لقد مر "الطب البيطري" في مصر بمرحلة من الانحطاط والتدهور خلال العصر العثماني (923- 1220ه/ 1517- 1805م)، وذلك بعد مرحلة من التقدم والازدهار خلال عصر المماليك (648- 932هـ / 1250- 1517م)، وكان يطلق على هذا العلم خلال العصور الإسلامية السابقة على عهد محمد علي باشا اسم علم "البيطرة".
ولم يكن للعثمانيين في مصر وغيرها من بلدان الوطن العربي اهتمامٌ بالبيطرة والحيوان، لدرجة أنه لم يكن بمصر في نهاية القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر أطباء بيطريون للعناية بالحيوانات وعلاج المريض منها، بل كان العلاّف الذي يُلاحظ حيوانات المُلتزم هو بيطري القرية، وذلك لمعرفته بعض قواعد الطب البيطري. ولم ينشأ في مصر خلال هذا العصر حدائق للحيوان بمعنى الكلمة كما في العصور السابقة (المماليك والفاطميين والعباسيين)، ولم يجرِ التفكير جدِّيًّا في إقامة حدائق حيوان في القاهرة والإسكندرية إلا في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ولكن هذا التفكير لم يوضع موضع التنفيذ إلا في الربع الأخير من ذلك القرن في عصر أسرة محمد علي.
ولقد ذكر جرجي زيدان أن العلوم الطبيعية بشكل عام في مصر خلال العصر العثماني أُهملت إهمالًا شديدًا، ولكن الأزهر حافظ على العلوم الدينية واللغة العربية.
وقد استمر الحال على ذلك إلى أن تولّى الأمر محمد علي باشا الكبير (1220- 1261هـ / 1805- 1848م)، الذي استقل بمصر والشام والجزيرة العربية والسودان عن الإمبراطورية العثمانية بعد أن هزمها عسكريًّا، ثم تكالبت عليه الدول الأوربية آنذاك خوفًا من سُلطته واتساع دولته (وعوّدة شبح المماليك مرة أخرى)، فأضاعت عليه ثمرة انتصاراته وتجمّعت أساطيلها وجيوشها ضده، وأجْلت قواته عن بلاد الشام، التي كان يحكمها ابنه إبراهيم باشا، وقرّرت في معاهدة لندن سنة 1840م ألا يتعدى سلطانه حدود مصر لتحديد قوّته.
ولقد قام محمد علي بعمل إصلاحات عظيمة بالبلاد، مستعينًا بنُخبه من المستشارين والعلماء الفرنسيين، فتمتعت البلاد لأول مرة منذ أكثر من قرنين من الزمان بالأمن والاستقرار، واهتم بالريّ وحفر الترع وأنشأ القناطر فأينعت الزراعة، ونشّط التجارة واهتم بالتعليم، وأرسل البعوث إلى مختلف بلاد أوربا خاصة فرنسا؛ لتلقي العلوم، حتى إذا ما عادوا إلى مصر استغنى بهم عن استزادة عدد الأوربيين، كما عنيّ بأمور الصحة، وقام بإنشاء المصانع.
واهتم محمد علي اهتمامًا كبيرًا بالحيوان والبيطرة، ففي بدايات عهده ظهر وباء فتك بالكثير من الثيران (عددها بين 1000 و12000)؛ مما أدى إلى وقف عملية تبيض الأرز برشيد، ومن المعروف أن الثيران من الحيوانات الهامة التي كانت تُستخدم في الأعمال الزراعية، فقد قام بطلب من الحكومة الفرنسية لاستقدام طبيبين بيطريين لهذا الغرض فأرسلت إليه طبيبين بيطريين، هما: "هامون" و"بريتو"، الّلذان قاما بالسيطرة على الوباء، وقد اقترح هامون على المجلس الصحي/وزارة الصحة إنشاء مدرسة للطب البيطري برشيد بالقرب من مضارب الأرز، فوافق المجلس على اقتراحه، وعرض الأمر على محمد علي باشا، الذي أصدر أمره إلى المجلس للقيام بأعباء فتح مدرسة بيطرية على الفوّر برشيد يُجنّد طلبتها من مدرسة الطب الآدمي بأبي زعبل –التي أُنشئت عام ( 1242هـ/ 1827م)- ويُعامل طلبة مدرسة البيطرية مثل طلبة مدرسة الطب الآدمي من حيث المرتبة والكساء، والإنعام عليهم بنفس الرُّتب التي تُمْنح للخريجين، وقد فتحت المدرسة أبوابها برشيد عام 1827م، وهو نفس العام الذي أُنشئت فيه مدرسة الطب.
ثم طلب مسيو هامون نقل المدرسة البيطرية إلى جوار مدرسة الطب البشري بأبي زعبل؛ لسهولة الحصول على الأدوات المدرسية والمدرسين، ووجود معامل الطبيعة والكيمياء؛ مما يفيد الدراسة، وقد وافق محمد علي باشا علي هذا الطلب ووضع المدرسة تحت إشراف نجله إبراهيم باشا الذي كان منوطًا بتنظيم الجيش، وقد نُقلت المدرسة إلى أبي زعبل في عام 1831م، وجُهِّزت بشفخانات لعلاج الحيوانات ومساكن للطلبة والمدرسين، والتحق بها مائة طالب، واُستدعيّ لها ثلاثة أساتذة من أوربا، وقد وُزِّع خريجوها على فرق الجيش، وما كادت الدراسة تنتظم بالمدرسة حتى اقترح كلوت بك ناظر مدرسة الطب الآدمي على إبراهيم باشا إدماج مدرسة الطب البيطري بمدرسة الطب البشري للاقتصاد في النفقات، واستمرت المدرسة في موّقعها حتى نقل كلوت بك مدرسة الطب الآدمي بجميع مُعدّاتها إلى قصر العيني عام 1839م فانعدمت التسهيلات التي كانت سببًا في استمرار مدرسة الطب البيطري وتزعزع التعليم بها.
وفي سنة 1836م جُعلت مُدة الدراسة في هذه المدرسة خمس سنوات (قد تزداد إلى ست سنوات)، واُشترط أن يكون الطالب الملتحق بها حاصلًا على شهادة إتمام الدراسة الثانوية، أو أن يكون من خريجي مدرسة الألسن، وتناولت الدراسة التشريح والفسيولوجيا والباثولوجيا والجراحة والباثولوجيا الإكلينيكية والصحة والأمراض الباطنة والكيمياء والطبيعة وعلم الحياة والأقربازين (الأدوية) والعلاج، وكانت هيئة التدريس مُؤلَّفة من المدير مسيو هامون وخمسة أساتذة وأربعة معيدين واثنين من الخريجين واثنين من المترجمين إلى اللغة العربية وبيطار(طبيب بيطري)، وفي عام 1837م نُقلت المدرسة إلى شبرا، وضُمت إلى إسطبل شبرا، وأُلحق بها مستشفى (شفخانه) لعلاج الحيوانات المريضة، وظل هامون مديرًا لها حتى سنة 1840م، وفي عام 1839م ضُمت مدرسة الزراعة لمدرسة الطب البيطري، ثم عُين محمد بك أمين مديرًا لها من عام 1841م إلى 1842م، ثم محمد أفندي صبري من 1842 إلى 1849م. وبعد سفر مسيو هامون ساءت حالة المدرسة ووُضعت بعض التوّصيات لعلاج هذا الأمر، وكان من بين هذه التوصيات إبقاء الأستاذين "لافورج" و"لاتينيه" الفرنسيَّين في الخدمة؛ حتى يُستعان بهما في التدريس، ثم اختارت إدارة التعليم ستة عشر طالبًا من المدارس الثانوية لدراسة الطب البيطري وعُين الصاغ أحمد عشماوي ليشترك مع مسيو لاتينيه في إدارة المدرسة.
وفي سنة 1845 أُرسل طبيبان بيطريان في بعثة إلى فرنسا، وكان عدد الطلبة خمسة والأساتذة خمسة، وتألف مجلس من الأساتذة ومن الأطباء البيطريين المشهورين للإشراف على المصالح البيطرية والبيطريين بالجيش والمزارع الكبيرة. ولقد بقيت مدرسة الطب البيطري بشبرا حتى أُغلقت مع كثير من المدارس في أثناء حكم عباس الأول، ثم فُتحت ثانية لمدة قصيرة كمدرسة خاصة تابعة لمدرسة السواري أيام حكم الخديوي إسماعيل، ولكنها أُغلقت في عام 1881م بسبب الصعوبات المالية، وبقيت مغلقة حتى عام 1901م! حين صدر قرار في 23 مارس سنة 1901م بإنشاء مدرسة بيطرية بالقاهرة تابعة لمصلحة الصحة بوزارة الداخلية، وكانت مدة الدراسة بها ثلاثة سنوات، ثم زيدت إلى أربع سنوات في سنة 1905م، وفي سنة 1914م أُلحقت بوزارة الزراعة، ثم في سنة 1921م انتقلت المدرسة إلى مبناها الحالي بالجيزة، وهو المبنى القديم لكلية الطب البيطري - جامعة فؤاد الأول أو القاهرة حاليًّا، ثم في سنة 1923م ضُمت إلى وزارة المعارف، ثم في سنة 1935م ضُمت إلى الجامعة المصرية (فؤاد الأول) وأُلحقت بكلية الطب، ثم فُصلت عنها سنة 1938م وزيدت سنوات الدراسة بها إلى خمس سنوات في نفس العام.
ولقد عنِيَ محمد علي باشا بالحيوانات وبالثروة الحيوانية في مصر اهتمامًا كبيرًا، وكانت هذه الحيوانات ما يلي: (البقر – الثيران – الجاموس – الضأن- الماعز – الخيل – البغال – الحمير – الجمال)، وكانت لهذه الحيوانات أهمية كبرى في أعمال الزراعة والنقل، بالإضافة إلى أهميتها في الصناعة، فمثلًا: تُستخدم الضأن في صناعة الصوف واشتهرت البحيرة والفيوم والمنيا بأجود أنواع الصوف والمنسوجات الصوفية، ويُستخدم الماعز في دباغة الجلود، وتستخدم الجمال في صناعة الثياب والسجاجيد من أوبارها وكان يستخدم بعرها في صناعة الوقود وذلك بخلطه بالقش وتجفيفه في الشمس، وتستخدم جلودها في صناعة النعال والسيور، هذا فضلًا عن الألبان التي تنتجها هذه الحيوانات.
وكان محمد علي يهتم ببناء الإسطبلات التي تؤوَى فيها الحيوانات التي تُستخدم في الإنتاج، وتعتبر أعظم إسطبلات الإنتاج في مصر آنذاك هي الإسطبلات المخصصة لتربية الخيل، التي كانت تسد النقص المضطرد في الخيل اللازمة وتحسين أنواعها.
ومن المُلاحظ أنه بعد إنشاء مدرسة الطب البيطري المذكورة واهتمام محمد علي بالحيوانات والبيطرة بدأت المصنفات العربية الجديدة في علم الطب البيطري (البيطرة قديما) والحيوان تظهر مرة أخرى في مصر مع ظهور الأطباء البيطريون، وذلك بعد غيابها لمدة كبيرة جدًّا تكاد تصل إلى ثلاثة قرون منذ سقوط دولة المماليك.
وإذ ألقينا نظرة على العراق فنلاحظ أن الاهتمام بالحيوان والإنتاج الحيواني ظل كسيحًا طوال العصر العثماني حتى جاء الوالي مدحت باشا (1286-1289هـ / 1869-1872م)، والذي قام بعمليات التحديث والتصليح في العديد من المجالات وعلى رأسها المجال الزراعي ومجال الإنتاج الحيواني والطب البيطري مما أدى إلى انتعاشه في التجارة عن طريق تصدير منتجات الإنتاج الحيواني، وكذلك المنتجات الزراعية إلى الدول الأوربية والهند وموانئ الخليج والبحر الأحمر والدولة العثمانية.
المصادر والمراجع
1- (زيدان) جرجي، مصر العثمانية (أو تاريخ مصر في عهد الدولة العثمانية)، تحقيق ودراسة محمد رجب (القاهرة، دار الكتب والوثائق القومية، 2001م).
2- (إبراهيم) شحاته عيسى، القاهرة (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999م).
3- (الإسكندري) عمر و(حسن) سليم، تاريخ مصر من (الفتح) العثماني إلى قبيل الوقت الحاضر، ط2، القاهرة، 1996م.
4- مجموعة من الباحثين، الطب البيطري تاريخ ووثائق، جامعة القاهرة، 1998م.
5- مجموعة من الباحثين، حضارة العراق، جـ1، بغداد، 1980م.
6- (نُصير)عايدة إبراهيم، الكتب العربية التي نُشرت في مصر في القرن 19م، القاهرة 1990م.
7- (نظير) وليم، الزراعة في مصر الإسلامية من عهد الخلفاء الراشدين إلى عهد الثورة، القاهرة، 1969م.
التدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.