الباحث في اللغة العربية وتاريخها يتراءى له أن الخط العربي لم يظهر فجأة دون سابق عهد؛ فالطفرة المفاجئة ليست من طبيعة الأشياء، ولكنه مر بعدة مراحل، نوجزها في النقاط التالية:
1ـ المرحلة التي تأثر فيها بالخط النبطي تأثرًا شديدًا.
2ـ استقل الخط العربي عن الخط النبطي بعد أن استعمله عرب الحجاز لأنفسهم قرابة قرنين من الزمان.
3ـ انتهى الخط إلى مكة والمدينة، وعرف بالخط الحجازي.
4ـ انتقل الخط من الحجاز إلى غيرها من الأماكن، ومهد لظهور الخط العربي.
5ـ توج الخط العربي بنزول القرآن الكريم؛ وبذا صار في نهضة لا يضاهيها مثيل.
وقد كان للإسلام أثر بالغ في تنمية الخط العربي وتطوره؛ ومن ذلك ما يأتي:
1ـ أوجب الإسلام على المسلمين كتابة العقود، كعقد البيع والدين وغيرهما. يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله".
2ـ عظم الإسلام من شأن القراءة والكتابة؛ فمن المعلوم أن أول سورة نزلت في القرآن الكريم بدأت بقول الله تعالى: "اقرأ"، ثم نزلت السورة الثانية مبدوءة بقوله تعالى: "ن والقلم وما يسطرون".
3ـ حرص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تدوين القرآن الكريم، واختياره مجموعة من الناس يجيدون الكتابة، ممن هداهم الله إلى الإسلام؛ فخصهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بكتابة الوحي؛ فصاروا يعرفون بكتَّاب الوحي.
4ـ فضل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتعلم المسلمون القراءة والكتابة على جمع الأموال؛ وذلك في غزوة بدر الكبرى؛ حيث أمر الرسول أن يفدي الكافر نفسه بتعليم عشرة صبية من المسلمين القراءة والكتابة.
5ـ تدوين الصحابة للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف دليل على أهمية الكتابة عندهم.
6ـ حرص المسلمون أن يعلموا أبناء المناطق الجديدة القراءة والكتابة؛ حتى يتمكنوا من قراءة القرآن الكريم وتلاوته.
ولكن رغم اهتمام الإسلام من وقت نزوله بالخط العربي إلا أن الخط لم يسلم كغيره من الظواهر اللغوية بتيارات التغيير واللغط والخطأ، ولم يظهر كل هذا إلا بعد أن تفشى اللحن في الدولة الإسلامية؛ بعد أن دخلها الأعاجم من كل صوب وحدب؛ ولهذا بدأ اللغويون المتخوفون على لغتهم يعملون على رأب هذا الصدع وعلاجه. وظهر ذلك في جانبين اثنين، هما:
الجانب الأول: الإعجام.
الجانب الآخر: الشكل.
ونبدأ في توضيح الجانبين كما يأتي:
الجانب الأول: الإعجام.
ويقصد به تمييز الحروف بالنقط؛ فهناك حرف "ب"، وهناك حرف "ت"، وهناك حرف "ث"، وغيرها يفرق بينها بالنقط.
وأول من صنع النقط (نصر بن عاصم)؛ حيث يروى عنه أن الناس استمروا يقرؤون مصاحف عثمان بن عفان نيفًا وأربعين سنة إلى عهد عبد الملك بن مروان، ثم كثر التحريف والتصحيف، وانتشر في العراق؛ ففزع الحجاج إلى كتَّابه، وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف علامات؛ فقام نصر بن عاصم فوضع النقط أفرادًا وأزواجًا، وخالف بين أماكنها بتوقيع بعضها فوق الحروف، وبعضها تحت الحروف.
ثم أكمل نصر بن عاصم عمله؛ فأعاد ترتيب الحروف وفق الحروف المتشابهة: أ ب ت ث ج ح خ د ذ... إلخ، وهو ما يعرف بالكتابة الهجائية المعمول بها الآن.
وهو بهذا قد غاير الترتيب السامي القديم والمعرف بالكتابة الأبجدية، وهو: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ.
الجانب الآخر ـ الشكل:
ويقصد به ضبط أواخر الكلمات بالحركات، وقد مرت هذه المرحلة بمرحلتين، هما:
مرحلة أبي الأسود الدؤلي:
روي عنه أنه سمع قارئا يقرأ "أن الله بريء من المشركين ورسوله" بكسر اللام في رسوله، فقال: ما ظننت أن أمر الناس صار إلى هذا؛ فطلب إلى زياد بن أبيه كاتبًا لقنًا يفهم عنه ما يقول؛ فأتى بكاتب من عبد القيس؛ فلم يرضه، فأتي بكاتب آخر؛ فقال أبو الأسود: إذا رأيتني فتحت فمي بالحرف فانقطه نقطة فوقه على أعلاه، فإن ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت شيئًا من ذلك غنة فاجعل الحرف نقطتين.
ولقد تعرض عمل أبي الأسود الدؤلي إلى تغيير في العصر العباسي، تحت إلحاح التيسير؛ حيث تم توحيد لوني الحروف والنقط في لون واحد؛ لأن استخدام أكثر من لون فيه مشقة على الكاتب وتعب، إضافة إلى أن اللونين قد يختلطان؛ فيصبح من الصعب التمييز بين الحروف بعضها عن بعض.
لكن توحيد النقط ولد لبسًا؛ لأن نقط الشكل اختلطت بلغة الإعجام؛ ومن ثم جاء من يزيل هذا اللبس وهو العالم الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي تمثل عمله فيما يأتي:
ـ رمز إلى الفتحة بألف صغيرة فوق الحرف، وإلى الضمة بواو صغيرة أعلى الحرف، وإلى الكسرة برأس ياء صغيرة تحته.
ـ رمز إلى التنوين بمضاعفة الرموز السابقة.
ـ وضع للسكون الخفيف رأس خاء بلا نقط هكذا (ح)، وللسكون الشديد الذي يصاحب الإدغام رأس شين بغير نقط هكذا (سـ).
ـ وضع للهمزة رأس عين (ء).
ـ وضع لألف الوصل رأس صاد (صـ) توضع فوقها دائمًا، مهما كانت الحركة قبلها.
ـ وضع علامات للروم والتشديد.
ـ وضع للمد رمزًا عبارة عن ميم صغيرة مع جزء من الدال هكذا (مد).
ويتضح مما سبق ذكاء الخليل بن أحمد وبراعته في وضع أسس الشكل الحرفي، التي أثرت في من جاء بعده من تلامذته.
لقد قام تلامذة الخليل باستكمال مشروع الشكل الذي بدأه، وتمثل عملهم فيما يأتي:
ـ حذف جزء من رأس الياء فصارت خطًا أفقيًا صغيرًا يوضع تحت الحرف؛ فصارت الكسرة "ـ".
ـ جعلوا الفتحة خطًا أفقيًا صغيرًا فوق الحرف، وأبقوا الضمة على ما هي عليه.
ـ أجازوا في تنوين الضمة أن يكتب نونًا بخط الرقعة المائل.
ـ أجازوا أن توضع كسرة الحرف المشدد فوق رأس عين، أو أن تكون تحت الحرف، مع وجود الشدة فوقه.
ـ أجازوا في الهمزة المكسورة أن توضع مع كسرتها تحت الألف، أو تكون فوق الألف والكسرة تحتها.
ـ حذفوا الميم من علامة المد.
ويبقى أن نقر بشي ألا وهو إذا كان للخط العربي هذا الاهتمام الكبير؛ فهذا لا لشيء سوى كونه يمثل دورًا كبيرًا وبالغًا في حياتنا نحن العرب على الجانبين: اللغوي، والكتابي.
نعم، فلقد انتشر الخط العربي مع توسع الدولة الإسلامية، ويذكر لنا المؤرخون عدة لغات اتخذت من الخط العربي وسيلة للتدوين والكتابة؛ مثل اللغة الفارسية واللغة التركية.
لكن لا يحملنا هذا على الاعتقاد بأن الخط العربي هو أفضل الخطوط على الإطلاق، فالأمر لا يؤخذ جزافًا دون روية.
إن هناك شروطًا للخط الجيد عن غيره، نجملها في العرض التالي:
1ـ أن يمثل اللغة المنطوقة تمثيلاً جيدًا.
2ـ أن يكون دقيقًا؛ فلا يستخدم إلا حرف واحد لكل قيمة صوتية.
3ـ أن تكون الرموز الكتابية بسطة العدد والكيف؛ فيسهل حفظها واستخدامها.
4ـ أن توجد في النظام الكتابي رموز لكل العناصر التي تكون النظام الصوتي، والنبر، والتنغيم، والفواصل الصوتية.
ولا ندعي أن هذه الميزات برمتها متحققة في الخط العربي، لكن الواضح تحقق معظمها بشكل لا يقلل من مكانة الخط العربي، بل يرفعه إلى درجة عالية تفوق باقي الخطوط الأخرى التي تربو عيوبها وتزيد عن مزاياها؛ ففي اللغة الإنجليزية نجد الرمز الكتابي TH ينطق مرة مثل الذال وأحيانا مثل الثاء، وكذلك الرمز الكتابي S ينطق مرة مثل السين ومرة مثل الزاي، وهكذا.
ويحق للسائل أن يسأل هنا بعد ما سلف تبيينه: هل للخط العربي عيوب ومثالب؟ وتكون الإجابة بالإيجاب.
إن الكتابة من صنع الإنسان، وطالما أنها كذلك فمن السهل أن ينتابها بعض القصور والخطأ؛ لذلك لا يصاب من يقرأ أو يسمع عن عيوب الكتابة العربية الحزن أو الانزعاج.
ومن عيوب الكتابة العربية ما يأتي:
ـ خلو الكتابة العربية من رموز أساسية للحركات القصار: الضمة، والفتحة، والكسرة.
ـ شيوع الخطأ على مستوى الكلمة المفردة؛ فنجد من العرب من يقرأ الصيغ المكتوبة بشكل خطأ.
ـ شيوع الغموض في نطق كثير من الكلمات المكتوبة.
ـ شيوع الخطأ على مستوى الجملة؛ فالفاعل ينصب والمفعول يجر.
ـ صعوبة تعلم اللغة العربية للأجانب.
ـ وجود كلمات بها حروف تُنطق ولا تُكتب؛ مثل: هذا.
ـ وجود كلمات بها حروف تُكتب ولا تُنطق؛ مثل: عمرو.
التدقيق اللغوي: أنس جودة.