على إمتداد سنيّ المنافي التي قضيتها في الأرصفة العربية والغربية أبحث عن وطن جميل ودافئ وآمن يعوضني عن وطن المليون والنصف مليون شهيد الذي خطفه أبناء فرنسا مني , كنت ألتقي بشخصيات عراقية فكرية وسياسية و مذهبية وعلمائية تنتمي إلى كل ألوان الطيف السياسي العراقي وكثيرا ما كانت عيناي تدمع لما ألمّ بالشعب العراقي من عذابات و جروح غائرة سببّها لهم الطاغية بإمتياز صدام حسين , وكل عراقي صادفته في المنفى كان يصلح لعمل درامي أو يصلح أن يتحول إلى قصّة مأساوية حزينة و العجيب أنّ طاغية العراق صدام حسين ألحق الأذى بجميع العراقيين كافرين ومؤمنين , حزبيين وغير حزبيين , إسلاميين و علمانيين , عربا وأكرادا , ولطالما بكيت عندما كان هذا المعارض العراقي يخبرني أنّ الأجهزة الأمنية العراقية كانت تجبره أن يزني بأخته , وذاك كان يتحدث عن إنتهاك عرض إبنته أمام ناظره , وقد حفظت عن ظهر قلب قصيدة الشاعر الرائع السيد داوود العطّار التي يقول فيها :
باقر الصدر منّا سلاما أي باغ ساقك الحماما
وكنت أصغي لهذا الطرف من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق , وذاك من حزب الدعوة سواء من الآصفي أو محمد باقر الناصر وحتى السيّد كاظم الحائري , كما كنت أستمع إلى شخصيات يسارية وأخرى وطنية , وكان يجمع بين كل المشردين العراقيين الذين إلتقيتهم في المنافي الهمّ الكبير والوجع الجبّار الذي سببّه لهم الطاغية صدام حسين , و كان الجميع خائفا متوجسا خيفة من مخابرات صدام حسين , فهذا محمد أصبح جعفر وذاك الجادري أصبح مدين و ذلك باقر أصبح عبّاس وهلمّ جرّا , ورغم أنّ التباين السياسي كان كبيرا بين كل ألوان الطيف السياسي العراقي وكانت كل الأطراف وحتى الإسلامية منها تتبادل الإتهامات بل حتى المرجعيات الدينية كانت مختلفة فيما بينها أيمّا إختلاف , فلطالما عانى محمد باقر الصدر من ظلم المرجعيات الدينية له ولعلمه ولإجتهاده إلى درجة أنّ البعض قطع عن الذين يحضرون بحثه الخارج راتب الطلبة من خمس الأموال , والبعض كان يتهم السيد الشيرازي مرجع منظمة العمل الإسلامي العراقية بالعمالة لبريطانيا و البعض كان يتهم الحائري بنكران مبدأ ولاية الفقيه , رغم هذه التباينات و الإختلافات بين المدارس السياسية العراقية إلاّ أنّها جميعا كانت تحلم بعراق جديد لا مكان فيه للخوف والطغيان والإستبداد , عراق يعود إلى عليّه وحسينه , عراق آمن تسخّر فيه طاقات الشعب العراقي الخلاقّة لبناء وطن لا مكان فيه للظلم و الإضطهاد .
وكنت أحلم مع إخوتي العراقيين بهذا الوطن وقد رفضت كل الدعوات الإعلامية التي وجهّت لي لزيارة العراق في زمن الطاغية صدّام حسين ولحدّ الآن لم أزر دجلة الخير أمّ البساتين ...
وقد حلمت مع إخوتي المنفيين العراقيين بوطن عراقي جميل ورائع لكن سرعان ما تبددّ الحلم .
فبعد سقوط الطاغية صدام حسين تمّ إختطاف العراق من زمانه ومكانه وحضارته , فقد قامت أمريكا بإختطاف العراق إلى وجهة مجهولة غير معلومة النتائج , وعملاء أمريكا الذين لم تنالهم حقيقة عذابات الطاغية صدام حسين خطفوا العراق من أيدي الذي قتلوا و أستشهدوا و تعذبوا و جرحوا وأنتهكت أعراضهم وسجنوا وقطعّت أنوفهم وآذانهم و أيديهم من خلاف , وكان يفترض أن يقود المجاهدون الصادقون العراق و الذين كانوا في الطليعة وليس أولئك الذين عاشوا بفضل مساعدات المؤسسات الإجتماعية في العواصم الغربية ثمّ ترقوا وباتوا يقبضون من المخابرات الأمريكية و عادوا إلى العراق على متن الدبابة الأمريكية لينصبوا زعماء على العراق الجديد .
إنّ الحلم الذي كان في صدر كلّ معذّب عراقي لم يتحققّ لحد الآن و قدر العربي والمسلم أن يحصد دائما الخيبة ويتجرّع المرارة , صحيح أنّ العراقيين اليوم تنفسوا حريّة التعبير و باتوا يتكلمون بصوت مرتفع , لكن الذي يقودهم أمريكا والذي يبيع نفطهم أمريكا والذي يغرس نخلهم ويقطف ثماره أمريكا والذي يحددّ السقف السياسي لهم أمريكا والذي يعبّد الطرقات في العراق أمريكا والذي يأمر أعضاء مجلس الحكم المحليّ اليتيم أمريكا , والذي يضع المناهج التعليمية أمريكا والذي يحددّ عدد الولادات والوفيّات في العراق أمريكا , والذي يرسم القضاء والقدر في العراق أمريكا , والذي تجري المياه وتمسكها في العراق أمريكا والذي وضع الدستور العراقي أمريكا والذي مكن للغة الأنجليزية على حساب اللغة العربية أمريكا , والذي يقتل أطفال العراق بدم بارد و يغتصب العراقيات المجلببات بالسواد في العراق أمريكا والذي يمسك بقمرة قيادة العراق أمريكا .
والله وتالله و بالله لم يكن هذا حلمي ولا حلم كل العراقيين المنفيين الذين
قاسمتهم شرب الشاي و أكل الباميّة , و لم يكن هذا حلم باقر الصدر وصادق الشيرازي و عبد العزيز البدري و عارف البصري و أبو مريم و غيرهم من الشموس الذين إستعاضت عنهم أمريكا ببعض العملاء وتريد إبرازهم كصنّاع لتاريخ العراق المعاصر !!!