّ بلا اكتراثٍ في حِجْرِها، أم نحنُ الذين كنا نتسوّلُ منها شيئًا من إنّسانيتنا المُبعثرة بين إيقاعاتِ الحياة وصخْبها الذي أنسانا من شِدّة ضجيجه كائناتٍ بشريةٍ مسحوقةٍ تقبع في قاعِ الأرض وهامِشِ الوجود ومنافي النِسيان؟ أشكّ سيدتي التي لمْ أعُد قادرًا على استحضارِ ملامِحها أو زيارتِها في زاويتها الصامِتة مستدرًّا في دواخلي بعضَ دَمْع الإنسان المُستتر المتواري، أشكُّ أنّكِ لازلتِ على قيدِ الحياةِ فضلاً عن ذلكَ الصغير ذي العودِ الجافّ والنَسغ المُتيبس، ولستُ أدري أينَ أعثرُ على زاويةٍ تُشبهُ تِلك التي اعتدتي الجلوسَ عِندها كيما تَبوحُ مُقلتاي ببعضِ الدَمع الحبيسِ في ذِكرى مُتسولةٍ راحِلة.

التدقيق اللغوي: لجين قطب.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية