1 - الغناء كمنبر للفكر التعددي الغربي:

إذا كانت الفنون التشكيلية قد قادت الإقلاع الثقافي الأوربي منذ عصر النهضة حتى ظهور السينما عند بدايات القرن العشرين، فإن مشعل التنوير انتقل مند الخمسينات من القرن الماضي إلى الموسيقى بالدرجة الأولى والسينما بالدرجة الثانية. ونظرا لانتشار محطات البث السمعي- المرئي وتنامي قدرتها على اختراق البيوت، فقد بدأت منافساتها وسباقاتها حول كسب "الأفراد" و"الأسر"، من داخل البيوت، وامتلاكهم عبر تغيير معارفهم وسلوكاتهم وأذواقهم وذاكرتهم... فقط من خلال الصوت أو الصورة أو هما معا. هكذا أصبح امتلاك محطة إذاعية أو تلفزية أو قاعة سينمائية شكلا من أشكال الفعل الإجتماعي بنوعيه التغييري والتكريسي من خلال المواد الغنائية المبثوثة. ولأنه فعل اجتماعي فقد كان بحاجة للتنظير والتأطير.

ولأن الإطار النظري يحتاج إلى الظرفية التاريخية كي يستمد منها مشروعيته وأصالته فقد كانت له الفرصة التي ما بعدها فرصة في الحركات الاحتجاجية ضد التدخل العسكري الأمريكي في الفيتنام، والمظاهرات السلمية للمطالبة بالحقوق المدنية لزنوج أمريكا، والمظاهرات الطلابية في كافة أنحاء أوربا وأمريكا عام 1968، واغتيال الزعماء التاريخيين (باتريس لومومبا، تشي غيفارا، مالكوم إكس، مارتن لوثر كينغ)... هذا الغليان استثمر في الأغنية الغربية ( الأنغلو-ساكسونية خصوصا )التي لم تكتف بالغناء عن لحظات تاريخية منفصلة عنها بل نزلت إلى الشارع، إلى الجماهير وآنذاك بدأ التفاعل الحقيقي بين مغن ومتلق يغنيان سويا على الأرض ضد الظلم والاستعمار والميز العنصري وهيمنة الرأي الواحد...الغناء كشكل من أشكال مقاومة الرأي الواحد كان يستمد مقومات وجوده من معيارين أساسيين هما:

1)- تبني أشكال موسيقية جديدة : موسيقى الأقليات (بلوز، جاز )، موسيقى الأرياف(موسيقى الكانتري )...
2)- تبني نغمات صوتية جديدة تخرق العرف الغنائي السائد.

فبموازاة مع الاحتجاج العام على التوجه التوسعي لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، تنامى الاحتجاج على الثقافة الرسمية السائدة وفنونها وخطاباتها من خلال تبني ثقافة شعبية مخالفة من تجلياتها:استبدال اوركسترا السمفونية بالمجموعة الموسيقية الشعبية القليلة العدد، واستبدال الأوبرا بطاقاتها الصوتية العالية( آلطو/صوبرانو ) بفرقة الجاز بطاقاتها الصوتية المنخفضة (باص) كدليل إحباط وملل وقنوط...وقد بلغ الأمر أن وقف ريتشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي الأسبق، أمام الكاميرا ليقول:" إن هؤلاء الزنوج سيلوثون أذواق أبنائنا وحسهم الموسيقي بهذه الموسيقى."

أما المعيار الثاني، تبني نغمات صوتية جديدة تخرق العرف الغنائي السائد، فيتجلى في تشتيت معيار" "الصوت الناعم". وهكذا أصبح الصوت الذكر في الأغنية الغربية ليس بالضرورة ناعما أو رجوليا. إذ بإمكاننا التمييز بين:

1)- الصوت الذكر/ المؤنث: البي دجيز، السوبر ترامب...
2)- الصوت الذكر الأنفي: بوب دايلن، غراهام ناش...
3)- الصوت الذكر المبحــوح: جو كوكر، برايان آدمز...
4)- الصوت الذكر الغليــظ: لويس ارمسترونغ...

وبالمثل، أضحى صوت الأنثى في الأغنية الغربية ليس بالضرورة ناعما أو أنثويا، إذ يمكننا التمييز بين:
1)- الصوت الأنثوي/الذكر: تينا تورنر...
2)- الصوت الأنثوي المبحوح: بوني تايلر...
3)- الصوت الأنثوي الطفو لي: سيندي لوبر...
4)- الصوت الأنثوي المرتعش: ترايسي تشابمان...

فما موقع الأغنية العربية داخل الفعل الغنائي الإنساني؟وما هي درجة العلاقة بين الأغنية العربية والتنظير الغنائي العربي؟ هل الأغنية العربية واعية بقيمة شكلها وأهميته كمنتج مواقف إزاء مضمون الأغنية وإزاء الوضع الاجتماعي العام وإزاء الوجود؟...


2 - ورطة الغناء العربي بين سلطة " الواحدية " وإرادة " الحرية ":


للأغنية العربية "خصوصية" تجعلها بعيدة عن المسار الذي سارت فيه جارتها الشمالية. فدخول المذياع والتلفاز والسينما والفيديو والDVD والانترنت وغيرها ،فضلا عن الأحداث العربية المصيرية التي حفرت ذاكرة القرن العشرين، لم تترك آثارها على الأغنية العربية كما حدث لجارتها الأغنية الغربية التي مرت بنفس الشروط وذلك للأسباب التالية:

1)- أن الفلسفة التي تحكمت في دخول وسائل الاتصال السمعية- المرئية للعالم العربي لم يكن الغرض منها "تطوير الإنسان العربي" بل "ضبطه". والدليل هو أن المنافسة بين القنوات العربية كانت " منافسة جغرافية"، الشيء الذي أنتج أغاني "عادية" بإيقاعات جغرافية محلية ! ...
2)- أن القمع السياسي الذي ولدته الهزائم العربية السياسية والعسكرية جعل الشارع العربي حكرا للتجول والتسوق. ولذلك كان يبدع المطرب (ة) العربي (ة) مواويله (ها) وآهات عشقه (ها) في استوديو التسجيل بينما النار تحرق شام ونيل1967والشارع محروس بالعصي والمطرب المتمرد محروم من تأشير الدخول لإحياء العروض الغنائية...

ولأن "الاختلاف" في لذهنية العربية يعني آليا "الفتنة"، فقد تقوت مفاهيم "الواحدية" و "الإجماع" على لسان الأغنية العربية التي عوض إنتاج خطاب البديل والمثال والحرية والاختلاف، أنتجت خطاب "السلطة" وعززت معايير "الواحدية" و " النمطية":

1)- الصوت الذكـــوري: ناعم وذكوري، باستثناء صوت عربي واحد خرق المعايير وفرض ذاته بصوته الأجش الغليظ، المطرب الشامي فهد بلال، ولكن "السلطة" الفنية، التي أصبحت تعبر عن نفسها على لسان رجل الشارع العادي، تابعته بالتنكيت لخروجه عن المعيار المحدد للمغني الذكر: الصوت الناعم.
2)- الصوت الأنثــــوي: ناعم وأنثوي، باستثناء باستثناء أصوات أنثوية قليلة انزاحت عن المعيار النمطي وفرضت ذاتها بأصواتها المبحوحة: المطربة المغربية نعيمة سميح، والمطربة نجوى كرم وهيام يونس...

هكذا، بانفصالها عن الشارع العربي بمطالبه وآماله واحباطاته، أصبحت الأغنية العربية مجرد نوطات يملأ بها المذياع والتلفزيون آذاننا بنا في انتظار ساعة نومنا نحن ، ونهاية بثه هو. وتأسيسا على ذلك، غاب أكبر منبر جماهيري لتمرير خطاب الدمقرطة والتحرر والوعي الحقوقي، وغابت معه أسئلة المواطنة والحوار...

لقد عانت الأغنية العربية من كونها أغنية مونولوج، تغني لذاتها. حتى الطفرة النوعية التي حققتها مجموعات شعبية غنائية مغربية خلال السبعينات ( ناس الغيوان، جيل جيلالة، تاكدة، إزنزارن...) بمحاولاتها الارتقاء إلى الأغنية الجماعية كانت في أصلها أغنية مونولوج لكون الأغنية تغنى في نفس الآن بأصوات أعضاء المجموعة جميعا. المطلب الآن هو الارتقاء إلى الأغنية الحوارية: حوار الذات مع الآخر.


3 - الحوار: المفهـــــــوم والأشكال


هناك من يفصل قنوات التعبير الإنساني إلى ثلاث:

1-المونولوج: وهو حوار داخلي مع الذات.
2-الحـوار : يقتضي حضور طرفين ( إما فردين أو جماعتين ) يتواصلان لغويا، جسديا
3-التفاوض : حوار غائي مصلحي واعي بمصالح الذات والآخر ويعمل على التوفيق بينها...

لكن القاعدة العامة لكائن اجتماعي كالإنسان تبقى هي " الحوار" فهي قناته التعبيرية الأساس لا يستبدلها بالمونولوج إلا في هزائمه وإحباطا ته وشكوكه وخوفه من الآخر. كما لا يستبدلها بالتفاوض إلا في التسويات الرسمية والتنازلات المتبادلة...

"الحوار" هو القاعدة في كل شكل من أشكال التعبير الإنساني، بل الحوار يحتوي حتى الحلقتين الأخرتين : فنحن دائما في حوار. حتى في خلوتنا ومونولوجاتنا نمارس حوارا هادئا مع ذواتنا. بل حتى في حوارنا مع الآخر نمارس حواريا تحتيا خفيا إما مع ذواتنا أو مع من هم أقرب إلينا لمعرفة درجة خطئنا أو صوابنا في قرار ما... نحن دائما في حوار حتى ولو لم يكن هناك آخر لأننا جميعا نحمل معنا "أنا وآخر"، وهذا هو وقود كل حوار... لكن أرقى أنواع الحوار هو "الحوار الواعي"، الحوار الذي يحتفل بالطريقة والأسلوب والشكل الذي يتم به تبادل الخطابات لفظية كانت أو جسديا أو موسيقية أو غيرها. وأحط أنواع الحوار هو "حوار الصم" أو "الحوار /المونولوج" الذي يخاطب آخرا وهو لا يعترف جوهريا وشكليا بوجوده.

الاهتمام بالحوار هو اهتمام حديث رافق التنظير الفكري والإبداعي والسياسي والتاريخي الهادف إلى الانفتاح على الآخر الذي قد يكون جزء من ذاتنا تارة أو وجودا منفصلا تارة أخرى، أحيانا تحت اسم "شراكة" وأحيانا اخرى تحت إسم "تناص" أو "تلاقح"... والأغنية كشكل من أشكال الثقافة معنية ب"الحوار"، ولكنها كتجل من تجليات عقلية المجتمع رهينة النسق العام سواء في إرادة الانفتاح والتلاقح والتعدد أو في إرادة التقوقع والرأي الواحد.



4 - أنواع الحوار الغنــــــائي:


استثمار الحوار في الأغنية يجعل من النص المغنى نصوصا لانهائية انطلاقا من خلفية المتحاورين:

1)- الجنسية (gender) : رجل / امرأة...
2)- أو الإثــنية : زنجي / أبيض...
3)- أو العمرية : أب / طفل...
4)- أو الدينية : مسيحي / مسلم...
5)- أو الطبقية : بورجوازي المنشا / سليل طبقة عاملة...

أو من شكل عرض الحوار:

1)- أداء انفرادي متعاقب ثم ختام ثنائي (= نشدان المساواة)
2)- أداء مزدوج مند البداية ( نادر )
3)- المغني الأول منفرد والثاني يمول (= تناص، تلاقح بين ثقافتين مختلفتين )

وثقافة الحوار تمنح الأغنية ثراء ما بعده ثراء. وقد يكون هذا واضحا في الأغنية الغربية حيث يتقدم الغناء بموازاة مع التنظير الغنائي والتأطير الموسيقي.أما في الأغنية العربية، فالشكل التعبيري المهيمن هو"المونولوج"، مع غياب شبه مطلق للحوار: فـأم كلثوم، " سيدة الطرب العربي"، لم تقبل بحوار مع أحد إلا في أغنية وحيدة وهي أغنية "إحنا لوحدنا"، مع إبراهيم حمودة. وربما لو لا تدخل السينيما لما عرفت الأغنية العربية الحوار الغنائيإذ ان أغلب الأغاني الحوارية هي أغاني افلام سينيمائية !...

لأن الثقافة العربية هي "ثقافة الفكر الواحد"، فقد كانت الأغنية العربية هي أيضا أغنية "الصوت الواحد". حتى في المحاولات الجديدة للإقلاع بثقافة "الحوار الغنائي"( = duo )، فلا يتعلق الأمر سوى بالتفاف حول القضية ولنا المثل في أغنية "إنت اللي بحبو أنا" حيث يقف المطرب وائل كافوري جنب المطربة نوال الزغبي يخاطبان بعضهما البعض بصيغة المذكر ولا يتبادلان ولو نظرة !!! بل حتى عند إعادة أداء أغنية لمطرب آخر (= reprise)، فعلى المستمع العربي أن ينتظر جيلا كاملا كي يستمع لأغنية لقيت نجاحا تغنى بصوت مغاير لأن المطرب العربي لا يقبل بإعادة أداء أغاني مجايليه من المطربين، فأغاني أم كلثوم أعاد أداءها الجيل الثالث والرابع من المطربين والمطربات العرب بينما كانت القطيعة بينها وبين بافي المطربين والمبدعين بادية للجميع فالمصالحة بينها وبين الموسيقار محمد عبد الوهاب لم تتحقق إلا بالتدخل الشخصي للرئيس جمال عبد الناصر في بداية الستينيات !...

لا مجال للمقارنة بين أغنية عربية قدر لها صوت واحد وأغنية غربية تصبح للتو مشروع حوار.فمثلا، أغنية "على طريقتي" (= My Way) للمغني الأمريكي فرانك سيناترا، على إثر النجاح الكبير المنقطع النظير الذي لقيته نظرا لتغنيها ب"حرية الاختيار" و"الإعتزاز بالتجربة الذاتية"، فقد تناوب على أدائها العباقرة من مجايلي المغني من أمثال : إلفيس بريسلي، نينا سيمون... وكانت مع كل صوت تتخذ بعدا جديدا يستمد جدته من الصورة التي يكونها الجمهور عن المغني او المغنية...


5 - الإقصاء ظاهرة عربية بامتيـــــاز :


هناك من يخلط بين "الأغنية العربية" وبين "الأغنية العربية المشرقية". والمسألة ليست بهذه البراءة . إنها تنم عن ذهنية عليلة أساسها أن المشرق هو المركز والمغرب هو الهامش . ولذلك فجميع القنوات الإذاعية والتلفزية المشرقية تحصر الأغاني المبثوثة على أمواجها على رقعة جغرافية تتأرجح ما بين الخليج والشام والنيل حتى إذا ما تقدم سائل مغربي إلى فضائية خليجية بالسؤال التالي، وقدحدث فعلا:

" لماذا لا تبتون أغاني الراي والشعبي المغربي؟ "

كان الجواب التالي :

" الراي ماجن والشعبي المغربي كلماته غير مفهومة !... "

المشرق العربي يقصي المغرب العربي، والمغرب العربي يقصي أغاني جيرانه المغاربيين، وفي نفس الوقت كل دولة تقرب نوعا غنائيا وتجعله فنا رسميا ( الطرب الأندلسي في المغرب مثلا ) بينما تقصي أنواعا غنائية أخرى وتختزلها في كلمة "فولكلور"...


6 - تركيـــــب :


إن أي مشروع لتجديد الخطاب العربي العام لابد له من إدراج تجديد الخطاب الغنائي ضمن جدول أعماله. بل من الأجدى إعطاء الأولوية في التجديد للأغنية العربية وجعلها قاطرة للمشروع العربي الغدوي مضمونها "التعددية" ولسانها "الحوار"، الحوار الشامل: حوار المغنين، حوار الآلات، حوار المقامات... لقد قال أحدهم ذات مرة :" إذا أردت التعرف على شعب، فشاهد مسرحية واستمع إلى موسيقاه "، فلماذا لا نكون أسياد أنفسنا ونصنع لذواتنا صورا مشعة تجعلنا جديرين بالوجود وتغري الآخرين بقيمة حضورنا وفعلنا الإنسانيين ؟
كاتب مغربي
محمد سعيد الريحاني كاتب مغربي، عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو هيئة تحرير «مجلة كتابات إفريقية» الأنغلوفونية. حاصل على شهادة الدكتوراه في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2021. وحاصل على شهادة الماجستير في الكتابة الإبداعية من كلية الفنون الجميلة بجامعة لانكستر بإنجلترا، 2017.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية