أحببت رسائل الأدباء والمثقفين، واطلعت على كثير منها مثل رسائل العقاد والرافعي ومي زيادة وغسان كنفاني وغادة السمان، ورسائل جبران وسواها، ذلك لأن الرسائل جزء لا يتجزأ من السيرة الذاتية لأي إنسان كتبت بظروف معينة، وتؤرخ لحقبة معينة أيضًا، إلا أنني وقعت على رسائل الرصافي مع معاصريه في كتاب شيق لكاتب اسمه عبد الحميد الرشودي جمع فيه 100 رسالة من أقارب وأصدقاء ومعارف الرصافي والكتاب يقع في مئتي صفحة ذيلها برسائل توثيقية بخط الرصافي نفسه صدر الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت في العام 1994، والرسائل تغطي الحقبة الممتدة بين عامي 1906 و1934م، كما وثق الرشودي الرسائل بإشارات وإيضاحات وتراجم للأشخاص الذين وردت أسماؤهم في الرسائل سواء أكانوا مرسلين لها أو مستقبلين لها، مع ذكر بعض الأسباب التي دعت إلى كتابتها أحيانًا، ولعل في تلك الهوامش من الفوائد ما هو أعلى قيمة أدبية من الرسائل نفسها حيث تجد الكتب المفيدة، وأسماء : الصحف والمجلات الصادرة في تلك الفترة مع التعريف بأساليب الأدباء آنذاك.

 

وأرى أن الرشودي قسمها باعتبارين الأول حسب تاريخ كتابتها والثاني حسب الأغراض التي تتضمنها لا سيما أن بعض الأغراض شغلت أكثر من رسالة واحدة مثل الرسائل التي كانت بين الرصافي ومظهر الشاوي وهو أحد أعيان بغداد على ما يبدو وقرر أن يجري راتبا لصديقه الرصافي بعد أن تنكر له من حوله، وبلغت به الحاجة مداها، كما شملت الرسائل السياسيين والوزراء والإعلاميين والأدباء والكتاب الصحفيين، وأصحاب المجلات والجرائد، والأصدقاء المقربين والمثقفين داخل العراق وخارجه، وتجلى بوضوح الرصافي الإنسان الذي يسعى بحاجة إخوانه من المحتاجين فنراه يشفع لدى موظفين كبار ومسؤولين في الدولة لذوي الحاجات من صغار الموظفين كموظفي البلديات والمعلمين في المدارس. وهو الأشد حاجة وفقرًا وبؤسًا أيضًا نراه يستجدي بطريقة تنم عن عزة نفس لأمر لم تعتد عليه، وإباء وعنفوان كبحت جماحهما ظروف المعيشة وتقلبات الزمان، فربما مدح أحدهم طمعًا في عطاء -ولو كان يسيرًا- على أنها ليست عادته كما يقول دائمًا في مكاتباته، كما أن لجوءه لمن يعهد فيهم المروءة والكرم والأريحية ممن يعرفهم ويتوسم فيهم ذلك من ذوي اليسار يدلنا على أنه رجل لم يتكسب بشعره إلا أنه احتاج، ما اضطره لعرض كتبه للبيع والنشر بأي شكل فكاتب المسؤولين لتسويق كتبه، وبيعها وهي مخطوطة، وراسل الصحف والمجلات التي كانت تصدر في دمشق والقاهرة وبيروت والقدس لعلها تنشر له فيكسب منها ما يسد رمقه، كما ناشد المسؤولين في وزارة المعارف والمالية بخصوص رواتبه ومستحقاته حينما كان على رأس العمل في القدس وبغداد لمراعاة ظروفه، ومن الرسائل ماهو استعطاف لمسؤول أو رجل دولة كالملك فيصل الأول بن الحسين ملك العراق يطلب الرضا منه بعد أن غضب الأخير منه لقصيدة قالها إبان سقوط حكومة الهاشميين في الحجاز وهي قصيدة مثبتة في ديوانه بعنوان(ثالث ثلاثة) وعرف عن الرصافي مناوئته لثورة الشريف حسين، وأكثر من رسالة ورد عليها دار بينه وبين طه الراوي أحد كبار موظفي الدولة آنذاك، كما أن بينه وبين عبد اللطيف المنديل رسائل أيضًا، وهو أحد أعيان البصرة، وأصله من أهل نجد، وكان وكيلًا للملك عبد العزيز في العراق كما عمل تحت إمرته في الأحساء وتربطهما درجة قرابة، ولعل الرصافي حينما اعتزل الحياة وقعد في الفلوجة آثر هذا المسلك بعد أن أحس بغربة روحية تخنقه بين أهله وذويه، وبينه وبين أبناء الوطن العربي الكبير الذين ما فتئ كثير منهم يكيلون له بالتهم التي تمس عقيدته أحيانًا، ومكانته الثقافية أحايين أخرى، كما أن من بين رسائله رسالة للشاعر جميل صدقي الزهاوي يتهجم فيها على الرصافي بعد أن ترجم الأخير رباعيات الخيام، وقد وقعت إثر ذلك خصومة بين الشاعرين، وتوسط بينهما كثير من أدباء ومفكري العراق والعالم العربي إلى أن انجلت تلك الغمامة في دار الأديب محمود الدفتري، كما أن هناك رسالة لـ [المس] "بل" وهي المستشرقة البريطانية التي كانت تخدم حكومتها في العراق ولها مذكرات حول ذلك، فسبق أن رحب الرصافي بالريحاني حينما حل ضيفًا على بغداد، وكأنه عرج على الاحتلال البريطاني للعراق ما أزعج [المس] بل أو [الخاتون] كما يسميها العراقيون، ورغم أن الرصافي تبوّأ مكان الصدارة في الأدب والشعر والصحافة، كما شغل مناصب عليا في مؤسسات الدولة إلا أنه عاش أقرب إلى الكفاف، وربما على صدقات المحسنين أيضًا رغم أنه كان يخفي ذلك، ويعاتب من يكتبون عن حاجته في الصحف حتى لو أنهم يقصدون مصلحته، وبالرغم من اختلافي معه في كثير من الآراء لا سيما ما كتبه في (الشخصية المحمدية) إلا أنني لا أنكر إعجابي به كشخصية مثقفة بارزة، وشاعر مبرز فذ، ولكن أن تكون رسائله في الغالب لشرح حاجته وظروفه، فهذا ما أحزنني حقيقة أن يحتاج شاعر أو مثقف أو أديب إلى معونة مادية ولا يجد من يقف إلى جانبه من حكومة بلده على الأقل، ما كنت لأرغب في قراءة مثل هذه الرسائل حينما أقارنها بما كتبه هذا العبقري، وكأن المجتمع يعاقبه على إخلاصه لقضاياه، وينتصر لفكره دون أن ينتصر لجيبه، ويجابه فلسفته ثم يحتفي به بعد موته، ألا تحتاج تلك الحكومات إلى وقفة صادقة مع النفس؟ كيف تحتفي بمفكريها بعد موتهم وتسجنهم في حياتهم؟

وعلاوة على شكري للرشودي على ما جمع من رسائل الرصافي العبقري، أشكره أيضًا لأنه شجعني على قراءة شعر الرصافي فهو الشاعر الذي يناكف المتنبي ويضارع المعري أستاذه، واقتفى الجواهري أثره في بعض قصائده، وإنني وقفت على بعض القصائد التي استفاد منها الجواهري فردد فيها بعض كلماته حرفيًا، ولا أنسى رسالته التي بعث بها إلى الجواهري بأبيات رائعة جدًّا جعلته في مصاف الشعراء الكبار وهو شاعر كبير بلا شك.

رحم الله الرصافي وتجاوز عنه.

 

 

 التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي.

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية