هاجس الناس وحديثهم في الجزائرهذه الأيام منصب فقط حول إستحقاق 8 أفريل القادم..ذلك أن التلاسن والتراشق الكلامي بين المترشحين والرئيس إرتفعت وتيرته، بل إن تهافت المشهد الإنتخابي بدأ منذ شرع بوتفليقة في تطبيق إستراتيجية "الصدمة والترويع" ضد خصومه..وكثير من الناس صاروا سكارى ومخذرين من إستعراضات بوتفليقة لمجموعة إنجازاته، ومن وقع التلفزيون الذي صار يتقن كل نظريات التأثير النفسي..فهل هذا كفيل -فعلا- بمبايعته لعهدة ثانية..؟ إن أكبر إستثمار في مجال التنمية-وهو بناء الانسان-ليس له مساحة أو موقع من الإعراب في أجندة الرئيس،وهذا الجانب بمثابة المركز وغيره الهوامش..وأي إهمال لهذا الأصل هو تكريس لمزيد من الإحتقان وتعريض البلاد الى مزيد من السقوط، والإنزلاق، والضياع ..لاغير..
أنظروا ماذا فعل الرؤساء وكل السياسات التي جاءت منذ الإستقلال في الجزائر..إهتمت بالإنجازات المظهرية ، وعملت على إرساء قواعد التنمية المادية والإنجازات القاعدية فقط،ولكنها أهملت -الجوهر الحقيقي -وهو الانسان الذي هو لب العملية التنموية..والنتيجة المحصلة بعد عقود من الزمن تمردات، وانتفاضات دراماتيكية بدأت منذ أواخر الثمانينات وتحول فيها الصراع الى مواجهة بين الدولة والمجتمع تحطمت فيها الكثير من الإنجازات المادية التي بنيت ،ومازال هذا الصراع يصيب بشظاياه الجزائريين الى حد الساعة..
عهدة بوتفليقة الأولى تميزت بإسقاط الطابوهات ..فلم تعد العربية لها قيمتها أمام ضرتها الفرنسية التي صارت لغة المجالس الرسمية، كما إنفرط عقد المنظومة الأخلاقية والقيمية، فإنتشرت الدعارة والتفكك الأسري ، وعمت البطالة والمخدرات بشكل مخيف، وتفشت ظاهرة الانتحاربشكل غير مسبوق، ومورس على المواطن الجزائري سياسية الإفراغ الحضاري وتجفيف ينابيعه، ولم يعد الجزائري هو ذلك الانسان الشهم الأصيل الذي يمثل التميز وإمتدادا لخط الشهداء والأسلاف،فضاعت صورته الجميلة التي رسخت في أذهان الكثيرين من شعوب العالم الثالث..
التقييم الحقيقي لا بد أن يبدأ من هذه النقطة، فبناء الإنسان هو من أكبر الإستثمارات على الإطلاق، والتنمية البشرية أهم من أي تنمية أخرى، والرهان الحقيقي هو على الإنسان فقط..أليس معجزة اليابانيين تجسدت في شعارهم الذي حققوه على الأرض "125مليون ياباني= 125 مليون مبدع" بعد أن إهتدوا الى نقطة الإنطلاق الأولى وهي بناء الإنسان..؟
لقد صارالإنسان عندنا في حالة كبيرة من البؤس ،فضاع منه الدين والدنيا معا ،وصارت هوايته تتجه نحو التدمير الذاتي وبمازوشية غريبة، أليس من يفقد التحصين النفسي والتربوي والأخلاقي، لا يمكن أن ينفع حتى نفسه،على إعتبار أن فاقد الشيء لا يعطيه..فضلا أن ينفع الآخرين؟
كرسي المرادية-القصر الجمهوري- لا يمكن أن يجلس عليه هذه المرة إلا من يحمل معه "فلسفة بناء الإنسان" كحجر أساسي في أي إنطلاقة تنموية ، أو إقلاع نهضوي، أو إقامة الجمهورية الثانية التي يحلم بها المصلحون ودعاة التغيير..فكفانا من التضليل السياسي..وكفانا من الكلام الإنتخابي المعسول..
إن الشعب مدعو في هذه المحطة الى الإرتقاء في نضجه،فلا ينخدع أمام المساحيق والماكياجات،وليخترمن يحرره من كل أشكال الإستلاب والضياع ،فالصوت أمانة سيسأل عنه الإنسان يوم القيامة..
..... فضيحة "المجلس الدستوري".....
ماالذي حدث وقد أشهد الرجل الأول فيه الله على أن تكون الإنتخابات المقبلة شريفة ونزيهة، فجأة تسقط هذه الشهادة في أول الطريق وتحت قبة المجلس الدستوري ،لتنكشف اللعبة المغشوشة ،وتنبعث رائحة "الشبهة" من هيئة صارت وظيفتها "تخييط" القرارات وفق أمزجة جهات وأطراف ،وليس لها علاقة بالدستور ولا بأدبياته المثالية في مثل هذه المحطات المصيرية..
إقصاء الدكتور طالب الإبراهيمي-زعيم حركة الوفاء- هو قرار سياسي ولا علاقة له بإخفاقه في جمع العدد الكافي من التوقيعات ،فالرجل معروف بشعبيته الواسعة ولا يمكن أن يغامر من أجل فضيحة تبقى تطاله وتفسد عليه بقية مشواره السياسي..
فضيحة "المجلس الدستوري" سرت كالبرق في أوساط الرأي العام ،وكانت مفاجأة وصدمة لم يستسغها المتعاطفون ولا حتى الناس العاديون، ولا المراقبون، بل أكدت مرة أخرى على أن هذه السلطة التي إغتصبت إرادة الشعب في بداية التسعينات، وزورت الإنتخابات المتلاحقة فيما بعد، لم تتطور في "فن الغش" ومازالت أساليب التدليس عندها من النوع البدائي المتآكل المفضوح والرديء جدا..ومثل هذا العمل القبيح لم يجلب لها -بطبيعة الحال- سوى المزيد من تذمر الناس وبغضهم وكراهيتهم لها...
إقصاء الإبراهيمي بهذه الطريقة السيئة هو في حقيقته إنتصار له ،فقد حرك هذا الظلم المسلط عليه تعاطف الناس معه ، فإزدادت شعبيته في الساعات الأخيرة بشكل ملحوظ، وتأكد للمراقبين ولدوائر التحليل أن "الإبراهيمي" مازال الشخص المخيف الذي يهدد الرئيس المرشح في عهدته الثانية، ويرعب السلطة التي لا تريد أن ينافسها إلا السنافير من حجم المرشح " فوزي رباعين"..
هل طالت يد "أويحي" و"زرهوني" الإنتقامية زعيم حركة "الوفاء" المحظورة الذي ظل يطالب بإبعادهما كضمان لنزاهة الإستحقاق القادم..؟ أم أن هذا الإقصاء هو مبدئي وقديم ،وتم التغافل عن الإبراهيمي عن قصد،ولم يشوش عليه وهو يجوب الولايات ويلتقي مع محبيه،لأنه يلعب في الوقت الضائع ليس إلا..وسيتم كنسه وطرده في المحطات القادمة...
والآن هل بقي من مذاق للديمقراطية التي عنها يتحدثون..؟وهل جاز لنا أن نقبل ما يقوله الآخرون "صدقت يا بوش وليبدأ مشروع الشرق الأوسط الكبير عملياته الإصلاحية ببلادنا أولا..."وهل نقول أن الانتخابات صارت محسومة الآن أكثر من أي وقت مضى..؟
..... العسكر والحياد الإيجابي.....
خرجة الرجل الأول في المؤسسة العسكرية بقدر ما أعادت فتح المشهد الإنتخابي المغلق ،إلا أنها جاءت في الوقت الضائع من دون شك..لأن الساحة السياسية خسرت منذ أيام شخصيتين ثقيلتين من حجم "حمروش" و"الإبراهيمي"بدواعي مريبة ومتعسفة ..فالأول إنسحب لشعوره بأن لا جدوى من هذا الإستحقاق بسبب هيمنة الرئيس المترشح على كل وسائل ومؤسسات الدولة من مال وإعلام وإدارة وقضاء وتسخيرها لصالحه من دون أن ينبس العسكر-الذي يفترض أن يكون حكما عدلا بين الجميع-ولو بكلمة أو تنبيه..والثاني بسبب إقصاء المجلس الدستوري له من السباق بتلك الطريقة المفضوحة التي أعطت الإنطباع بأن الإنتخاب القادم محسوم و"مخيط" تماما، وأن التزوير بدأ تدشينه من هذه الهيئة التي راحت تدوس الدستور في رابعة النهار،وقد جاءت أصلا لكي ترعاه وتحميه..
تدخل "الفريق العماري" قائد الأركان بالجيش الجزائري بهذا التوجيه الصارم أعاد فتح المغلق ، وأرجع الأمور الى طريقها السليم، كما لو أنه يريد أن يستدرك الأمر ويقول أن الأمور لا يمكن أن تتم وفق ما يهواه البعض ،وأن الجيش الذي هو خارج السباق ليس مع أي مترشح ولا ضد أي مترشح ،وأنه الآن يخرج الى الحياد الإيجابي ،وهو الحياد الذي يمتد الى الإدارة والى العدالة،والى أشياء أخرى، وأن الدفاع عن هذا الحياد الإيجابي هو واجب وطني مقدس..
المراقبون فهموا أن الجيش سيحمي العملية الإنتخابية هذه المرة بكل حزم وإصرار، بل سيضع حدا لكل المتلاعبين بأصوات الناس ولكل محترفي الغش والتدليس ،وأن الرئيس القادم لا يمكن أن يأتي إلا من صندوق شفاف وإرادة شعبية حقيقية تتطلع الى النهوض من كبوتها ، وتتهيأ للخروج من النفق المظلم بشكل نهائي..
تنبيه "قائد الأركان" الصارم بقدر ما أزال الشكوك والحيرة عن المتخوفين من لعبة " السطو والقرصنة " التي شهدنا الكثير منها في إستحقاقات سابقة، بقدر ما يحمل الوعيد لكل الطامعين في إتيان هذا الفعل المخل بالحياء ،والقادح في مثل هذا الحدث المصيري الهام لإبقاء "الشرعية"- وبشكل مستمر- موضع ريبة وإتهام من قبل الجميع سواء في الداخل أو الخارج..
الكرة الآن في شبكة السياسيين والمتنافسين.. والرهان الحقيقي سينحصر على مدى تجنيد الشعب لصالح هذا المترشح دون ذاك ، وتحسيسه بخطورة عدم تقدير العواقب من جراء عدم الإكتراث بمصيره وبما يحمله له مستقبله على المديين القريب والبعيد....فهل يتفطن الشعب ويمضي لتقرير مصيره ويحسن الإختيار الذي ينهي عليه مسلسل المآسي..؟ سؤال تبقى الإجابة عنه الى إشعار آخر..
..... العد التنازلي.....
مع بدء الحملة الانتخابية ونزول المتسابقين الى ساحات الشعب، يكون العد التنازلي قد بدأ لاختيار من يجلس على كرسي المرادية، ويتم مبايعته على السمع والطاعة لإنقاذ البلاد وإخراجها من جهنم الذي إكتوت بناره منذ أكثر من عقد من الزمن..
الرئيس المترشح الذي ملأ الدنيا ضجيجا في الأسابيع الماضية، بعد أن إحتل ساحات الشوارع واحتكر التلفزيون الذي صار هو الآخر يتفنن في تطبيق نظريات التأثير النفسي، ومارس نظرية "الصدمة والترويع" لإحداث الإرباك لدى خصومه ولدى شرائح الرأي العام في حملة انتخابية مسبقة كما لو أنه الرئيس القادم، يجد أمامه الآن إرمادة إعلامية يحركها متنافسون شرسون من حجم "بن فليس" ممثلا للوطنيين ، و"جاب الله" ممثلا للاسلاميين، و"سعيد سعدي" للديمقراطيين.. وظيفتها ليس لتدمير مابناه بوتفليقة والمتحالفين معه من قناعات في الاذهان، بل وبتحسيس الرأي العام بمخاطر العهدة الثانية على البلاد خاصة وأن الرئيس المترشح أخفق في عهدته الاولى ، وأن الاحتقان مازال يملأ أفق المشهد الجزائري حتى صار التعفن عنوانا عريضا للكثير من القطاعات.
بين هؤلاء المتسابقين إجماع على أن عهدة بوتفليقة كرست الأزمة الجزائرية أكثر من أي وقت مضى، و كان بإمكانه أن يفعل شيئا لصالح المواطن البسيط بحكم العوامل الموضوعية المتاحة له، و لكن بقيت دار لقمان على حالها، و ما زال المواطن ينتحر من الجوع ، في الوقت الذي يبذر فيه المال العام و بشكل لم يسبق له مثيل...
فإذا كان "سعدي" يشوش على الرئيس و يدفع القبائل إلى التصويت لصالح خصوم الرئيس.. و إذا كان جاب الله يحوز على جانب مهم من التيار الإسلامي سيصوت لصالحه، فإن الأستاذ "على بن فليس" يبد و أكثر حظا في مقارعة الرئيس و الإطاحة به ، خاصة بعد أن إنضمت إليه قاعدة "حمروش"وهو الشخصية الجزائرية ذات الشعبية المعتبرة و قاعدة أحمد الطالب الإبراهيمي ، وقاعدة "موسى تواتي"رئيس الجبهة الوطنية و "غزالي"رئيس حزب التنمية والديمقراطية ، و ربما جناح مهم إن ام بتطور الى موقف واحد من "الجبهة الإسلاميةة المحظورة"، و جمعيات أخرى من المجتمع المدني بدأت تغير وجهة ريحها من معسكر الرئيس إلى معسكر بن فليس و مفاجآت أخرى ستتوال على شاشة المشهد السياسي...
المهم إقتربنا من ساعة الحقيقة.. و لا نريد أن نسبق الأحداث .. و المطلوب أن يخضع الجميع لجلالة الديموقراطية ،و بكل روح رياضية و نصفق للفائز مهما كان لونه..
هذه هي نقطة البداية في مرحلة الجزائر الجديدة..
زين الدين بوحنيكة-