الذي يغوص في قراءات ملفات ومذكرات قادة الأجهزة الأمنية الأمريكية السابقين والراهنين يتجلّى له بوضوح أنّ وكالة الإستخبارات الأمريكية لا تعنى بالملف الجيوسيّاسي و السياسي والإستراتيجي في العالم العربي و الإسلامي فحسب , بل تعنى أيضا بالملف الثقافي وهو يشكّل حالة مرصودة من قبل الأدوات الأمريكية في العالم العربي .
ومثلما تحرص مطابخ السياسة في هذه الوكالة على إنتاج النظم والتيارات السياسية , فإنّ هناك بالمقابل مطابخ تعنى بإنتاج الأفكار وضخّها إلى العالم العربي والإسلامي عبر قنوات متعددة ومتشعبة وللأسف الشديد لا يوجد لحّد الآن رصد علمي ودقيق لها لتحقيق مجموعة من الأهداف الضروريّة لتكريس الإستراتيجية الأمريكية . وهذا لا ينطبق على وكالة الإستخبارات الأمريكية فحسب بل إنّ المخابرات البريطانية تنهج نفس المسلكية بل إنّ أحد الخبراء ينقل أنّ هناك ملفات خاصة لدى المخابرات البريطانية بعنوان الذين يخدمون بريطانيا مجانا , و تضمّ هذه الملفات أسماء كتّاب ومثقفين من العالم العربي والإسلامي يكتبون في التيّار الذي ترتضيه بريطانيا , ولفرنسا أيضا نفس السياسة حيث أنشأت المنظمة الفرانكفونية العالميّة لإستقطاب كل الدول المستعمرة – بفتح الميم – فرنسيّا سابقا ورعايا هذه الدول المثقفين الفرانكفونيين الذين تخصّهم فرنسا بجوائز وافرة وعلى سبيل المثال لا الحصر فإنّ أحد فرانكفونيي الجزائر نال جائزة فرنسية مرموقة وهو صاحب مقولة مشهورة : يا محمد غادر الجزائر ذلك أنّ هناك أشخاصا يعتبرون الفرنسة أكثر أصالة من الإسلام في الجزائر !
و كأنّ الإسلام هو الذي تسببّ في كل معضلات الجزائر وليس الحركة الإستعمارية الفرنسية وإفرازاتها حيث قال الجنرال الفرنسي شارل ديغول وهو يغادر الجزائر في سنة 1962 :
لقد تركنا بذورا ستينع بعد حين في الجزائر , و هو ماحدث عندما إستولى أبناء باريس على مقاليد الأمور في الجزائر وأقصوا وإستأصلوا أبناء باديس من دوائر القرار والإدارة . كما أنّ السفارة الفرنسية في الجزائر ما فتئت تدعم الصحف الفرانكفونية و المؤسسات الثقافية التي تبنّت لغة موليير بدل لغة سيبويه وهناك رواتب ومساعدات تقدمّ للذين يلوكون لغة موليير و يكرسون الأطروحة الفرانكفونية في الجزائر.
و حتى لا أخرج عن إطار العنوان والذي حصرته في مثقفي المخابرات الأمريكية لا بد أنّ أؤجّل الحديث عن الرعايا الثقافيين للإرادات الإستعمارية السابقة إلى حلقات أخرى . ومبدئيّا يجب القول أنّ الإدعّاء بوجود مطابخ أفكار وتيارات ثقافية لدى وكالة الإستخبارات الأمريكية ليس وليد مبنى فكر المؤامرة أو مسلكية إتهام الغرب بكل صغيرة وكبيرة تحدث في العالم العربي والإسلامي , فهذا أندري تولي صاحب كتاب الجوسسة الأمريكية وهو من أكفأ ضبّاط هذه الوكالة , يشير إلى أنّ مقر وكالة الإستخبارات الأمريكية يضجّ بالعارفين بالفقه الإسلامي والثقافة العربية بل منهم من يتقن اللغة العربية , وهناك عدد هائل من العرب الذين يعملون مع هذه الوكالة , و المترجم الرسمي العربي والذي يترجم من اللغة العربية وإلى اللغة الأنجليزية يحصل على راتب مغري للغاية قد يصل في بعض الأحيان إلى 200 دولار في الساعة الواحدة .
و أتصوّر أنّ مهمّة نشر الأفكار الأمريكية في المحيط العربي اليوم باتت أسهل , فسابقا كانت تتمّ عبر بعض الصحف والمجلات التي كانت تتلقى دعما محترما من قبل الواجهة الخلفية في السفارات الأمريكية في العالم العربي - و لطالما كنت أتعجّب من رئيس تحرير إحدى الصحف العربية المشهورة و كان محسوبا على التيّار القومي و كان يذمّ أمريكا صباحا مساءا لكنّ السفير الأمريكي في الدولة التي يقيم فيها كثيرا ما يتغذى في مكتبه , ولا أحد نقل لي هذه الرواية بل كنت معلقّا سياسيا في هذه الجريدة -
واليوم بات لأمريكا إذاعات عربية وفضائيات عربية وصحف عربية يشرف عليها عرب لا يرون حرجا في خدمة الأطروحة الأمريكية بل يرون في ذلك حداثة وما بعد الحداثة و ليبيرالية جديدة و إنفتاحا على العالم و خطوات في الإتجاه الصحيح ويتهمون غيرهم بالجمود وقصر النظر والإعتكاف على الكتب البائدة .
وإذا أسقطنا منهجية بريجنسكي على التعاطي الأمريكي الأمني مع الخارطة الثقافية في العالم العربي فإنّه يتمّ كالتالي :
يبدأ الأمر بإحصاء عدد التيارات الفكرية والثقافية و حركة الإبداع في العالم العربي – لا حظ جيدا كيف كلفّت السفارة الأمريكية في القاهرة بكتابة تقرير مفصّل عن مسرحية ماما أمريكا لمحمّد صبحي –
ويجري تقييم هذه الأفكار والطروحات وحركة المسرح والمطبوعات بمختلف شقوقها – صرحّ مسؤول مكتبة الكونجرس الأمريكي وهو هيئة تشريعية أنّ كل الإصدرات التي تصدر في العالم العربي تصل إلى المكتبة بما في ذلك النشرة التي تصدر لعشرة أشخاص في العالم العربي فما بالك بوكالة الإستخبارات الأمريكية التي يحيط مركز الأبحاث فيها بكل صغيرة وكبيرة في العالم العربي .
وفي رصدها لهذه الأفكار والطروحات تدعم ما يتماشى مع سياستها و إستراتيجيتها و تجهز على ما لا يتفق معها بطرق خاصة , وإذا رأت أنّه من المناسب أن تخلق فكرة ما أو مذهبا فكريا ما وترسله إلى جغرافيتنا فلا يوجد لديها أدنى مشكلة في تعميم ذلك و تعويمه , والأغرب من ذلك فإنّ بريجنسكي قال إنّ الفكرة التي تخدم أمريكا فهي محل إحتضان أمريكي حتى لو كانت هذه الفكرة قومية أو يسارية أو إسلامية أو ليبيراليّة .
ومثقفو وكالة الإستخبارات الأمريكية العرب قسمان :
قسم متعامل بشكل مباشر مع وكالة الإستخبارات الأمريكية يتولى تعريب الأفكار التي تحرص أمريكا على رواجها في العالم العربي لدكدكة الحصون والمواقع تمهيدا لتنفيذ أجندة معينة , و ينضوي تحت هذا القسم مثقفون وكتّاب وإعلاميون وسياسيون ومراكز أبحاث ودراسات , وقد بدأ هؤلاء يقرّون بأنّهم يتشرفون بخدمة الإستراتيجية الأمريكية والتعامل مع المخابرات الأمريكية بل ويشيرون إلى تاريخ تجنيدهم والراتب الأول الذي إستلموه من هذه الوكالة و الميزانيات التي إستلموها .
والقسم الآخر هو القسم المتواطئ بطريقة غير مباشرة مع وكالة الإستخبارات الأمريكية و يمكن إعتبارهم من خدمة المشروع الأمريكي مجانا أو الذين تتقاطع أفكارهم مع ما تصبو إليه أمريكا .
وبناءا عليه وبعد تبيان القسمين , فما هو موقع المثقف العربي – وهنا بات مصطلح المثقف مشاعا ومظلوما تماما كلفظة فنان التي باتت تطلق على كل ذي عاهة في حنجرته – الذي يعتبر الإحتلال الأمريكي للعراق إحلالا , و الحركة الصهيونية حركة إصلاحية , و الإسلام الحضاري تزمتا وعنصرية , و محمدا رسولا معقدّا , و النص القرآني نسبيّا يمكن نقده وتشريحه برؤى العصر , و اللغة العربية جاهليّة , و المسلمين رعاعا , و الشارع العربي وكر ذئاب وجهلاء , و تحرير الأرض العربية وهما وخيالا , و المقاومة تراجعا و صبيانية , و الثقافة الإسلامية تخلفا وظلامية , و الفرائض الإسلامية طقوسا باليّة , و الكيان الصهيوني كيانا ديموقراطيا حضاريّا .
إنّها عينها البضاعة الغربية عاود ترديدها بعض مثقفينا الذين يشكلون الأقلية الإستئصالية التي تريد أنّ تكمل ما بدأته الحركة الإستعمارية تحت عناوين التنوير و الحداثة وما بعد الحداثة .
إنّ الثقافة التي لا تنسجم مع تطلعات الأمة و توجهات الشعوب و الموروث الحضاري للأمة لا يمكنها أن تحقق النقلة النهضوية المطلوبة في واقعنا , ورحم الله الأستاذ مالك بن نبي الذي كان يعتبر أنّ العدو الداخلي هو أخطر على أمتنا من العدو الخارجي !