في تنقلاته الواسعة داخل محافظات القطر الجزائري أثناء الحملة الإنتخابيّة التي سبقت الإنتخابات الرئاسيّة في الجزائر وعد الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الفائز بعهدة رئاسية ثانية التي ستستمر إلى 2009 بترقية الوئام المدني الذي دشنّ به عهدته الرئاسيّة الأولى في سنة 1999 إلى مصالحة وطنيّة شاملة بل جعل المصالحة الوطنية الشاملة خيّاره الأساس والإستراتيجي لإخراج الجزائر وبشكل كامل من المحنة الدمويّة التي ألمّت بها من أزيد من عقد من الزمن . ولا شكّ في أنّ الشارع الجزائري منح صوته لعبد العزيز بوتفليقة لأنّه الأقدر حسب هذا الشارع على تنفيذ هذا المطلب الذي أصبح جماهيريّا , ولأنّه حققّ بعض الخطوات الناقصة في هذا الإتجّاه من قبيل العفو عن عناصر الجيش الإسلامي للإنقاذ الذين تخلوا عن الجبال وحملوا السلاح و إندمجوا مجددّا في المجتمع الجزائري والذي طالب أميره مدني مزراق بالتصويت بقوّة لصالح بوتفليقة الذي وكما قال يعتبر المصالحة الوطنية أهمّ بند في أجندته السياسيّة في المرحلة المقبلة .
وإذا كان عبد العزيز بوتفليقة وفي عهدته الأولى كان مرشّح المؤسسّة العسكريّة الأمر الذي جعله مهيض الجناح إلى حدّ ما محدود الحركة والمبادرة السياسيّة إلاّ في بعض المساحات , إلاّ أنّه اليوم أصبح مرشّح الشارع الجزائري بعد أن إلتزمت المؤسسّة العسكريّة الحيّاد وإلتزمت بوعدها بعدم التدخلّ لصالح هذا المرشّح أو ذاك وهذا يعطيه مزيدا من حريّة المبادرة و سعة في إتخّاد القرار الأمر الذي يجعله قادرا على ترقيّة الوئام المدني إلى مصالحة وطنيّة شاملة بعد تهيئة الشروط الموضوعية لمشروع المصالحة و إقناع كافة الأطراف بأن لا خيّار للجزائر غير المصالحة الوطنيّة .
و من شأن إيصال مشروع المصالحة الوطنية الشاملة إلى الحدود القصوى أن يجعل الجماعة الإسلامية المسلحة والجماعة السلفية للدعوة والقتال أمام خيارين لا ثالث لهما إمّا الدخول في حظيرة السلام والمصالحة الشاملة وإلقاء السلاح وإلى الأبد والشروع في بناء مجتمع مدني قائم على التفاهم والحوار أو الإنعزال والتقوقع في مساحات هامشية والتي تؤدي إلى التضاؤل والتلاشي .
كما أنّ المصالحة الوطنية الشاملة ليست مجرّد شعار يرفع بل هي إلتزامات و ممارسات قوامها رفع حالة الطوارئ وإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين و الكشف عن المفقودين وتعويض المتضررين كافة سواء الذين تضرروا من تعسّف السلطة أو المعارضة المسلحة ومن شأن إنصاف الجميع أن يجعل الجروح تلتئم بسرعة , و هذا التوافق الإجتماعي من شأنه أن ينعكس إيجابا على المسار التنموي والنهضوي والحضاري خصوصا وأنّ الجزائر تملك كل المقومات الأساسيّة لصناعة النهضة و الأرضية الطبيعية لبناء إقتصاد قومي متطوّر , غير أنّ العلاقة طرديّة بين الإقتصاد والسياسة فلا يمكن الحديث عن إقتصاد متطوّر ما لم يكن هناك إستقرار سياسي وبيئة متسامحة يتعاون فيها كل الفرقاء السياسيين بمختلف ألوان أطيافهم السياسيّة .
ولا شكّ في أنّ عبد العزيز بوتفليقة إستطاع أن يحققّ أربعين بالمائة من أحلامه السياسية في عهدته الرئاسية الأولى وهو قادر الآن أن يحقق كافة ما وعد به سياسيا وإقتصاديا , فعلى الصعيد السياسي فإنّ الجميع نضج سياسيا بما فيه الكفاية , وعلى الصعيد الإقتصادي فإنّ الخزينة الجزائريّة فيها أزيد من ثلاثين مليار دولار وهي كفيلة إذا أستخدمت في الإتجاه الصحيح أن تنعش الوضع الإقتصادي في الجزائر ولاشكّ فإنّ إتعاظ الجزائر من محنتها الماضية و إستحضار العبر السياسية كفيل بعصمة الجزائر من السقوط ثانية في مستنقع الدماء والدموع , ولا أحد في الجزائر اليوم يرغب في عودة مسلسل الدماء والتفجيرات .
إنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بات يملك اليوم كل أوراق القوة التي تؤهلّها أن يحدث النقلة المرجوة في الواقع السياسي الجزائري و البداية الصحيحة تكون بنزع ثوب العسكريتاريا عن الدولة الجزائرية وإلباسها لباسا مدنيا والإستعانة بكل الكفاءات السياسية والفكرية والإعلامية التي تؤمن بالجزائر والجزائر فقط وتحويل السلطة من دائرة العسكريتاريا إلى دائرة المدنية والعصرنة معناه إلغاء القهر والظلم والإضطهاد والإستضعاف والسرقة والإحتقار وهي المفردات التي ولدّت وأنتجت العنف الأعمى الذي عرفته الجزائر , فبالعدل وحده سيتمكن بوتفليقة من سدّ فوهات البركان التي إنفجرت في الجزائر وأمامه كل الحظوظ لإنجاح مشروع المصالحة الوطنية الشاملة و الصادقة ولهذه الأسباب منحه الشارع الجزائري صوته وهو الآن يراقب الأداء السياسي لبوتفليقة المطلوب منه تنفيذ وعوده العالقة في ذمته أمام الله والشعب الجزائري والتاريخ !!