قضية الأدب الإسلامي هي ليست كغيرها من القضايا، إنها قضية النفس الإنسانية في توقها للحرية والانعتاق والجمال والحب والفرح، وقضية اللغة التي تسعى إلى تشكيل العالم على وفق منظومة الحكمة الإلهية، وقضية الجمال الذي يعد احد طرق الوصول إلى الله تعالى ومعرفته، وهي قضية القيمة التي تحدد الوزن النوعي لوجود الأشياء في الكون، وقضية المعيار الذي توزن به معطيات الجمال، وكذلك هي قضية الحقيقة في شكلها المطلق؛ وشكلها النسبي.
إن الأدب الإسلامي هو الأدب الذي يستبطن جملة من المبادئ الأساسية التي تشكل جوهر الإسلام؛ والتي تكوّن الإطار الجمالي للنص ونسيجه كذلك.
إنه الأدب الذي يطرح علاقة جديدة للوحي مع الحياة؛ ألا وهي (علاقة الوحي بالجمال)، لقد انشغل العقل الإسلامي عبر الأزمنة الإسلامية في ثنائية الوحي/العقل، وعلى الأدب الإسلامي أن يزج الإنسان في ثنائية جديدة هي الوحي/الجمال، الأمر الذي يستوجب البحث في الأسس التي ينبغي أن يقف عليها الأدب الإسلامي وينطلق منها.
إننا نرى أن الأسس التي ينبغي أن يقف عليها الأدب الإسلامي هي(1):
1. التوحيد:
إنه مبدأ الإسلام الأول ومنتهاه، فتوحيد الله تعالى هو نبع الحق والخير والعدل والجمال، إن الكتابة في ضوء التوحيد تعني إعادة صياغة الإنسان والعالم على وفق ينابيع الجمال التي جعلها الله تعالى طريقًا إليه، فيسعد الإنسان تبعًا لذلك بما يحققه التوحيد من حرية وشجاعة في الانتصار على الرذيلة ودونية الإحساس والعار الإنساني.
إن الكتابة في ضوء التوحيد هي صناعة السمو الإنساني.
2. وحدة الخلق:
الأدب الإسلامي هو أحد أشكال الإحساس بوحدة الخلق؛ خلق الكون والإنسان، وهو أحد قوى تنمية الإحساس بتلك الوحدة، وهو أحد أدوات الوعي الإنساني؛ إدراك علاقات الكون التي لا تنتهي إلا بالله عز وجل، وهو المحفز الحضاري للاجتهاد والجدية والمثابرة والحرية وعشق الحقيقة.
إنه الجهد الجمالي الذي يُنًمّي الإحساس بجمال نظام العالم والحياة والإنسان، ويسعى إلى اكتشاف جمال البناء العضوي للحياة والإنسان في ميدان الحرية والحب والألم والوجد، إنه الجهد الجمالي الذي يكرّس مكانة الإنسان في الكون خليفة لله؛ ويقرأ هذا الوجود جماليًّا ومعرفيًّا.
3. وحدة الحقيقة:
يقوم الأدب الإسلامي على وحدة الحقيقة المستمدة من وحدة الله المطلقة؛ ووحدة الحقيقة المستمدة من وحدة (البديع) الذي هو أحد أسماء الله الحسنى؛ الذي أضفى جمال إبداعه على العالم، وفي ضوء منطق العقل الإنساني، لا يمكن أن يكون تناقض بين الوحي والجمال، ذلك أن هذه الوحدة تقوم على المبادئ الآتية:
• إن وحدة الحقيقة المطلقة تفرض أنه لا يوجد تناقض بين جمال الكون وجمال الوحي، فكل ما جاء به الوحي من جمال هو صادق وحقيقي ومنسجم مع الواقع وموافق له؛ إذ لا يصدر عن الجمال إلا الجمال.
• إن وحدة الحقيقة المطلقة تفرض أن لا يوجد تعارض أو تفاوت بين الوحي والجمال، فالبناء الجمالي للنص بحثًا في الوجود؛ أو إعادة اكتشاف له عبر اللغة، هو أحد أشكال الانسجام الجمالي مع الوحي.
• إن وحدة الحقيقة المطلقة؛ وطبيعة قوانينها الجمالية؛ تفرض على الرؤى الإنسانية دوام اكتشاف الوجود؛ أي دوام الإبداع، وهي الوظيفة الأساسية للأدب الإسلامي؛ مثلما هي وظيفة الأدب عامة؛ مع اختلاف النوايا والأهداف.
4. وحدة الحياة:
إن الأدب الإسلامي هو الجهد الجمالي الذي يجيب على سبب وجود الإنسان، ولما كان سبب وجود الإنسان –إسلاميًا– هو عبادة الله تعالى ومحبته، فإن الأدب الإسلامي هو الذي يكرّس البعد الجمالي للعبادة والحب؛ الذي يتجلى في شحذ قوى تأمل الكون والإنسان واكتشاف (زينته) التي أرادها الله عز وجل طريقًا للوصول إليه؛ ذلك أن وحدة الخلق والحق تستوجب وحدة الحياة التي تقوم في إطار الأدب الإسلامي على وحدة الوحي والجمال، وحرية الفعل الإنساني في إطار هذه العلاقة.
إن عنصري الحياة بالمنظور الإسلامي هما؛ الخلافة والأمانة؛ وكلاهما يستوجبان الحرية والإرادة لأنهما القوتان اللتان تعينان العقل والرؤى على بناء الثقافة والحضارة.
إن الأدب الإسلامي –في ضوء هذا– هو القوة الجمالية التي تنبثق من حرية وإرادة واعيتين بمسؤوليتهما الحضارية؛ والذي يمتلك رؤية شمولية للحياة؛ منبثقة من قوانين الوحي؛ وتسعى لتكريس جماليات (الواجب) الأخلاقي وتعرية ما هو نقيض له.
5. وحدة الإنسانية:
لأن الوحدانية؛ هي صفة لله عز وجل؛ فلابد أن تحكم صفة التوحيد الإلهي علاقة البشر بالله عز وجل؛ لأنهم جميعًا خلقه.
إن الأدب الإسلامي هو المنجز الجمالي الذي يرتب علاقة البشر بالخالق من خلال القيم الوحدوية؛ كالحق والخير والجمال والحكمة؛ وليس من خلال اللون والعِرق، إن اختلاف السلالات البشرية هي آيات الله على بديع خلقه؛ وليست ميدان الاستعلاء والاحتقار، لهذا هدم الإسلام كل قيمة تفرق بين البشر على أساس السلالة العرقية واللونية واللغوية؛ وجعل معيار التفاوت العلم والإيمان والتقوى؛ لما تتضمنه من احترام للإنسان والحقيقة، إن الأدب الإسلامي هو صرخة الجمال ضد قبح العنصرية التي تنتهك أحد الأسس الإسلامية ألا وهو؛ وحدة الحياة.
إن وحدة الإنسانية هي حقيقة وجودية تقود إلى حوار من طراز خاص بين البشر بوصفهم أفرادًا؛ وبين المجتمعات بوصفها حضارات؛ غايته البحث في المشتركات الإنسانية؛ وتكريس قيم الحقيقة والجمال والخير والحق والحرية والعلم والمعرفة.
إن هذه الأسس والحقائق هي التي تشكل النص الإسلامي الجامع؛ الذي هو في ضوء تلك الأسس؛ مجموعة الرؤى الجمالية والأخلاقية والإنسانية التي يتوحد فيها الحوار؛ ويتحول فيها (النص/الوجود) إلى أشكال جمالية جديدة؛ تعزز قيم الجمال والجلال والحكمة وقيم الوحدة والتوحيد.
إن النص الإسلامي في ضوء تلك الحقائق كذلك هو نص (متناص) بالضرورة مع المصادر الإسلامية؛ ومعطياتها الجمالية، إنه نص نبضه آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-، إنه فعل نابع من تجربة الشاعر الروحية الحضارية، إن اختيار نص معين في الحب أو الألم أو الحكمة وإعادة كتابته في إطار المعاناة الروحية للشاعر؛ هو توسيع للنص الأصلي؛ وتعميق للتجربة الإنسانية وبالتالي هو توسيع للرؤية الحضارية.
الأنموذج التطبيقي:
لقد اخترنا (الديوان الشرقي) للمؤلف الغربي للشاعر الألماني الكبير (جيته) أنموذجًا لدراسة "النص الأدبي الإسلامي" معتمدين (التناص) بوصفه أداة نقدية لتحليل نصوص الديوان والوقوف على مضامينه الإسلامية، وكذلك الكشف عن مواطن التأثر بالنصوص الإسلامية وتمثلها.
لقد عبر (جيته) عن وعي عميق بالمنجز الشعري العربي والإسلامي ويبدو ذلك واضحًا من خلال شروحه لقصائد ديوانه آنف الذكر؛ التي استعرض فيها مصادره الشعرية الإسلامية العربية والفارسية؛ فضلًا عن استيعابه للقرآن الكريم الذي كان حاضرًا في نصه الشعري؛ شاهدًا على عمق حواره مع نصوصه وروحه، لقد كان القرآن الكريم؛ بوصفه النص المؤسس للإسلام؛ هو المحور الذي تأسست عليه إسلامية شعر (جيته)؛ وهو الحبل الذي ربطه بالمنجز الشعري الإسلامي؛ وبالرموز العربية التي احتفظ الإسلام بقيمها النبيلة في الكرم والعطاء مثل (حاتم الطائي) الذي اختاره رمزاً لكرم مشاعر حبه وتدفقها.
لقد كان الشعراء المسلمون الكبار مثل حافظ وسعدي والعطار وقيس وجميل؛ ثاني المصادر التي اغترف منها (جيته) رؤاه ليصوغ تجربته الشعرية، فجاءت عبقة بشذى الإسلام كما هي في القرآن الكريم؛ وكما تجلت في مصادر الجمال الأخرى؛ أقصد الشعر.
ولقد اخترنا (التناص) أحد الأدوات النقدية لدراسة شعر (جيته)؛ والوقوف عند إسلاميته؛ كونه أحد الأدوات النقدية الرئيسة في الدراسات الأدبية، وتتحدد وظيفته في تبيان الدعوى القائلة بأن كل نص يمكن قراءته على أساس أنه فضاء لتسرب واحد أو أكثر من النصوص وتحويله إلى نصوص أخرى(2) أو هو علاقة حضور متزامن بين نصين أو أكثر.(3)
لقد استوحى (جيته) القرآن والتاريخ والعقيدة والجمال الإسلامي؛ فامتزج النص المؤسس (القرآن) بالرموز الحضارية الإسلامية؛ بالشعر الإسلامي، فكان النص "الجيتوي" امتدادًا لتاريخ الإسلام في انتصاره للحب والسلام والأمل الإنساني؛ وتحويلًا له كذلك ليمتزج برؤيته الشعرية، فكانت نصوصه فضاء حضاريًّا جماليًّا؛ امتزج فيها الشرق بالغرب في فضاء الجمال ليعبر عن إمكانية صياغة عالم جديد يتوحد فيه الوحي بالعقل؛ بالجمال؛ بالروح؛ بالشعر، وهو الأمر الذي يبدو أنه لم يسغ للذين درسوا (التناص) وصاغوا أبعاده في النظرية النقدية الغربية، لأنه ليس في وعيهم ولا في إرادتهم أن يكون للإسلام هذا الحضور الجمالي المضيء في الثقافة والأدب.
إن الديوان الشرقي لجيته هو (تناص) جمالي/حضاري؛ حوّل كثيرًا من النصوص الإسلامية إلى نصوص جديدة؛ امتزجت فيها الرؤى الذاتية بالموضوعية والخاص بالعام؛ والتاريخ بالمستقبل، لقد توزع (التناص) عند جيته مع نصوص عدة؛ تناصه مع القرآن الكريم؛ وتناصه مع الشعر الإسلامي في شقيه العربي والفارسي؛ وكذلك تأثر (جيته) بالرموز العربية الأصيلة التي لم تتناقض مع قيم الإسلام الأخلاقية؛ مثل حاتم الطائي، وتأثر بالتاريخ الإسلامي؛ لاسيما في أعظم لحظاته؛ ألا وهي (الهجرة).
لقد ابتدأ (جيته) رحلة تفاعله وتأثره بالإسلام مع الهجرة النبوية من خلال "الهجرة الشعرية" إلى فضاءات الإسلام النقية والسعيدة؛ هجرة العقل والروح والرؤى إلى فضاء القرآن البهي؛ من أجل انبعاث جديد يعيد خلق نفسه والعالم على وفق قوانين الجمال الإلهية صانعة الحب والسلام..
لله المشرق
ولله المغرب
والشمال والجنوب
يستظلان بالسلام بين يديه.(4)
لذلك لابد من الهجرة لتنعم بالسلام هناك؛ سلام الروح والجسد والعقل والجمال.
الشمال والغرب والجنوب تتحطم وتتناثر.
والعروش تثل والممالك تتزعزع وتضطرب.
فلتهاجر إذن إلى الشرق الطاهر الصافي.
كي تستروح جو الهداة والمرسلين..
هنالك؛ حيث الحب والشرب والغناء.
سيعيدك ينبوع الخضر شابًّا من جديد.
إلى هناك حيث الطهر والحق والصفاء.
أود أن أقود الأجناس البشرية..(5)
إن "الهجرة" إذن هي لحظة الدفاع عن الحرية؛ والحرية هي إحدى أهم رموز الكرامة الإنسانية وإحدى مسوغات الوجود الإنساني، لقد تمكن (جيته) من تحويل قضية الشعر في سورة الشعراء إلى قضية التوازن بين الشعور والعقيدة؛ في قصيدته (شكوى) التي انشغلت بهمّ التوازن بين الشعر والعقيدة، وبالتالي تحديد الموقف من الشاعر الحر الملتزم بالعقيدة الذي يصنع بالتزامه مقومات جدوى الحياة وأهميتها.
أتدري لمن يقوم الشيطان بالمرصاد؛
في الفيافي بين الصخور والأسوار؟
وكيف يجيل فيهم النظرات الحداد؛
مقتاداً إياهم إلى أبواب النار؟
إن هؤلاء هم الكذابون الأشرار.
والشاعر؛ لماذا إذن لا يرتاع؟
من الدخول في زمرة هؤلاء الرعاع.
فهل يعرف إذن من يرافق ويصاحب؛
هذا الذي لا يعمل إلا في حال من الجنون غالب؟
والناس سيتركون قصيده يذهب حيث شاء؛
لأنها لا تتفق والقرآن.
فعلموا الناس إذن أيها الراسخون في العلم.؛
والمتدثرون بدثار الحكمة،
علموا المسلمين المخلصين واجبهم المتين.(6)
في هذه القصيدة تناص مع آيات من سورة الشعراء: ((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَأوونَ (224) أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ)) (الشعراء الآيات :( 221 – 225).
*****
والحب كذلك هو أحد مسوّغات الوجود الإنساني، إنه كتاب النفس الإنسانية وفعلها الجمالي الخلاق.
يحدد (جيته) فضاء حبه في أجواء العشق الإسلامية ومراتبه المتعددة بدءًا من حب الرجل للمرأة؛ وانتهاء بحب الإنسان لله عز وجل؛ فيقدم (تناصًّا) مع حب يوسف وزليخا؛ وشيرين لفرهاد؛ وقيس لليلى؛ وجميل لبثينة؛ وسليمان الحكيم لبلقيس..
إن القانون الذي يجمع هذا الألق الإنساني النبيل هو (العفة)، وهي القيمة الإسلامية النبيلة التي لا تمنع الحب؛ وإنما تنظم تدفقه النقي؛ فتفجر ينابيعه الخلاقة في الوقت الذي تحد من الإشباع الحسي والتمادي في الرغبة.
حب زليخا ليوسف؛ أنموذج لهذا الحب الذي حكمته القيمة الأخلاقية فامتنع يوسف عن الوصال؛ وفرّ هاربًا من عنف اللحظة.
إن الحب عند (جيته) نعمة كبرى ..
أجل؛ إن الحب لنعمة كبرى
فمن ذا يجد كسبًا أجمل منه؟
نعم لن تكون أقوى ولا أغنى
ولكنك ستكون مثيلًا لبطل الأبطال.(7)
والبطولة هنا هي جهاد الرغبة في لحظة احتراقها، وهو ما عليه العشاق العذريون؛ الذين يفخر جيته بانتمائه لهم، ولذلك اختار له اسمًا يعبر عن كرم الروح وكرم أخلاقها النبيلة في هذا الحب..
ولما كنت منذ الآن ستدعني زليخا
فلا بد لي أنا أيضا من اسم
حين تتغنين بحبيبك
حاتم! هكذا ينبغي أن يكون اسمه..(8)
****
رسل الحب تظل واحدة من مشاغل العشاق عبر التاريخ، إنهم يحتاجون إلى طرف يديم التواصل حين يبدو (الفراق) في أفق العشق متهيئًا لكتابة سفر السقم والمرارة، ولذلك يقول (جيته):
إن أعجب الأسفار سفر الحب.
لقد قرأته بكل إمعان واهتمام.
قليل من صفحاته تتحدث عن سرور العين.
ومصاحف بأسرها تفيض بالأسقام(9)
ذلك لأن الفراق هو الصفة الأكثر ملازمة للمحبين، ولأن الفراق هو الذي يكتب سر الأحزان، فمن ذا الذي يكشف عن هذا السر ليتلاقى العشاق من جديد؟!
ربما هو الرسول الذي يكشف عن ذلك السوء، ولكن أي رسول؟!
رأى (جيته) أن (الهدهد) هو رسول حب جديد؛ محولًا الهدهد في سورة النمل؛ إلى رسول جديد.
لقد تحول الهدهد –عند جيته- إلى رسول حب جديد يحمل النبأ السعيد الذي رأى فيه ضوء الأمل في قصيدة تحية:
آه ما أسعد جسدي
في بلاد الهدهد
سرت عن موقع بحر
باحثًا في كل صخر
فأتى الهدهد قربي
ناشرًا تاجًا بهدب،
وعلى الميت المسجى
كل حي قد نجى
قلت يا هدهد، ويكَ
أطائر للحسن أحكي
فسراعًا اذهبَّن
لحبيبي واعلنن
كل حبي أبدا
وغرامي المخلدا
كن رسولًا بالنبأ
مثلما في الحقب
بين بلقيس سبأ
وسليمان النبي..(10)
*****
التفكير هو ابن العقل الفعال، هو حقيقة الإنسان الخلاق المتفردة، مثلما هو أحد معالم الإسلام الكبرى، لقد كان التفكير سفرًا شعريًّا رائعًا عند (جيته) معبرًا عن حكمة الحياة وجمالها مستلهمًا عناصر هذه الحكمة من روح الإسلام التي رسمت معالم الشرق الإسلامي وملامحه الجميلة.
ففي قصيدة (خمسة أشياء) يصوغ (جيته) ما يؤكد أن القلب الصفيق أيًّا كان صاحبه لا يعرف الصداقة؛ ولن يعرف اللئام الأدب؛ ولن ينال مجدًا من كان سيء الخلق؛ ولن يفلح حسود:
خمسة أشياء لا تلد خمسًا
فأرع سمعك لهذا المذهب
القلب الضعيف لا ينبت الصديق
أبناء الوضاعة؛ سوء الأدب عندهم بضاعة
لا يبلغ السوء مهما علا أي علا
الحسود لا يرحم المفقود
الكاذب الميّان ينشد عبثًا الإيمان
احفظ هذا عني ولا تدع أحدًا يسلبك إياه..(11)
أما في الخمسة الأخرى فإنه يشيد بالقيم العملية أولًا لأنها سر التقدم والسعادة، ويدعو إلى نبذ البطالة؛ فهي مصنع الكآبة، ويبين أن المثابرة والتساهل يجلبان الخطايا حين لا يكونان للحق ومن الحق، ويأتي الكسب من سرعة التفكير ودقته، أما النخوة والمروءة فهما معراجا الإنسان إلى الشرف والكرامة.
إنها تأثر وتفاعل مع قيم الإسلام العملية الداعية إلى العمل الذي ترهن به نفوس البشر يوم الحساب، والصداقة بوصفها قيمة إنسانية عليا؛ لها في شعر (جيته) نصيب، لقد بنى صداقته على قيم القرآن الكريم، ففي قصيدة موجهة إلى الكونت (جينسناو اكستيل) هناك اقتباس من قوله تعالى: ((وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أو رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)) (النساء الآية : 86).
وأول التحية ذو قيمة سنية
فبادل التحيةمن يبدأ التحية.(12)
لقد عشق (جيته) القرآن الكريم، وكان لهذا العشق أثر في البنية الشعرية لديوانه، لقد أدرك أن القرآن الكريم هو صانع سعادة النفس الإنسانية وباقي بصيرتها؛ وقائد فعلها إلى الخير والكمال، لقد أدرك أن فهم القرآن واستيعابه والتفكر فيه هو المطلب الأساسي:
قديمًا حين كان المرء يستشهد بالقرآن الكريم
كان يذكر اسم السورة والآية
فكان كل مسلم؛ كما هو الواجب
يشعر براحة الضمير والهيبة والطمأنينة
ولا يستطيع الدراويش المحدثون أن يفعلوا خيرًا من هذا
إنهم يثرثرون عن القديم، ويصنعون الجديد
فيزداد التشويش كل يوم
أيها القرآن الكريم؛ أيتها الطمأنينة الخالدة..(13)
في هذا النص الذي يشير إلى أهمية القرآن في بناء الوعي الإسلامي، هناك تمثل آيات التدبر والتفكر في القرآن الكريم؛ ذلك أن القرآن يحقق الطمأنينة واليقين حين نحسن تدبره.
لذلك لم يهتم (جيته) بالنقاشات التي دارت حول القرآن الكريم؛ هل هو قديم أم مخلوق؟! بل استلهم حكمة القرآن ونصوصه العظيمة التي أعادت هندسة العالم على وفق قيم الحق والخير والجمال كما أرادها الله تعالى للبشرية.
هل القرآن قديم؟
هذا أمر لا أسأل عنه.
هل القرآن مخلوق؟
لست ادري
أما أنه كتاب الكتب؛
فهذا ما أؤيده، كما هو فرض على كل مسلم.(14)
والقرآن بالمنظور الصوفي هو مصدر سكر الروح؛ هو خمرها العذب؛ لهذا انشغل (جيته) بسكر الروح في حضرة الجمال الإلهي؛ في لحظة خلق شعري جديد؛ متناصًّا مع حافظ وخمرته وهو يضع قوانين السكر في حضرة الحبيب:
طالما كان المرء في صحو
اغتبط بالسوء
وإذا شرب
عرف الخير
لكن سرعان
ما يكون ثمة إفراط
إي حافظ
أخبرني كيف فهمت هذا؟
لأن راسي
لا مبالغة فيه
من لا يعرف الشراب
ينبغي أن لا يعشق
أما انتم أيها الشاربون؛
فلا تحسبوا أنفسكم بهذا أفضل
إذا لم يعرف المرء كيف يحب
ينبغي عليه أن لا يشرب. (15)
*****
وللنبوة حضورها في الحياة الإنسانية، فهي ضوء الخلاص على وفق هدى الله عز وجل، وللنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- حضوره المتميز في تاريخ النبوة؛ فهو مهندس العالم الجديد؛ رباني سلامه وخلاصه؛ هو خلاصة حكمة الأديان السماوية؛ وبداية عصر العقل الممزوج بشريعة الله.
ولعمق تأثير الرسول محمد -صلى الله عليه وسل-م وحضوره وقوته في العالم؛ جيشت ضده الجيوش؛ جيوش الحقد؛ وعملوا على إحباطه وإحباط رسالته بوسائل شتى؛ ظانّين أن الله لن ينصره.
لقد خلد القرآن الكريم هذا النمط من المواجهة مع النبي في سورة الحج (الآية:15) بقوله تعالى: ((مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)).
لقد كابد (جيته) حب النبي محمد –صلى الله عليه وسلم-، مستلهمًا قول الله تعالى آنف الذكر، في قصيدة النبي:
إذا اغتاظ أحد من أن الله
شاء أن يهب محمدًا الأمن والسعادة
فليربط حبلًا متينًا بأقوى الأعمدة
في قاعة بيته
وليشنق نفسه به، فهذا مفيد له؛
إذ سيشعر حينذاك بأن غيظه سيذهب عنه.(16)
*****
وفي كتاب (الخلد) -من الديوان الشرقي- يظهر استلهام القيم الإسلامية التي تحقق إسلامية النفس ومعرفتها بالعالم، ففي قصيدة: (سبق مذاق) -على سبيل المثال- حضور لآيات أجواء الآخرة، الجنة والجحيم:
المسلم الحق يتحدث عن الفردوس
كما لو كان هو نفسه هناك
ويؤمن بالقرآن وما يعد به
وعلى هذا الأساس تقوم العقيدة الطاهرة
والنبي؛ الذي أنزل عليه هذا الكتاب
يعرف نقائصنا ويكشفها في الأعالي
ويرى أنه على الرغم من رعود اللعنات
فكثيرًا ما تأتي الشكوك لتسمم الإيمان
ولهذا يرسل النبأ من عليم
أعجوبة شباب لتجديد شباب كل شيء
تنزل برقة وفي الحال
تعانق رقبتي وتربطها بألطف الروابط
وفي حجري؛ وعلى قلبي أضم
هذه المخلوقة السماوية؛ ولا أريد المزيد
ومن هنا أؤمن بالفردوس إيمانًا راسخًا
لأني أريد أن أقبلها إلى الأبد بإخلاص(17)
إنه سحر الجنة؛ وحورياتها؛ وخمرها؛ اللذة التي لا تنضب، إنها أماني النفس الإسلامية التي تحلم بالانغمار في أنهار لذة الجنة الخالدة.
في قصيدة (ناس ممتازون- صفحة:307) تناصات مركبة مع سورة الواقعة والرحمن والنجم؛ حيث معاني الجهاد والجنة وحقيقة الانتصار الإسلامي، تتمحور كلها حول أعظم لحظة تاريخية في حياة الإسلام (معركة بدر)، إذ يتكلم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد المعركة تحت السماء المرصعة بالنجوم ..
ليبك الأعداء موتاهم
فقد جندلوا إلى غير رجعة
أما أنتم فلا تبكوا إخواننا
لأنهم يطوفون وراء هذه الأفلاك
والكواكب السبعة كلها
وأبوابها المعدنية مفتوحة على اتساعها
وأحبابنا المجدون ها هم يقرعون
أبواب الفردوس بجسارة
ويجدون هناك؛ دون توقع
ألوان البهاء؛ التي لم يسمع بها؛ والتي يمسها معراجي
حين يحملني الفرس العجيب في لحظة
خلال السماوات(18)
للشهادة حضورها في تناصات (جيته) مثلما للشهادة مكانتها في الشريعة الإسلامية، في قصيدته (السماح بالدخول) تناص مع آيات الشهادة في القران الكريم، فالحورية تقف على باب الجنة تسأل الداخلين إن كانوا قد استشهدوا؛ وتطلب أن يروها مواضع الجراح؛ دليلًا على الشهادة، والتناص في القصيدة لا يقف عند حدود الجهاد والحرب بل يمتد إلى جهاد آخر هو جهاد النفس ضد غرائز الشر؛ عبر التزكية؛ والانتماء إلى الله عز وجل، فإذا كانت الحورية في المقطع الأول تطالب الداخل بالجراح أثرًا على الجهاد، فإن (جيته) في المقطع الثاني يطرح على لسان الشاعر الذي يطالب هو الآخر بدخول الجنة بوصفه بطلًا ومحاربًا من طراز آخر، إنه بطل الجهاد الأكبر في معركة الحياة ضد مغرياتها وسعيًا لكسب ما هو ضروري لها، إنه بطل الإخلاص في الحب؛ بطل تزكية النفس التي تقود إلى الفلاح؛ والفلاح مدخله الجنة:
دعيك من كل هذه المماحكات
واسمحي لي بالدخول
لأني كنت رجلًا
ومعنى هذا إني كنت محاربًا
احدَّي بصرك القوي
وانفذي هنا أعماق قلبي
انظري خساسة جراح الحياة
انظري شهوة جراح الحب
ومع ذلك فقد غنيت غناء الزمن الصادق
فقلت إن حبيبتي أخلصت لي
وان العالم مهما تدور به الأحوال
كان مليئًا بالحب وعرفان الجميل(19)
في قصيدة أهل الكهف؛ تناص مع سورة الكهف، تتحول أجواء القصة إلى عالم معين؛ أهله مثل أهل الكهف ينامون بلا وعي، فيتمثل (جيته) دور المصطفى في إنقاذ العالم الذي بات كهفًا مسدودًا يضم رفات الوعي والأخلاق؛ في حين يذهب الذين رقدوا فيه إلى الجنة؛ لأنهم آمنوا بالله حق الإيمان..
ستة من المقربين في القصر
يهربون من غضب الإمبراطور
الذي يريد أن يعبده الناس كإله،
لكنه لا يكشف عن نفسه إلهًا:
لأن بعوضة تمنعه
من الاستمتاع بأطايب المائدة،
وخدمه يطيِّرون البعوضة بتحريك المروحة
لكنهم لا يستطيعون طردها.
إنها تطنّ حواليه؛ وتلسعه؛ وتحوِّم
وتعكر كل المأدبة،
ثم تعود من جديد
كرسول بعثه إله الحشرات الشري.
فقال الخدم: ماذا!
أتستطيع ذبابة صغيرة أن تضايق إلها؟
وهل يشرب الإله ويأكل مثلنا نحن؟
كلا؛ إن الواحد الذي خلق الشمس والقمر ودَوَّر فوقنا قبة السماء ذات النجوم
هذا هو الله، فلنهرب! والفتية اللِّطاف؛
ذوو الخفاف الخفيفة والزينة الرقيقة
آواهم راع خبأهم
هم وهو معهم في كهف صخري
ولم يشأ كلب الراعي أن يذهب،
سد عليهم باب الكهف
لكنهم ينامون باستمرار
والمَلَك الذي يرعاهم،
يقول في تقريره أمام عرش الله
"لقد قلبتهم ذات اليمين وذات الشمال
حتى لا تضار أعضاؤهم الرقيقة
بما ينبعث من هذه الحُماة.
وفتحت شقوقًا في الصخور
حتى تجدد الشمس؛ في طلوعها وغروبها،
الألوان النظرة لخدودهم:
وهكذا يرقدون في نعيم"
والكلب الغير؛ مستندًا إلى قدميه الأماميتين وقد شُفيتا
ينام نوما هادئًا.
وتمر الأعوام؛ وتأتي السنون؛
وأخيرًا يستيقظ الفتية؛
والجدار؛ وقد قرضه الزمان؛
تهدم من القِدَم.
وقال: يا مبليخوس الجميل
وهو خيرهم علمًا وتربية؛
وقد شاهد الراعي خائفًا
"سأعود! وسآتيكم بطعام
وسأخاطر بحياتي وبقطعة الذهب!"
وجرى مسرعًا؛ لكن الباب؛
والأسوار والبرج وكل شيء كان قد تغير
كأنه أسرع إلى أقرب خباز
وطلب خبزًا وهو في لهفة.
فصاح الخباز: "أيها الوغد!
هل وجدت؛ أيها الفتى؛ كنزًا؟
إن هذه القطعة من الذهب تفضح أمرك
أعطني؛ قاسمني إياه ونتفاهم!"
وتنازعا، وأمام الملك
عرضت القضية؛ والملك هو الآخر
لا يريد إلا أن يقاسمه مثل الخباز
هنالك تكشف المعجزة
شيئًا فشيئًا بآلاف العلامات.
والفتى يستطيع أن يقرر حقه في القصر
الذي بناه بنفسه،
لأن عمودًا، شُقَّ،
أفضى إلى كنوز نقشت فيها أسماء محددة،
وفي الحال تجمعت أسر
لتقدم دليلًا على قرابتها،
وأحاطت به جماعة ذريته
وهم صفوة من كرام القوم
ليكرموه، وهو أكثرهم شبابًا
وجاءت علامة بعد أخرى،
تتدافع لتتم البرهان
بالنسبة إليه وإلى أصحابه
فقد استعاد شخصيته.
ثم عاد إلى الكهف
يصحبه الشعب والملك
ومصطفى أسماء هذا
لا يلتفت إلى الملك ولا إلى الشعب:
لأن السبعة (وكانوا ثمانية إذا حسبنا الكلب)
قد انسحبوا من العالم منذ زمان طويل،
وقوة جبريل السرية
حملتهم إلى الجنة
حسب مشيئة الله
وبدا الكهف مسدودًا .(20)
الهوامش:
(1)
(2)علم النص، جوليا كريستيفا، ص 33
(3) مدخل لجامع النص، جيرار جينيت، ص 56.
(4) الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، جيته، ص65
(5) الديوان الشرقي، ص 55
(6) الديوان الشرقي، ص97
(7) الديوان الشرقي، ص 118
(8) الديوان الشرقي، ص 210
(9) الديوان الشرقي، ص 120
(10) الديوان الشرقي، ص 129
(11) الديوان الشرقي، ص 138
(12) الديوان الشرقي، ص 143
(13) الديوان الشرقي، ص 179
(14) لديوان الشرقي، ص 269
(15) الديوان الشرقي، ص 269
(16) الديوان الشرقي، ص 179
(17) الديوان الشرقي، ص 306
(18) الديوان الشرقي، ص 307
(19) الديوان الشرقي، ص315
(20) الديوان الشرقي، ص 330-334
المصادر
* القران الكريم:
(1) إسلامية المعرفة، المبادئ، خطة العمل، الإنجازات، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، 1406هـ /1986م.
(2) جوليا كريسطيفا –(علم النص)– ترجمة فريد الزاهي –مراجعة عبد الجليل ناظم– دار توبقال للنشر- الدار البيضاء– المغرب– 1969م.
(3) جيرار جينيت(1985م)، (مدخل لجامع النص)، ترجمة عبد الرحمن أيوب، دار الشؤون الثقافية للنشر، بغداد ودار توبقال، المغرب.
(4) جيته (1967م)، (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي)، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار النهضة العربية، القاهرة –مصر.
التدقيق اللغوي: ريم المطيري.