تتوجت تصريحات بوش ووعوده باغتيال المناضل الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي. إن سياسة الإغتيالات جزء لا يتجزأ من المخطط الصهيوني الرامي لتصفية قضية الشعب الفلسطيني. ولعل اغتيالات القادة الفلسطينيين ما تزال ماثلة للأذهان وهي سياسة لم يتوقف عنها الكيان الصهيوني يومامنذ انطلاق الثورة الفلسطينية. ولكن الجديد في الأمر هو إعلان تصفية القضية الفلسطينية رسميا من خلال المجزرة السياسية التي ارتكبها بوش الابن بطريقة فجة وباستهتار واضح للقرارات الدولية. إن ما أقدم عليه بوش الابن لم يكن مفاجئا ولا يخرج عن السياق الأيدولوجي الذي يربطه ليس بشارون فقط وإنما بالكيان الصهيوني بصورة عامة. إن المشكلة ليست في بوش أو في شارون شخصيا وإنما تتعلق بالسياسة الأمريكية المرتبطة ارتباطا استراتيجيا بالكيان الصهيوني بغض النظر عمن يحكم في واشنطن أو في تل أبيب. بدليل أن المرشح المرتقب عن الحزب الديموقراطي (جون كيري) تلقف تصريحات بوش الابن فورا بعد دقائق مؤيدا ومباركا. إن وعد بوش هو الأخطر بعد وعد بلفور. إن وعد بلفور أقام الكيان الصهيوني وأما وعد بوش فيثبت الكيان الصهيوني في المنطقة على حساب الحقوق التاريخية والثابتة للشعب الفلسطيني فهو مرة أخرى يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق: لا عودة للاجئين ولا إزالة للمستعمرات ولا عودة لحدود الرابع من حزيران،ولا للقدس، فماذا تبقى للدولة الفلسطينية العتيدة؟
إن الإدارات الأمريكية المتعاقبة سواء أكانت جمهورية أم ديموقراطية قد تختلف عن بعضها البعض في السياسات الاقتصادية وفي السياسات الداخلية أو في السياسة الخارجية بعيدا عن القضية الفلسطينية والكيان الصهيوني. أما عندما يتصل الأمر بالكيان الصهيوني فكلا الحزبين الجمهوري والديموقراطي على السواء سياستهما واحدة في الجوهر لا اختلاف بينهما. فكلاهما يتسابقان على إرضاء الكيان الصهيوني بغض النظر أيضا عمّن يحكم في تل أبيب سواء العمل أم الليكود. ولكن الملاحظ هذه المرة أن التوافق بين بوش وشارون كامل بحيث لا تستطيع التمييز بين سياستهما فأيهما التابع وأيهما المتبوع وذلك بسبب الرؤية الأيدولوجية التي تجمعهما. إذن المسألة بصورة عامة ليست شخصية بقدر ما هي سياسة ثابتة ومستقرة في وجدان الإدارات الأمريكية كلها.
بهذه التصريحات والوعود والاغتيالات تسقط جميع رهانات المراهنين والمنظرين للعملية السلمية المزعومة والمسبحين باسم خريطة الطريق ليل نهار. لقد سقطت ورقة التوت التي تستر عوراتهم جميعا سواء كان هؤلاء في السلطة الفلسطينية أو خارجها. فماذا عساهم قائلين للشعب؟ ومع ذلك لا نستبعد أبدا أن يظل البعض من هؤلاء المراهنين يسوقون التبريرات تلو التبريرات والتفسيرات أيضا للإبقاء على حالة التشظي الذي تعيش فيها الحالة الفلسطينية. ولعل مواقف هؤلاء ومبادراتهم هي التي شجعت بوش على اتخاذ الموقف الذي اتخذه من باب القول: طالما أن بعض الفلسطينيين والعرب أعطوا هذه التنازلات في مبادراتهم فلم لا يعطيها بوش؟ ولم يكون ملكيا أكثر من الملك؟
والآن بعد هذه المجزرة السياسية التي أعقبت المجازر البشرية على الأرض ما الذي يجب على القيادات الفلسطينية عمله؟ بعد أن نشجب ونستنكر ونتظاهر ونعتصم يبقى السؤال الملح: ما العمل؟وما هي استراتيجيتنا في مواجهة هذا العدو المجرم الغاشم؟ ما المطلوب من جميع الأطراف الفلسطينية سلطة وفصائل على السواء؟
لعله من المفيد التذكير بالعوامل التي توحد الشعب الفلسطيني وتزيد من صلابته وصموده.
أولا، وقبل كل شيء، على السلطة الفلسطينية إعلان وفاة ما يسمى بعملية السلام وقطع الاتصالات المباشرة وغير المباشرة مع الكيان الصهيوني وإعلان المقاومة واستمرار الانتفاضة خيارا استراتيجيا لا رجعة عنه.
ثانيا، العودة إلى منظمة التحرير الفلسطينية وإحياء مؤسساتها في الداخل والخارج والعودة إلى ميثاقها بكل تفاصيله ليعود الإجماع الوطني الفلسطيني في فلسطين والشتات على الثوابت الفلسطينية.
ثالثا، يجب حسم الحوار الوطني الدائر منذ مدة طويلة لصالح الوحدة الوطنية والقيادة الوطنية الموحدة. إن المماطلة والإبطاء في ذلك يعتبر لعبا في مصير الشعب الفلسطيني لأن الظروف لا تسمح بأي تلكؤ أو مماطلة في ذلك. الكل مستهدف والقضية كلها مستهدفة. يجب الترفع عن سفاسف الأمور والانتباه للتناقض الرئيس مع عدو مجرم لا يرحم.
رابعا، إعادة فكرة الدولة الثنائية القومية إلى أدبيات النضال الفلسطيني. لم يترك بوش الابن وشارون للفلسطينيين خيارا آخر لأنه بات من المستحيل الرهان على خيار الدولتين. المسألة تجاوزت الحدود والمستعمرات وجدار الفصل العنصري والقدس واللاجئين. لقد أصبحت القضية الفلسطينية برمتها على مذبح بوش وشارون. ولذا يجب العودة إلى خيار الدولة الديموقراطية ثنائية القومية حيث يتساوى الجميع في الحقوق والواجبات.
خامسا، مواصلة الصمود الأسطوري الذي أظهره ويظهره الشعب الفلسطيني في وجه أعتى قوة للشر في العالم أجمع. ولتعزيز هذا الصمود يجب التوجه الصادق إلى البعدين العربي والإسلامي وليست عودة تكتيكية كما أرادها ويريدها المراهنون على "عملية السلام". والتوجه المقصود هنا إلى الشعوب وليس للأنظمة. لقد باتت الأنظمة في صف العدوان إما بصمتها أو بموافقتها الضمنية أو بتواطئ بعضها مع الإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني وكلها حزمت أمرها في الاصطفاف ضد شعوبها وطموحاتها.