للتو فرغت من كتاب (حياة في الإدارة) لغازي القصيبي رحمه الله، صدر الكتاب عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت دون تاريخ، ويقع في 308 صفحات من القطع المتوسط، شدني جدا فيه أسلوب القصيبي الأدبي وبلغة هادئة سلسة شفافة، والكتاب جزء من سيرة ذاتية مكتظة بكثير من التفاصيل، فالقصيبي الذي ولد في الأحساء وتربي ودرس المراحل الدراسية ما قبل الجامعة في البحرين ثم غادر إلى مصر لنيل الإجازة في الحقوق ومن ثم بعدها حصل على البكالوريوس في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا، ثم حصل على الدكتوراه من بريطانيا، يرسم خطاً متوازياً مع الأحداث فلا يتذكر أشياء دقيقة عن حياته إلا بعد أكثر من خمس سنوات حيث فقد أمه وهو ما يزال رضيعاً فتربى في حضن جدته لوالدته يتيماً، ويسرد القصيبي أحيانا التفاصيل بلا طائل، ويدخل القارئ معه في دهاليز الوظائف التي تولاها، ويخرجه ليبقى على ضفاف الكتاب عن شخصية أشبه بالأسطورة.

 

تدرج الكتاب وإن كان هناك قفزات بين الفينة والأخرى تطفو على السطح فيستطرد بالحديث عنها ثم يعود إلى الموضوع الأساسي وينبه القارئ على ذلك، ولكن أستطيع بقدر من الاطمئنان أن أقف بالقارئ لهذا المقال على أهم مفاصل الكتاب، وتبدأ في انخراط الكاتب في الحياة العملية بدءاً من الجامعة في الرياض، وسنوات من الكفاح ضد البيروقراطية الجامدة، ولكنه ظل صلبا عنيدا ثم بدأت علاقاته تتوطد مع الأسرة المالكة منذ الملك فيصل حينما رشح اسمه لعضوية لجنة في مفاوضات لإنهاء الحرب اليمنية المصرية القائمة آنذاك، ومن ثم اتصل بالملك خالد والأمير فهد حينما كان وزيراً ووليا للعهد، وربما وجدوا فيه ضالتهم كشاب متحمس فاستفادت الدولة بلا شك من مواهبه، وتدرج في المناصب حتى أصبح وزيراً كبيراً وشاعراً وروائياً في الوقت ذاته، وفي الحقيقة التي لا جدال فيها أن القصيبي شخصية إدارية ناجحة في مقاييس ذلك العصر وفي مقاييس عصرنا الحالي بعد تقريبا مرور تسع سنوات على رحيله، شغل مدير عام سكة الخطوط الحديدية في الشرقية لمدة سنوات وأثبت فيها جدارة منقطعة النظير ثم انتقل بعدها وزيراً للكهرباء والصناعة، فعمل ما لم يعمله من سبقه وربما من أتى بعده أيضاً، حيث أنار مئات القرى بالكهرباء، وتعامل مع الأوضاع القائمة بدبلوماسية عالية، وبصدر رحب، وربما كونه قريبا من صناع القرار آنذاك كان سريع التأثير أكثر من سواه، وهو الذي يعترف بذلك، في كتابه فيقول لولا ثقة الملك فهد بما أقوم به، والصلاحيات الممنوحة لي من قبله لما نجحت في الوزارة، إلا أن ذلك لا ينفي عنه صفة الإصرار ومحاولة التجديد، ومأسسة العمل الحكومي الروتيني البارد، وقضى في الوزارة ست سنوات ثم انتقل بعدها إلى وزارة الصحة حتى صار نموذجا للوزير الناجح أينما اتجه وأصبحت فلسفته في الإدارة مثالاً يحتذى، لقرابة سنة ونصف قضاها في الصحة استطاع أن يطور القطاع من خلال جولات تفتيشية حرص عليها، ولم يكن وزيراً نائماً في مكتبه، بل كان يباشر كثيراً من المهام بنفسه، ويقف على كثير من دور الرعاية الطبية بنفسه. وله لمسات إنسانية تخطت حدود الوزارة وبقي أثرها خالداً بعد رحيله، كإنشائه أو مساهمته في إنشاء جمعية الأطفال المعوقين في المملكة، لمع كثيراً، وصار حديث المجالس حتى جاء القرار بفصله من الملك فهد نفسه، آثر بعدها الانزواء ليقوم مع زوجه برحلة إلى جزر هاواي والساحل الغربي والشرقي للولايات المتحدة وألمانيا واليابان، ثم جاء تكليفه بالسفارة في البحرين بناء على طلبه، وقام السفير الأديب بالسفارة على خير وجه حيث قرّب بين وجهات النظر بين الجارتين، ووضع بصمات ثقافية ربما أكثر من كونها سياسية لأن الوضع بين الجارتين ينعم بكثير من الهدوء والاستقرار منذ القدم.

وبعد ثمان سنين قضاها في البحرين، كلف بالسفارة في لندن وهنا ختم القصيبي كتابه ففي عام 1992 شغل منصب السفير في بريطانيا، وبقي فيها قرابة إحدى عشرة سنة، وهناك انبثقت رواية شقة الحرية أيضاً، وعدد من الكتب الأدبية شعرا ونثرا تربو على ستين مؤلفاً، ما زالت تركة عزيزة على قلوب قرائه ومحبيه.

ما يؤخذ على الكتاب برأيي المتواضع أنه سكبه دفعة واحدة فلم يفصل بين كل مرحلة وأخرى ولو بعنوان جانبي صغير فجاء أشبه بكتب الجاحظ وهذا لا يفتح شهية القراء كثيراً فالعناوين الجانبية لها دلالات فمثلاً هذا الفصل جدير بالقراءة أكثر من سواه، الأمر الآخر هو حديثه عن جزئيات في صميم عمل الوزير والسفير لاحقاً هو من باب التوضيح للقارئ ولا أنكر أنني استفدت منها كثيراً، ولكنها لن تؤثر لو صمت عنها، أيضاً ظهور الآخر أو المنافس أو الند كما يذكره دائماً، ويقصد أعداء النجاح الذين يتربصون به الدوائر، ويزعمون أنه رجل يعشق الأضواء، وإسهابه في الحديث عنهم في كل صغيرة وكبيرة، وهذا أمر طبيعي فلكل ناجح أعداء، وهو الذي استشهد بمقولة لمحمد الماغوط (ما من موهبة تمر بدون عقاب) ولكن أن يشغل الحديث عنهم جزءاً من الكتاب فأرى أنه بذلك مكّنهم من نفسه، وأنالهم حظوة وسلاحاً وأهمية لم يكونوا يحلمون بها حتى في كتاباتهم، وأراه ينحو منحى المتنبي في ذلك فيلقي اللوم على عاذليه وحساده، ومن يتتبعون أخباره ليفرحوا بسقطة له أو هفوة أو خطأ ما، وهذا تجلى واضحة في رسالته التي كانت سبباً في تسريحه من وزارة الصحة ولو لُفّت بعبارة (بناء على رغبته) إلا أنه يصر أنها قرار فصل بلا شك، وهذه الرسالة جاءت على هيئة قصيدة تحمل عنوان (رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة)، والتي قال في مطلعها:

بيني وبينك ألف واش ينعبُ ... فعلام أسهب في الغناء وأطنبُ

فالأنا المنتفخ عند المتنبي لامس رضاً وقبولاً عند القصيبي ربما، ليفسح المجال لأعدائه أن يتدخلوا ليس في حياته الإدارية، بل في كتابه أيضاً، فهو يصور المعارك التي يخوضها على الجبهة الداخلية على إثر صدور ديوان (معركة بلا راية)، وكيف يحاكم ديوان شعري على مستوى مجلس الوزراء، وتشكل لجنة لقراءة الديوان، وربما نال الديوان على أثر ذلك من الصيت والشهرة ما لم يكن يتوقعه صاحبه، ولا يخفى على قارئ الكتاب مدى الدهشة التي ستصيبه عندما يقرأ الكتاب من أسلوب الكاتب الواضح كالشمس السهل كالماء، والمتدفق كالشلال، فهو لا يجد أي غضاضة أو حرج حينما يتحدث عن أنه ليس موهوباً فقط الأقدار هي التي ساقت إليه الوزارة ثم السفارة، ولكنه في الوقت ذاته ليس بالقانع الزاهد الذي يصف لك أن الوزارة جاءت له قدراً "كما أتى ربَّه موسى على قدرِ"[1]، هو يقول إن العلاقات لها دور ولكنه ليس أكبر من الكفاءة والموهبة فالكفاءة مطلوبة، والتغيير مطلوب والتجديد أيضاً، لم يتحدث بمثالية زائدة، كما لم يتحدث عن نفسه بأنه لم يحب الأضواء كقناعة بعض المسؤولين وهم يخفون العكس، فالقصيبي وزير منفتح على العالم، استخدم الإعلام كوسيلة للتركيز على منجزات وزارتيه بينما ابتعد قدر الإمكان عن تصوير منجزاته كسفير في البحرين، فهو يقول إن الجالية السعودية في البحرين لا تتجاوز مئتي شخص، وأن الأمور بالأصل هي على ما يرام، ولا يدعي بأنه أضاف لها الكثير رغم كونه سبباً في عقد كثير من الاتفاقيات ناهيك عن دوره السياسي في حرب الخليج من خلال كتاباته بالطبع، وله كتاب من الأهمية الإشارة إليه وهو بعنوان (أزمة الخليج: محاولة للفهم) بالإضافة إلى مقالات جمعت في كتاب بعد وفاته بعنوان) في عين العاصفة)، بالطبع كتابه الذي بين أيدينا يؤرخ لفترة تمتد من الميلاد عام 1940 حتى تعيينه سفيرا للمملكة في لندن عام 1992، وأما ما بعد هذه المرحلة فقد عاد وزيراً للمياه والكهرباء ثم وزيراً للعمل حتى نهاية حياته، توفي في الرياض في الخامس عشر من أغسطس 2010 إثر مرض عضال عانى منه طويلاً.

وأنت عزيزي القارئ أرجو أن أكون لطيفاً في مقالي معك كيلا تسأم مما أكتب، فلست معنياً بالتفاصيل الدقيقة بقدر ما تود أن تكون فكرة عن كتاب صار جزءاً من الماضي.


[1] البيت لجرير يصف فيه عمر بن عبد العزيز وهو من شواهد النحو المشهورة لدى ابن هشام.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية